أثير- الروائي الأردني جلال برجس
تحدث (ماريو فارغاس يوسا) في بداية كتابه (رسائل إلى روائي شاب) عن شرط الميل الأدبي في الكتابة رغم غموضه، ودفع باتجاه أن ينحاز كل من يجد في دواخله هذا الميل إلى الأدب مهما كلفه ذلك، لأنه هو الطريق الأمثل للعيش.
السؤال الذي يلح عليَّ في معرض هذا الحديث عن نصائح الكتابة: كم كاتبا شابا وجد أن نصائح (ماريو فارغاس يوسا) لوحدها كانت كفيلة بأن تزج به إلى عالم الكتابة، وبالتالي النجاح فيها؟
في البدايات طلبت من الراحل مؤنس الرزاز نصيحة؛ فدفع بأن أقرأ المزيد من الإصدارات الأدبية، وبأن أؤمن بما أنا ذاهب إليه.
اعتقدت حينها أن تلك النصائح غير كافية لواحد مثلي يريد أن يتأكد من صوابه في اختيار الطريق التي يقف في أولها تتملكه الحيرة، والرغبة بالتراجع عن الإقدام على منطقة ليست سهلة على الإطلاق. وحين التقيت الروائي هاشم غرايبة في أواخر الثمانيات، سألته: ما الذي سيتبع روايات ما بعد الحداثة، وطلبت منه نصيحة تضيء الدرب أمامي. قال: إن مزاج ألف ليلة وليلة في الكتابة الروائية هو الذي سيصبح سائدًا بعد هذه المرحلة التجريبية، وإن ما من نصيحة أكثر فائدة من القراءة.
قرأت فيما بعد كثيرًا من الكتب والمقالات التي تقدم نصائح وإرشادات في الكتابة الأدبية، وحتى أنني سعيت إلى معرفة طقوس الأدباء، وكيف كانت بداياتهم. السؤال عن الكتابة سؤال عن أمر غير ثابت، ليس له قواعد محددة بشكل كامل، لهذا فإن النصائح ستكون على هذا المنوال نفسه، غير ثابتة. هي مجرد نصائح يمكن أن تنفع البعض، ويمكن ألا يجد البعض الآخر فيها ضالتهم، لكن تبقى الحاجة ملحة لما يشبه الضوء في الدلالة على الطريق، أين تقع، وأين بدايتها. أما المضي في الطريق فهذا شأن آخر، لأن المضي فيه لا يحتاج إلا للضوء الداخلي للكاتب، إنها حقيقة لا ثانية لها.
فمهما تسلح من قرر خوض غمار هذه التجربة بنصائح كبار الكتاب، وبعصارة تلك المحطات التي أفضت بهم إلى المضي والنجاح في الكتابة، لن يدله إلا مصباحه الداخلي الذي بطبيعة الحال هو الموهبة التي يتوهج نوره بزيت يتشكل كنتيجة حتمية للخبرة الحياتية، وخبرة الممارسة في الكتابة؛ فالنص الأول ليس هو النص الذي كتب بعد مضي عشرين سنة.
يبدو لي هذا الأمر أشبه بممارسة المشي منذ الخطوة الأولى التي عادة ما تكون مرتبكة، ومتهورة، ثم مع مرور الخطوات تصبح أكثر اتزانًا وقوة.
يرى الروائي المصري الكبير خيري شلبي في أحد حواراته، وفي معرض نصائحه للكتاب الشباب أن على الكاتب معاركة الحياة من كثير من الجهات، عليه أن يجرب الكثير من المستويات المعيشية، والمهن، والأماكن. عليه أن يعيش مثلًا شعور الخباز أمام الفرن في يوم صيفي حار. عليه أن يفعل ذلك ليس فقط ليربح الخبرة في الحياة، وينال القوة، إنما أيضًا ليكون صادقًا في رسم الشخصية والوصول إلى درجة كبيرة من الإقناع في كتابتها إن قرر ذلك.
ونحن في عز ثورة الاتصالات وما وفرته لنا من إمكانية الوصول إلى المعلومة كتابة وصوتًا وصورة، رأى البعض من الكتاب أنه من الممكن الكتابة عن مكان عن بعد مستعينًا بتكنولوجيا الاتصالات. ربما يحدث هذا، لكني أؤمن أن هذه التكنولوجيا غير قادرة على توصيل الذبذبات الأصيلة لروح المكان، وغير قادرة على إيجاد اللحظة الشعورية في التماهي بين الإنسان والمكان؛ لهذا ظهرت كثير من الروايات خاصة التي يكتبها الشباب مفرغة من روح أماكنها، وروح الشخصية، بل حتى من محتواها الأصيل، حين يتم التعامل مع مضامينها المعلوماتية وفق ما توفره تكنولوجيا الاتصالات.
تبدو لي نصيحة خيري شلبي، ونصائح آخرين من الكتاب صحيحة، لكن إمكانية تجاوزها، وعدم الأخذ بها تبقى في الحدود الاستثنائية والضيقة لإنجاز رواية مقنعة. هناك الكثير من النصائح والطقوس والمؤشرات التي يمكن أن يحاول الكاتب الاستنارة بها، لكنها لن تصنع كاتبًا بمفردها؛ فالكتابة موهبة، لكن هذه الموهبة تأخذ النسبة الأقل من جملة العناصر التي تقف وراء النجاح في الكتابة؛ إذ إن فكرة الوحي ليست إلا فكرة غنائية شعرية إذ ما انتبهنا إلى قيمة الاشتغال الجاد على النص وما قبله.
يقول (غابرييل غارسيا ماركيز) في مقابلة مع The Paris review (إذا كان علي أن أسدي لكاتب شاب نصيحة، فإن أول ما يخطر على بالي: اكتب عن شيء حدث لك، من السهل أن تعرف إذا كان الكاتب يكتب عن شيء حدث له أو عن شيء قد قرأه أو قيل له، يقول “بابلو نيرودا ” في سطر من قصائده “ساعدني يا الله، ألا أخترع وأنا أغني“.
يسعدني دائمًا أن غالبية الإطراء لأعمالي يكون على الخيال الواسع، في حين أن الحقيقة كل أعمالي لا تحوي سطرًا واحدًا ليس له أساس في الواقع، وهذا اللبس الذي يواجه القراء يحدث بسبب ثقافة الواقع الكاريبي الذي يجسد بطبيعته أغرب الخيالات).
الكتابة الأدبية بمختلف أشكالها ليست مستقرة، ولو كانت كذلك لما جنينا تعدد المدارس الأدبية، وكل تلك التطورات في الأدب. والنصائح ما هي إلا وجهة نظر من زاوية تخص فردًا واحدًا احترف الكتابة. يمكن لهذه النصائح أن تجد طريقها إلى كاتب شاب يستنير بها، ويمكن أن تفيد الكثير، لكن النصيحة الأهم برأيي لأي من هؤلاء الذين يقفون على مفترق طرق، ويفكرون بوضع القدم سعيًا للخطوة الأولى في الكتابة أن ينصتوا لصوتهم الداخلي، ويمضوا إلى الأمام على نور مصباحهم الداخلي أيضًا.