أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
غالباً ما يتساءل بعضنا لأي امرأة يكتب شاعر الحب؟ وهل كل ما يكتبه هو لامرأة واحدة أم لنساء كثيرات؟ وهل امرأة القصيدة ابنة الواقع أم من نسج الخيال؟
لا بد من القول إن لكل شاعر “عبقره” الخاص، مثلما لكل شاعر مزاجه وطقوسه، وما يصحّ في هذا قد لا يصحّ في ذاك. لكنني أشير حصرًا إلى شعراء الحُبّ، وما هو مشترك بين هؤلاء رغم اختلاف الظروف والأزمنة ووقائع الحياة. بطبيعة الحال لكلٍّ خصوصيته لكنها خصوصية لا تنفي ولا تلغي المشترَكات الكثيرة بين شعراء الحُبّ على امتداد الزمان والمكان.
أستدرك بدايةً بأن شعر الحب هو عندي غير شعر الغزل. قصيدة الغزل تتغنى بشكل المرأة وجمالها الخارجي، وتصف مفاتنها ومكامن الجاذبية فيها. أما قصيدة الحب فتذهب أبعد وأعمق، تحتفي بالجمال وصفاته ومفاتنه، تُعلي شأن الأنوثة وتنتصر لها، لكنها تخاطب المرأة بوصفها إنساناً لا فقط أنثى، وتتوغل بعيدًا في استنباط كل ما يميز الحبيبة إنسانيًا وأنثويًا. والانتصار للأنوثة هنا ليس انتصارًا للشكل بقدر ما هو انتصار للجوهر، باعتبار الأنوثة تنبع أولًا من الداخل، وهي أكثر إلهامًا من الذكورة لأسباب كثيرة منها ذاك التماثل بينها وبين الطبيعة في تجددها وخصوبتها وتعاقب فصولها، وبوصفها مرحلة من الخَلق متقدمة بحسب الميثولوجيا الدينية التي تقول بأسبقية خلق آدم على خلق حواء!
استدراكٌ ثانٍ مفاده أن كاتب هذه السطور شاعر رجل، وبالتالي فإن جنس الكاتب لا يغيب عن خلفية كتاباته وفهمه للأمور وتفسيره لها. فالمرأة هنا هي الملهِمة. ولو كانت الكاتبة شاعرة لاختلف الأمر كليًا وصار الرجل هو الملِهم. فالمرأة الشاعرة لا تقلّ شأنًا ولا إبداعًا، لكن بوح المرأة ممتنع أكثر من بوح الرجل إذ لا نقع في الشعر العربي إلا على حالات نادرة واستثنائية من بوح المرأة الصريح ومجاهرتها بمكنوناتها تجاه شريكها في الحياة الدنيا، وذلك بفعل السلطة الذكورية والنظام الأبوي اللذين استطاعا، للأسف، وعلى مَرِّ العصور طمس صوت المرأة وقمعه بحجج وذرائع شتى بعضها يتهاوى ولكن ببطء شديد. ففي عصرنا الحديث حتى شاعرة وروائية طليعية ثائرة ومؤثرة مثل غادة السمّان نشرت رسائل الحُبّ العاصفة التي تلقتها من غسان كنفاني وأنسي الحاج، وأحجمت عن نشر رسائلها إليهما أو إلى سواهما.
ما عليه، المهم أن الأنوثة في مذهب شاعر الحب هي منبع الإلهام، حيث العالم كله يُرى بعين أنثوية، ويُنظَر إلى هذا العالم بوصفه رحمًا هائلة تتشكل فيها أجنّة كلِّ حياة. وما يكتبه في الأنوثة ولها لا يقتصر على الوجد والكلف بل يحيط بكل حالاتها لأن الأنثى تحضر هنا، كما أسلفنا، كإنسانة لا فقط كجنس، ويتسع معها شعر الحب ليغدو حبًا لها بكل صفاتها حبيبةً، أمًّا، زوجةً، ابنةً، صديقةً، وبكل أحوالها شابةً ممشوقةَ القوام أو سيدةً متقدمةً في السنّ، بكامل صحتها وعافيتها أو على فراش مرض وسقم، لأن الحب في منظور شاعره أعمق وأنبل من أن يكون وقفاً على مرحلة معينة أو ظرف محدد.
أما لماذا يكتب الشاعر لامرأة غادرت أكثر مما يكتب لأخرى أقبلت. فالإجابة واضحة جلية إذا فهمنا الفن عمومًا بوصفه نوعًا من التعويض عن نقصانٍ ما، أو عن خسارات وانكسارات وخيبات، وما أكثرها في الحياة، لا سيما لدى الشعراء بوصفهم أكثر حساسية وهشاشة.
وفق هذا المعنى للفنّ نستطيع أن نفهم لماذا يكتب الشاعر الخسارة والفقدان أكثر مما يكتب الانتصار واللقاء. فالشاعر حين يقع في الحب ينغمس فيه حتى أذنيه، ويعيشه حتى أقصى الشغف والجنون. بين الحب والكتابة عن الحب يختار الحب، بين القبلة ومجازها القبلة أكثر عذوبة واشتهاءً. يحدث أحياناً أن يكون الواقع أجمل من الخيال لكن الخيال الشعري يغلب الواقع بأنه يؤبِّد اللحظة الآنية. “فما نعيشه ونحياه في لحظات أو سنوات تمنحه القصيدة عمرًا لا نهاية له. كم من السنين أحبَّ المجنون ليلاه؟ أيًا كانت المدة الزمنية في الواقع، فإن قصائده جعلتها تبقى وتستمر وتتواصل عبر الزمن، والحالُ نفسها تَصحُّ في قصص حُبٍّ وعشقٍ على امتداد المعمورة باختلاف ثقافاتها وطقوس عيشها. بحسب محمود درويش فإن الفنون لا تنتصر فقط على الزمن، بل على الموت نفسه، إذ يقول في جداريته: “هَزَمَتكَ يا موت الفنون جميعها، هَزَمَتكَ الأغاني في بلاد الرافدين، مِسلَّة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبدٍ هَزَمَتكَ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك الخلود”.
تحقيق الغاية أو الرغبة يفقدها كثيراً من حوافزها. الخسران أشدّ دوافع التعبير، لو قضى قيس وطراً من ابنة عمه لما قال ما قاله على الأرجح. “المنع والحرمان أشعلا في جوفه نيران الشعر فتطايرت شررًا على هيئة قصائد حفظتها الأجيال المتعاقبة. وقديماً قالت العرب “كلُّ ممنوعٍ مرغوب”. عدم الوصول في الشعر أمتع من الوصول، متى وصلتَ تستكين وترتاح، بينما يولد الشعر من عدم الاستكانة، من القلق الذي عاشه المتنبي حتى ظنَّ الريح تحته. يَسْكُنُ الشاعر امرأة القلب لكنه يكتب امرأة الخيال. هذا لا يعني أن لا أثر ولا دور لامرأة الواقع (الحبيبة، المعشوقة، الزوجة) في ولادة القصيدة، على العكس تمامًا لا يستطيع الشاعر اجتراح قصيدة عشقٍ بلا امرأة تسكنه ويسكنها، لأنه ينطلق من مادة خام عمادها ما يعيشه ويختبره حقًا لِيحلّق في فضاءات الخيال الشعري المترامية. فالشاعر الحقّ متى كتب قصيدة حُبٍّ ظنَّ كلُّ عاشقٍ أنها كُتِبَت عنه ولأجله، وكلما اقترب الشاعر من ذاته كلما صار أكثر قربًا إلى قارئه”.
الخلاصة “أن لا فصلًا قطعيًا بين امرأة القلب وامرأة الخيال. جاء في القرآن الكريم “ومن آياته أنْ خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة…”(الرّوم، ٢١). السُّكنى والسَّكينة تبعثان في النفس كثيرًا من الطمأنينة والاسترخاء لكنهما تكبحان الجموح والتوثب، ولا توقدان نارًا في حطب قصيدة العشق المحتاجة شغفًا وشوقًا ولهفة، لذا تبدو المسافة ضرورية ومطلوبة بين كل حبيبين لِتبقى نار القلب متقدة فلا تخمدها مياه اللقاء. ألم يقل جميل بثينة: “يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعود”؟. إذاً، لا بد من مسافة، شوق، لهفة، احتراق ولهيب كي لا يموت الهوى وتموت معه قصيدته. كما أسلفت الشاعر يكتب لامرأة رحلت أكثر مما يكتبُ لأخرى أقبلت. مثلما يبكي الطفل أشياءه التي كسّرها بنفسه، يبكي الشاعر امرأةً خسرها محاولًا استعادتها بالمجاز والاستعارة”.
كأن قدر الشاعر أن يبقى في منزلة بين منزلتين، تشدّه جاذبية الواقع لأنه بشر أسوة بكل بني حواء وآدم، وتناديه أبالسة الخيال إلى جحيم الشعر ومجازاته. “فلا امرأة القلب تحلُّ مكان امرأة الخيال ولا امرأة الخيال تغني عن امرأة القلب، ثمة علاقة جدلية بينهما، وثمة مسافة دائمة بين المرأتين يحاول الشاعر ردمها أو جَسّرها بالشعر والقصائد:
في غيابكِ أرتدي عطرَكِ
ألوِّنُ الوقت وأغنّي
غيابكِ فراغٌ أبديٌّ
فجوةٌ في الدهر
لا يردمُها شِعرٌ ولا غناء”.
———
(*) ما بين مزدوجين من نصّ سابق للشاعر بعنوان “بين امرأتين”.