أثير- الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
الملاحَظ في الآونة ارتفاع وتيرة العنف في كثير من المجتمعات، إذ لا يمر يوم من دون أن يصلنا خبر عن جريمة قتل أو جريمة اغتصاب أو محاولة سرقة تنتهي بصورة مأساوية، فضلًا عن حوادث العنف الجماعي في هذا البلد أو ذاك.
واللافت أن الكثير من الجرائم الوحشية يستهدف النساء والأطفال بصورة خاصة، وغالبًا على أيدي ذويهم وأقربائهم، فضلًا عن جرائم أخرى كثيرة تتستر برداء العادات والأعراف والتقاليد، ويغيب عن بال مرتكبيها أن مَن يحق له المحاسبة في حال وجود جرم هي الجهات القانونية لا سواها.
السؤال البديهي الذي يخطر في بال المتابع لتلك الأخبار المؤسفة؛ هل نشهد ارتفاعًا في نسب المجرمين والجرائم، أم أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بات يجعلنا على بيّنة من حقيقة المجتمعات البشرية التي تقول الميثولوجيا الدينية بأنها بدأت بجريمة قتل حين أردى قابيل شقيقه هابيل؟
كلما تواترت أنباء الجرائم والانتهاكات تتبادر إلى ذهني الآية القرآنية الكريمة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة ٣٠.
هذه الآية تفسّر بعضًا من طبيعة النَّفْس البشرية الأمّارة بالسوء بحيث يبدو الإنسان في معظم الأحيان أكثر الكائنات توحشًا. لاحظْ مثلًا أن ثمة كائنات تقتات فقط على الحبوب وأخرى فقط على الأعشاب، وبينها مَن يقتات فقط على الفواكه، ولا يقتات على اللحوم إلا الحيوانات المفترسة وبعض أنواع الطيور، ونادرًا ما نقع على حيوان يفترس بني جلدته. أما الإنسان فيقتات على كل ما ذكرناه مجتمِعًا، يأكل الأخضر واليابس، ولا مانع لديه إذا اُضطرَّ من أكلِ لحم أخيه، (مَن يذكر الفيلم السينمائي: حُبّ البقاء).
صدق ممدوح عدوان إذ قال في كتابه “حيونة الإنسان”: “إن الذي حوَّل الوحوش الضارية إلى مخلوقات مسلِّية في السيرك، وجعل الفيلة تقف على رؤوسها، والأسود تقفز كالبهلوانات، قد اكتشف أنه يستطيع أن يجري التحويل نفسه على الإنسان، حوَّله إلى مخلوق مسلوب الإرادة”. وهذا بالضبط ما فعله الطغاة على مر العصور والأزمنة.
مذ وُجِد الإنسان على هذه البسيطة وهو يمارس يوميًا بالمعنى المجازي عملية أكل الإنسان؛ فالقوي يطغى على الضعيف ويسلبه حقه في العيش الكريم، وهذا حال الأفراد والجماعات والدول على السواء. التاريخ البشري مليء بالغزوات والحروب والنزاعات. الأمس القريب شهد حربين عالميتين قضى فيهما ملايين البشر، وأبيدت مدينتان بالقنابل النووية. اليوم وأمام أعيننا سقط ويسقط ملايين الضحايا في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال. فلسطين شاهدة دائمًا وشهيدة على مذبح توحّش النظام العالمي وما يسمى المجتمع الدولي الذي ينصب “خيمة زرقاء” فوق رأس إسرائيل التي تمثّل أبشع أنواع الاحتلالات على مرّ التاريخ.
قراءة التاريخ تجعلنا لا نستغرب ما نحن فيه من عنف يمتد على أرجاء واسعة من المعمورة التي تسعى “العولمة الآحادية” إلى فرض ثقافة واحدة وأسلوب عيش واحد على شعوبها كافة. الرأسمالية المتوحشة لم تترك لمعظم هذه الشعوب فرصة للنهوض والتنمية، أكملت ما بدأه الاستعمار المباشر من نهب لخيرات البلدان وثروات الشعوب، وها هي عبر شركاتها العابرة للقارات تستحوذ على مفاصل الاقتصاد العالمي وتتحكّم به، وتمارس دورًا أشبه بدور فتوة الحي الذي يفرض الخوات على أهل الحي مقابل حمايتهم المزعومة.
ولئن كنا لا نستغرب عنف الجلاد، أو عنف المسيطِر، فإننا نقف بذهول أمام تفاقم ظاهرة العنف الفردي، الذي يمارسه بشرٌ مستضعفون ضد بشرٍ مستضعفين؛ فهل الإنسان مفطور على الشرّ قبل الخير؟
تستوقفني كثيرًا الآية الكريمة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)”.الشَّمس ٨. لماذا قدّم سبحانه الفجور على التقوى؟ ألا يعني هذا أن النَّفْس التي قال فيها رب العالمين (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) يوسف ٥٣. تميل أولًا نحو الشرّ، وأن الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ما وُجِدت إلا لترويض تلك النَّفْس وكبح جماحها ولجم نزعتها نحو الإفساد وسفك الدماء والسيطرة والطغيان.
واضح أن النزعة الاستهلاكية في العالم المعاصر، قلبت سلّم القيم رأسًا على عقب، وجعلت الحاجات المادية تتقدَّم على كلِّ ما عداها من حاجات الإنسان الأخرى، ففي عقود منصرمة كان الفلاسفة والمفكرون والأدباء يمثلون قدوة لكثير من البشر، والفنانون من ممثلين ومغنين وموسيقيين وسواهم من مشاهير كانوا أصحاب موقف من شؤون الحياة العامة، ينتصرون لحق الإنسان في العيش الكريم، ويعبّرون عن رفضهم للظلم والطغيان، وكانت أجيال كثيرة تتأثر بأفكار هؤلاء وطروحاتهم. أما اليوم فالصدارة للمتطرفين لا للمتنورين. والتطرف يمثّله قطبان متضادان: “تطرّف ديني” تنشره التيارات الظلامية والتكفيرية التي تريد إعادة عقارب الزمن إلى الخلف، و”تطرّف مادي” تنشره ثقافة السوق (راجع مقالة الكاتب في أثير: بشرٌ أم زبائن في سوق العولمة؟) التي مسحت كل القيم الروحية والفكرية وأعلت شأن القيم المادية وفق ما يقتضيه منطق الاستهلاك ومصالح الشركات العابرة للقارات.
ما جاءت الأديان إلا رحمة للعالمين، وما وُلِدت الفلسفات والأفكار إلا لترتقي بالإنسان إلى أعلى، وما سُنَّت القوانين إلا لتروِّض نزعة الشرّ في النَّفْس البشرية. يقول الرسول العربي الأكرم “إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق”. متى انتفت الرحمة وتراجعت الأخلاق وطغت “القيم المادية” على القيم الروحية والفكرية من البديهي أن يزداد العنف وتكثر الجرائم، ويعود الإنسان إلى سيرته الأولى في الإفساد وسفك الدماء.
السؤال الأكثر إلحاحًا: هل تستمر الحياة على هذا النحو أم أن ثورةً ثقافية تولد من رحم هذا المخاض العسير الذي تعيشه البشرية، ثورة تروِّض نزعات الشرّ وتُعلي قيم الخير والعدل والرحمة وتكبح جماح الذين يقودون البشرية نحو الهلاك؟