أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
تبدو فرصوفيا تحت الماء، كأنها تنام في قطرة مطر ملونة بشلالات من الأنوار. شاعرية عالية لولا الحرارة القاتلة في كل مكان من المدينة بعد تدمير التوازن الطبيعي بسبب الجشع البشري من خلال دوله القوية التي تتحكم اليوم في أنفاس الكرة الأرضية. لكن لا شيء يسرق جمال فرسوفيا التاريخية على الرغم من الحروب التي أصبحت لغة المنطقة بكاملها وتهددها بالحرق الكلي. زمن السلام الذي عرفناه مؤقتا لم يعد موجودا. انسحب مخلفا وراءه أمراء الحرب والقتلة الجدد الذين لا يبيدون البشر فقط ولكنهم يدمرون النسيج الحضاري للمدن ولسكينتها بعد أن تمّ تعوضها بالأحقاد الإثنية والدينية واللغوية والقوميات المرضية.
أتدحرج نحو كنيسة سانت كروا (الصليب المقدس). تندفع الأناشيد الجنائزية بقوة نحو مسمعي. أرى القطرات وهي ترتسم في خطوط مستقيمة تحت ضوء لمبات الساحة، والسيارات العابرة بسرعة، قبل أن تتحول إلى خيوط مشعة بعشرات الألوان المتداخلة. لا شيء في ذهني سوى ذلك القلب الغريب الذي استمر غير آبه بسلطة الزمن. قلب توقف في مكان، ونام في مكان آخر، وسُرق نحو مكان ثالث، قبل أن يعود إلى سكينته وصمته وترابه. قلب شُوﭘَانْ الذي استكان في 1849، وعاد في 2014.
فريديريك فرانسوا شوﭘان (1810-1849) مؤلف وعازف موسيقي عالمي، على البيانو، فرنسي، من أصول بولونية. أمه تقلى جوستينا كانت أيضا عازفة بيانو وسوبرانو بصوتها القوي. يكفي أن نعرف أنه ألف أولى موسيقاه: البولونية La Polonaise في سن السابعة من عمره (على صول مينور). في بيت حبيبته الكاتبة العالمية المعروفة جورج صاند، في نوهانت، ألف أغلب منتجه الموسيقي: البولونيات، المازوركا، والليليات. إنها الفترات الأكثر سكينة من مرض السل الذي ظل ينخر صدره إلى أن قتله. فقد منحته حبيبته فرصة أن يبدع وان يستفيد من شمس المدينة ونورها، لهذا صعب على محبيه تصديق وفاته. “مات، لكنه لم يمت”. هكذا يقول محبو هذا الموسيقي الاستثنائي الذي خذلته الحياة في وقت مبكر، لكنه قاوم جانبها المظلم وظل متشبثا بروحها المتعالية حتى النهاية، فألف في وقت قياسي عشرات المقطوعات الموسيقية ما تزال إلى اليوم خالدة، ومنها الليليات التي تشكل واحدة من أهم خصوصياته التي لم يجاره فيها أي موسيقي. ما يهمنا في الحقيقة ليس هذا، امر يعرفه كل مهتم بالموسيقى. قصة قلبه ورحلته بعد موته هي مركز حديثنا.
انطفأ شوﭘان في باريس في 17 أكتوبر 1849. لم يتخط عتبة 39 سنة. وكأنه كان يعرف بحاسته الاستثنائية أن ساعته الأخيرة قد اقتربت. في ليلة موته صرّح لأخته لودفيكا التي ظلت قريبة منه في عزلته وتخدمه بالخصوص في مراحل حياته الأخيرة حيث أصبح يعيش وحيدا، معزولا بعد انفصاله عن جورج صاند ذات المزاج الصعب، على العكس منه، أنه يشعر بحرقة في قلبه، وبضيق في صدره لدرجة الاختناق، وأن نهايته قد اقتربت. وصيته الوحيدة التي حملها غياها، هي أن ترحل بقلبه إلى بولونيا. ثم انتابه سعال عنيف، جاف وحاد متبوعا بسيول من الدم كانت تعلن أن مرض السل قد مزق صدره الهش، أوه كثيرا، قبل أن يستسلم للموت بعد رحلة طويلة مع مرض العصر الذي لم يكن رحيما معه ومع الكثير من مجايليه من الفنانين والكتاب. لم يصدق محبوه بأن رجلا بلغ سمو الألوهية بموسيقاه يمكن أن يموت؟ لكنه مات. لم تكن جنازته كبيرة، الأمراض المعدية كانت مخيفة بالخصوص في القرن التاسع عشر. العدوى كانت تعني الموت. دُفن في مقبرة بيير لاشيز Pierre lachaise المعروفة. وكان ذلك يعني أن جسده سيرتاح نهائيا هناك، مع أنه ظل يحلم بأن ينقل شيء منه إلى بولونيا نحو أرض مسقط الرأس والتاريخ الثقافي والموسيقي والعائلي. وكان على أخته لودفيكا الوفية لأخيها أن تقوم بتنفيذ وصيته للتخفيف عن منفاه الداخلي. قررت، بتواطؤ مع الجراح، بأن تنقل قلبه إلى أرضه التي ولد فيها، بولونيا. وعادة إرجاع عضو على الأقل للميت إلى أرضه كانت تقليدا دينيا يمارس استجابة للقديسين الذين يموتون خارج أراضيهم الدينية. نجد اليوم في بازليك القديس أوغوستين في مدينة بونا (عنابة، مسقط رأس القديس)، ذراع القديس المدفون في روما، الذي طالب به مونسينيور ديبوش، قس الجزائر الأول في الحقبة الاستعمارية. عندما انتزع الطبيب الجراح قلب شوﭘان، وضعته لودفيكا في إناء من الكريستال، صغير ملأته بالكونياك ليستمر طويلا. ثم أغلقته بمساعدة الطبيب بإحكام. وسافرت به نحو فرصوفيا عبر قطار ثقيل. وفي إحدى صلواتها، خبأته تحت أحد أعمدة كنيسة سانت كروا Saint – Croix في فرصوفيا. وظل هناك مخبأ حتى سنة 1944، إلى أن عثر عليه أحد ضباط ألمانيا النازيين السريين SS، وكان عاشقا لشوﭘان، فأخذه من الكنيسة، واحتفظ به في بيته. كان يفتخر بأنه “يملك قلب شوﭘان”. لم يكن أحد يصدّقه من أصدقائه ومحيطه. وظل هناك إلى أن عثر عليه الجيش السوفياتي بعد اقتحامه برلين، في بيت الضابط محاطا بالقداسة والعناية، محفوظا بأناقة، كتب تحته: “هنا يستكين القلب الذي لا يخبو أبدا”. وكان ذلك اكتشافا غريبا ومدهشا. كيف انتقل قلب من باريس حتى فرصوفيا حاملا حياة أخرى استمرت حتى بعد موته، قبل أن ينتهي به المطاف عند أحد النازيين؟ وبعد تحريات كثيرة ومحاولة التحقق تفاديا للسقوط في جنون وأوهام عاشق كبير للفنان، تأكد بالفعل أنه قلب شوﭘان، فأعاده الضباط الروس إلى مكانه في كنيسة سانت-كروا، حيث وضعته أخته لودفيكا أول مرة لتمنح روحه ما يكسر غربتها.
مر الزمن ونسي القلب هناك في قبو الكنيسة البارد والمظلم، على العكس من أحلام شوﭘان المحب للنور والحياة. إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان. وجاء الاهتمام هذه المرة من الأطباء، في إطار البحث عن ملابسات مرضه ووفاته. تفطّن الفريق الطبي في فرصوفيا، الذي كان قد قام ببحث طويل في أمراض شوﭘان، برئاسة البروفيسور ميخائيل وايت، Michael Witt. فقرر في 2008 فحص القلب للتأكد من أن سبب المرض ربما كان تلف الألياف والمجاري التنفسية والرئة، وهو ما يطلق عليه طبيا (ميكوفيسيدوز) لكن بدون جدوى، لأن ذلك كان يقتضي فتح الإناء الزجاجي ونزع قطعة منه للدراسة الجينية، مما كان سيتلف القلب. فكان رفض البلدية صارما. وأعاد الفريق الطبي المحاولة ثانية في 2014، وضمن عدم إخراج القلب من مكانه، باعتماد وسائل إشعاعية متقدمة. بعد الفحص، لاحظ الفريق بعض الآثار البيضاء والألياف، والتمزقات الصغيرة، كانت تبدو واضحة على غشاء القلب، ليقرروا بعدها أن موت شوﭘان سببه التهاب حاد لغشاء القلب، المتأتي من مرض السل الذي أصاب الرئتين. وأعيد القلب إلى مكانه، عند قدم أحد أعمدة كنيسة الصليب المقدس.
أي رحلة مدهشة لقلب لا يموت، أجمل حتى من الحياة التي عاشها شوﭘان مريضا عليلا ومعزولا. اختار أن يمنح مدينته الأولى، فرصوفيا، أجمل ما فيه، وأكثر الأعضاء حساسية وحبا، منبع الحنان والموسيقي: قلبه، ليعبر لها ليس عن وطنية ضيقة كانت طاغية ومدمرة في ذلك الوقت وهي التي كانت وراء انتشار النازية وأشكالها الشبيهة، وعن هوية مبتورة، ولكن حبه وذاكرته التي تأسست هناك، قبل أن تمنحه فرنسا الشهرة والامتداد الإنساني الذي يليق بقيمته.
يشكل قلب شوبان المرتحل كثيرا والمهرب بتواطؤ طبي، رمزية ليس فقط للحب، ولكن لقهر المنفى والأمراض والانتصار للجمال والموسيقى والأرض الأولى.