الرجم في الإسلام
تساؤلات منهجية بقلم: سعود الزدجالي
سأحاول أن أكون موضوعيا في دراسة موضوع الرجم في الإسلام؛ لذلك فإنني سأصادق الحذر في الأحكام، وإنني إذّاك عوض أن أصدر حكما فإنني أطرح تساؤلات؛ تجعل الفاهمة الإنسانية تشتغل عليها؛ وعلى أقل تقدير فإن القارئ يتبين له تباعا عند قراءة هذا المقال والمقالات اللاحقة؛ أنني أسلك مسلك التوقف بشأن الرجم وهو مسلك أصولي؛ وفي السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الحركات الإسلامية اختزلت الشريعة في سمو معانيها في قضايا الحدود فحسب، وتجاهلت أن النص القرآني نص ينطلق وفق مقاصد كلية، لا بد من استيعابها لضبط القراءة التأويلية، كما أنه لا بد من الاعتراف أن ثقافتنا تعيش مآزق متعددة في التنظير، والاعتقاد، والممارسة، والعلاقة مع الآخر، وتتولد هذه الإشكالات من جدلية الغيب، والإنسان، والطبيعة، وقد لا نتجاوز الحقيقة إذا جعلنا الإنسان مفهوما ووجودا؛ القيمةَ الكونية المدركة، التي تجعلنا نراجع الحضارة الغربية حين استلبت الإنسانَ واختصرت مقومات وعيه ووجوده، لذا فإن تشكيل قراءة نقدية لتلك الحضارة عبر استيعاب مختلف طروحاتها يعد ضرورة منهجية، ولا سيما تلكم المتعلقة بالعلاقة بين الوجود والدين، كما علينا مراجعة معظم الدحوض، والنقود الموجهة إلى قلب اللاهوت وعمقه، والعقليات الإحيائية الإسلامية التي استلبت قيمة الإنسان وحيويته باسم الدين[1] كذلك؛ لا سيما في قضية الحاكمية التي جعلت سيرورة استلاب ممارسة الإنسان أدنى مستويات السيادة والتشريع بمنطق ما تفسر به الحاكمية الإلهيةوَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوْكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُصِيْبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوْبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيْرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُوْنَ.المائدة: ٤٩؛ فيظن الظان أن لا علاقة بين الإنسان والتشريعات، ولا قيمة للمؤسسات الدستورية التي يمكن أن ينظر إليها البعض تحت تسميات مجالس الشورى؛ باعتباره هامشيا، غير ملزم، وأن الاجتهاد لا يشتغل مع نص من الكتاب والسنة[2]، وقد تعدها بعض التيارات السلفية من قبيل البدعة الضالة المضلة.
سأحاول أن أكون موضوعيا في دراسة موضوع الرجم في الإسلام؛ لذلك فإنني سأصادق الحذر في الأحكام، وإنني إذّاك عوض أن أصدر حكما فإنني أطرح تساؤلات؛ تجعل الفاهمة الإنسانية تشتغل عليها؛ وعلى أقل تقدير فإن القارئ يتبين له تباعا عند قراءة هذا المقال والمقالات اللاحقة؛ أنني أسلك مسلك التوقف بشأن الرجم وهو مسلك أصولي؛ وفي السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الحركات الإسلامية اختزلت الشريعة في سمو معانيها في قضايا الحدود فحسب، وتجاهلت أن النص القرآني نص ينطلق وفق مقاصد كلية، لا بد من استيعابها لضبط القراءة التأويلية، كما أنه لا بد من الاعتراف أن ثقافتنا تعيش مآزق متعددة في التنظير، والاعتقاد، والممارسة، والعلاقة مع الآخر، وتتولد هذه الإشكالات من جدلية الغيب، والإنسان، والطبيعة، وقد لا نتجاوز الحقيقة إذا جعلنا الإنسان مفهوما ووجودا؛ القيمةَ الكونية المدركة، التي تجعلنا نراجع الحضارة الغربية حين استلبت الإنسانَ واختصرت مقومات وعيه ووجوده، لذا فإن تشكيل قراءة نقدية لتلك الحضارة عبر استيعاب مختلف طروحاتها يعد ضرورة منهجية، ولا سيما تلكم المتعلقة بالعلاقة بين الوجود والدين، كما علينا مراجعة معظم الدحوض، والنقود الموجهة إلى قلب اللاهوت وعمقه، والعقليات الإحيائية الإسلامية التي استلبت قيمة الإنسان وحيويته باسم الدين[1] كذلك؛ لا سيما في قضية الحاكمية التي جعلت سيرورة استلاب ممارسة الإنسان أدنى مستويات السيادة والتشريع بمنطق ما تفسر به الحاكمية الإلهية
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوْكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُصِيْبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوْبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيْرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُوْنَ
.
المائدة: ٤٩؛ فيظن الظان أن لا علاقة بين الإنسان والتشريعات، ولا قيمة للمؤسسات الدستورية التي يمكن أن ينظر إليها البعض تحت تسميات مجالس الشورى؛ باعتباره هامشيا، غير ملزم، وأن الاجتهاد لا يشتغل مع نص من الكتاب والسنة[2]، وقد تعدها بعض التيارات السلفية من قبيل البدعة الضالة المضلة.
وفي هذا السياق؛ يورد وحيد الدين خان في كتابه: (خطأ في التفسير) قول المودودي: (إن الإسلام هو نظام الحياة الذي يربط جميع قضايا الحياة الفردية والاجتماعية، وما بعد الطبيعية، وهو يعالج جميع تلك القضايا بما يطابق العقل والفطرة)، ولقد اعتمدت الحركات الإسلامية مثل هذه الأقوال، كافتراض مسبق محدِّد لعمليات القراءة السياسية؛ فتولد من هذه القراءة الدوغمائية فقه سياسي خاص يتسم بطابع الإقصاء، والتكفير، واتهام المجتمعات المثقلة بالفقر، والاستبداد؛ بتهم الجاهلية؛ لذلك يردُّ وحيد الدين خان على المودودي قائلا: (ليس من الخطأ أن نقول: إن الإسلام نظام حياة؛ ولكن رفع النظام حتى يصبح هو الجامع بين كل أجزاء الدين؛ فذلك هو الخطأ بعينه؛ إن الفكرة الجامعة لدى أنصار هذا الفكر هي أن النظام هو أصل المجموعة الدينية، بينما الأصلُ في الدين هو كونه عنوان العلاقة بين الرب وعبده، إن الدين ليس محض نظام دستوري قانوني وسياسي على غرار سائر الأنظمة الدنيوية، بل هو العلاقة النفسية للعبد مع الله، إن الدين عند تنفيذه يشمل عناصر كثيرة يمكن أن يطلق على مجموعتها بأنها نظام الحياة، ولكن هذا مظهر من مظاهر الدين وحقيقة من حقائقه؛ إنها حيثية إضافية من حيثيات الدين، وليست هي الحيثية الأساسية)[3]، لقد تشكلت هذه القراءاتُ والتفسيرات سياجا عنيفا شيّد حول ذات الإنسان المسلم، ونفّرته من الدين في أصله، وعلاقته بالله؛ لذلك فإننا عند دراسة موضوع كالرجم في الإسلام؛ لا بد من استيعاب أن الدين قد تحول إلى موضوع يدرس، وأنه لم يعد بمقدور الدين أن يحافظ على أصوله دون إضافة نكهات متعددة تكاد تغالب الأصول، وتزعزها، وتحل مكانها؛ فالدين من هذا المنطلق ظاهرة نفسية ذات طبيعة مركبة معقدة تجعل من العسير أن نرجعها إلى سبب واحد؛ فنحن لا نعرف الدين، أول ما نعرفه، مجردا وخالصا مما قد يحيط به من ظروف تاريخية؛ بل إنه ليظهر في أشكاله العالية العميقة، عبر ظواهر وضعية تختلف باختلاف الأحوال الاجتماعية[4].
إن أعظم الظواهر التشريعية التي تسترعي الانتباه في دراسة تاريخ التشريعات الإسلامية؛ ظاهرة الحديث النبوي، الظاهرةُ التي ولدت بمولد النبي بأسلوب انعكاسي (السير)، وببدء بعثته، أو مع نزول القرآن (أسباب النزول، والمخصصات، والمفسرات، والنواسخ)؛ لذلك إن أهم القضايا التي يمكن أن ندرسها ذلكم السياقُ التطوري للحديث والتشريعات؛ حيث إن شكله النقدي، قد جاء متأخرا عن ميلاده كمصدر من مصادر التشريع، في فترة غياب الوعي الكافي بأثر هذه التشريعات التي زاحمت النص الأصلي الأساسي، وهنا يجب التنبيه؛ بأنني لا أقلل من أهمية السنة النبوية في التشريع، ولكنني ألفت الانتباه إلى ضرورة استيعاب منهج نقدي حديث؛ يتوسل المناهج النقدية في تحليل الخطاب، والمناهج التاريخية لمتابعة التطورات اللاحقة على التشريعات الأساسية في القرآن، لا سيما تلكم التشريعات التي تتناول المفهوم المركزي للدين، وهو الإنسان؛ كتشريعات الحدود؛ يقول غولدتسيهر: (لم تندمج في الحديث أمور القانون والعادات والعقائد والأفكار السياسية، بل قد لُفّ فيه كل ما يملكه الإسلام من محصوله الشخصي، وكذلك الأمور الغريبة عنه، وقد غيّر هذا الغريب المستعار تغييرا أبعده عن أصله المأخوذ منه، وضمّ ذلك كله إلى الإسلام، فهناك جمل أخذت من العهد القديم، والعهد الجديد، وأقوال الربانيين، أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة، وتعاليم من الفلسفة اليونانية، وأقوال من حكم الفرس والهنود؛ كل ذلك قد أخذ مكانه في الإسلام عن طريق الحديث؛ حتى لفظ: أبونا، لم يعدم مكانه في الحديث المعترف به، وبهذا أصبحت ملكا خالصا للإسلام بطريق مباشر، أو غير مباشر تلك الأشياء البعيدة عنه)[5]؛ يعد هذا النقل مهما جدا؛ لأمور منها: أن المستشرقين على اطلاع واسع بنصوصهم الدينية؛ ليتمكن دارسوهم من عقد مقارنات بين نص الحديث، ونص التوراة والإنجيل، وكتب الأقدمين، وأنهم يسلكون في تلك الدراسات مناهج واضحة تتسم بنوع من الاستقلال؛ ولكن ذلك لا يعني أنني أنزه هذه النقول عنهم تنزيها كليا.
وإن مما يزيد القضية تعقيدا أن علماء الحديث، وحفاظه، ونقاده قد عمدوا إلى نظام أسطوري؛ يحيط أحكامهم، وروابتهم بنوع من التقديس، والترهيب؛ ضد من تسول نفسه ممارسة النقد المنهجي على تلك الروايات؛ فيعدون ذلك ردا للسنة النبوية، ويجعلونه قرين الكفر بالله، وما تزال هذه الطوائف التي لفت لفَّها تمارس هذه النزعة الأسطورية؛ وبالتالي فإننا نستطيع القول: إنهم قد نجحوا بذكاء في المحافظة على هذا الموروث الذي تمازج بشخصية الإسلام المفقودة، كانت هذه المقدمة ضرورة منهجية ليتموضع فكر القارئ في إطار القضية التي نضعها موضع الدرس والتمحيص. سأحاول جاهدا أن أضع القارئ في عمق تساؤلات حول تشريعات الرجم في الإسلام، ستكون هذه التساؤلات منطقية تحليلية لغوية، أو تاريخية، أو مقاصدية فقهية؛ لذلك، ولأن القضية تستوعب سلسلة من المقالات؛ فإنني سأبدأ بأهم كتابين من كتب السنة النبوية وهما: (أولا) صحيحُ البخاري؛ (ثانيا) فتح الباري شرح صحيح البخاري؛ للحافظ المتقن أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852هـ)؛ وقد بدأت بهذين الكتابين؛ لأنه قد تعالق في ذهن كثير من القراء أن الرجم ينطلق نقده من الآية المنسوخة تلاوة؛ والباقية حكما؛ وليس الأمر كذلك؛ بل إن الفقهاء يعتمدون في حد الرجم رواياتٍ كثيرة يعدونها من المتواتر القطعي؛ أو ربما عانق الخوف قلوبهم من رد هذه الروايات بسبب السياج الأسطوري الذي أضفاه المحدثون على مروياتهم؛ لذلك فإن الابتداء بصحيح البخاري، وشرحه عند الحافظ ابن حجر يعد أمرا منهجيا حسبما أراه على الأقل؛ وقد أخرج البخاري في الصحيح في كتاب الحدود باب رجم المحصن[6] أحاديث متعددة سوف نقف عليها بشيء من التحليل عبر القراءة التي قدمها الحافظ ابن حجر؛ ونلاحظ أن البخاري عنون الباب بــ(رجم المحصن)، والعنوان يستدعي تقدير محذوف، وهو: الزاني، والإحصان يأتي بمعنى العفة، والتزويج، والإسلام، والحرية[7].
وقد جاءت في الباب أحاديث أولها برقم (6812) وهو برواية الشعبي؛ يحدث”عن علي رضي الله عنه حين رجم يوم الجمعة، وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله”؛ وقبل إيراد الحديث النبوي الثاني في الباب؛ نريد أن نطرح التساؤل الثاني: إذا كان الرجم تشريعا نبويا قد مارسه النبي طيلة حياته في المدينة المنورة حتى أصبح معلوما لدى عامة الناس من أصحابه؛ وهو أعلى درجات التشريع إذ يتعلق بإنهاء حياة إنسان؛ فلماذا إذن يعلن أمير المؤمنين عند الرجم بقوله: قد رجمتها بسنة رسول الله وكأنه يبحث عن تبرير لفعله؟ هل يعني ذلك وجود شك أم اعتراض، أم تساؤل حول هذا الفعل التشريعي الممارس إذا ما وظفنا دليل الخطاب؟ إن القاعدة التشريعية والقانونية التي تتمثل في : (لا جريمة إلا بقانون) تستدعي البيان السابق على الجريمة، وليس اللاحق على فعلها؛ وإلا لكان هذا البيان مخالفا لأهم قاعدة أصولية فقهية فحواها: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما أن هذا المسلك يتجاوز النظام القرآني الذي يجعل البيان أساسا لتنفيذ الأحكام؛ إذ يقول الله: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا الإسراء: ١٥، وعليه، فلا يمكن للسلطة أن تؤاخذ إنسانا على فعله دون سابق بيان يصنف الفعل في الجريمة أو خارجها ووفق ضوابط وحيثيات تشريعية؛ إذ الحياة المدنية السياسية والاجتماع البشري يقتضي هذا البيان.
وقد جاءت في الباب أحاديث أولها برقم (6812) وهو برواية الشعبي؛ يحدث”عن علي رضي الله عنه حين رجم يوم الجمعة، وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله”؛ وقبل إيراد الحديث النبوي الثاني في الباب؛ نريد أن نطرح التساؤل الثاني: إذا كان الرجم تشريعا نبويا قد مارسه النبي طيلة حياته في المدينة المنورة حتى أصبح معلوما لدى عامة الناس من أصحابه؛ وهو أعلى درجات التشريع إذ يتعلق بإنهاء حياة إنسان؛ فلماذا إذن يعلن أمير المؤمنين عند الرجم بقوله: قد رجمتها بسنة رسول الله وكأنه يبحث عن تبرير لفعله؟ هل يعني ذلك وجود شك أم اعتراض، أم تساؤل حول هذا الفعل التشريعي الممارس إذا ما وظفنا دليل الخطاب؟ إن القاعدة التشريعية والقانونية التي تتمثل في : (لا جريمة إلا بقانون) تستدعي البيان السابق على الجريمة، وليس اللاحق على فعلها؛ وإلا لكان هذا البيان مخالفا لأهم قاعدة أصولية فقهية فحواها: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما أن هذا المسلك يتجاوز النظام القرآني الذي يجعل البيان أساسا لتنفيذ الأحكام؛ إذ يقول الله:
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
الإسراء: ١٥، وعليه، فلا يمكن للسلطة أن تؤاخذ إنسانا على فعله دون سابق بيان يصنف الفعل في الجريمة أو خارجها ووفق ضوابط وحيثيات تشريعية؛ إذ الحياة المدنية السياسية والاجتماع البشري يقتضي هذا البيان.
وتاليا؛ يمكننا أن نستخرج من هذا الحديث معنى آخر فحواه: أن عليا قد أعلن ذلك بسبب طائفة من المنكرين لهذا الفعل، بسبب انعدام وجود نص قطعي، وانعدام الإجماع؛ حيث إننا لسنا بحاجة إلى الإجماع بوجود نص تشريعي للرجم محكم البيان؛ لذلك نجد هذا الإحساس الذي تولد لدى القارئ متولدا داخل هذا الحديث، وعبر شروحه؛ فقد أورد ابن حجر قوله: “وقال ابن بطّال: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج، وبعض المعتزلة، واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج. واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم، وكذلك الأئمة بعده”[8]، وهنا لابد من الإشارة أننا ما نزال في القرن الأول الهجري، وأن هذا الفعل التشريعي حينما ينكر من طائفة هم أصحاب رسول الله؛ تحاول السلطة تبريره يجعل الشك في أنفسنا نحن الذين نبتعد عن القرن الأول الهجري بعدة قرون أكثر رسوخا. وإذا تجاوزنا هذه الإشكالات؛ فإننا سندخل في غيرها؛ حيث إننا أمام واقعة واحدة، وهي متمثلة في قيام السلطة بتنفيذ تشريع ينبغي أن يكون واضحا، وعليه فإن الحدث يجب أن ينقل إلينا غير مضطرب باعتبار وحدة الواقعة؛ هذه الوحدة التي ترفض تعدد الرواية؛ غير أننا نجد الأمر خلاف ذلك؛ إذ يورد الحافظ ابن حجر روايات متعددة تستوجب اضطراب النقل، ومن ذلك:
أولا: في رواية علي بن الجعد: “أن عليا أتي بامرأة زنت؛ فضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة” وقد أخرج الرواية أيضا النسائي؛
ثانيا: رواية الدارقطني إذ سمّى المرأة أنها شُراحة (بضم العين)، وقد فجرت، فردّها حتى ولدت، وقال ائتوني بأقرب النساء منها، فأعطاها الولد ثم رجمها، والرواية هذه عن الشعبي أيضا، وإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف يوفق بين (الضرب) في الخميس، والرجم في الجمعة وبين واقعة الزنا والمخاض وما بينهما من زمان؟ ولماذا لم (يضربها) وهي حامل مخففا كما فعل النبي؟ وكيف علم بالزنا هل كان بالإقرار، أم الإشهاد، أم الحمل؟ وأين الزاني بها؟
ثالثا: وفي رواية عن الشعبي أيضا قال: ” أتي علي بمولاة لسعيد بن قيس فجرت – وفي لفظ وهي حبلى – فضربها مائة، ثم رجمها” ولاحظ في هذه الرواية والتي قبلها استخدام لفظ: (ضرب) بدلا من (جلد) وفي الآية القرآنية:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ النور: ٢،
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا
كُلَّ
وَاحِدٍ
مِنْهُمَا
مِائَةَ
جَلْدَةٍ
ۖ وَلَا
تَأْخُذْكُمْ
بِهِمَا
رَأْفَةٌ
فِي
دِينِ
اللَّهِ
إِنْ
كُنْمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ
ۖ
وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
النور: ٢،
ثم انظر إلى أن المرأة (مولاة) لسعيد بن قيس، والولاء هنا على أقل تقدير شبهة فقهية تستدعي التساؤل وفيه خلاف حول مفهوم الإحصان عند الحنفية، والغريب أن علماء التحديث لا يقفون على الاضطرابات وقفة الناقد لها بقدر وقوفهم عليها وقفة المستلذ بنقلها وحفظها إشباعا لغرور المعرفة؛ ثم أين شرائط الإحصان في الفقه: الحرية، والعقل، والإسلام، والزواج الصحيح؟ وأين الهيئة القضائية عند المحاكمة والتنفيذ؟
رابعا: ذكر ابن عبدالبر عن الشعبي كذلك قال: ” أتي علي بشُراحة فقال لها: لعل رجلا استكرهك، قالت: لا، قال: فلعله أتاك وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعل زوجك من عدونا؟ قالت: لا. فأمر بها فحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس؛ فجلدها مائة، ثم ردّها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها”؛ فمن أين جاء علي بتشريع الجمع بين العقوبتين: الجلد، والرجم؟ وكيف نوفق بين هذه الرواية، ورواية : (فردّها) والواقعة واحدة؟
خامسا: وهي لعبدالرزاق؛ وعن الشعبي أيضا: “أن عليا لما وضعت أمر لها بحفرة في السوق، ثم قال: إن أولى الناس أن يرجم الإمام إذا كان بالاعتراف، فإن كان الشهود فالشهود ثم رماها” وتعين هذه الرواية أن المرأة رجمت بالإقرار بدليل ابتداء الإمام بالرمي، وهو يتناقض مع الحمل، كما يتناقض مع لفظ (أتي) مما يعني أن شخصا ما قد أتى بها؛ مما يدل على انعدام الإقرار، وكيف يتعين الإقرار والحمل أعظم برهان على الحمل؟
وربما كان البيان من علي بن أبي طالب تفسيرا لاعتراضات بعضهم على جمعه بين عقوبتين: عقوبة منصوصة في القرآن، وعقوبة منصوصة في السنة؛ فقد جاء عند ابن حجر عن الشعبي أيضا: “قيل لعلي جمعت حدّين” ولعمري إن جمع عقوبتين غريب جدا ولا يتوافق مع أصول الإسلام؛ لا في الحدود، ولا في الكفارات، ولا مع رحمة الشريعة ورفع الأغلال، وتزداد الغرابة في مثل أمير المؤمنين علي وهو علاّمة الصحابة في التشريع، وسياسي تولى الخلافة، ولازم النبي؛ لذا نجد استكمال الرواية عند عبدالرزاق: “أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة” وهذا الجمع بذاته يستوجب الشك من علي في مشروعية الرجم؛ لذلك اختلف الفقهاء إزاء هذا الفعل إلى مذهبين: الأول وهو لأحمد (في رواية عنه)، وإسحق، وداود، وابن المنذر؛ أن الزاني المحصن يجلد، ثم يرجم، ولا أدري بأي أصول أو منهج يتم الجمع بين حدين؛ لكل منهما شرائط وضوابط وحيثيات؟؛ والثاني وهو للجمهور إذ لا يجمع بينهما عندهم، وباعتبار هذا الحديث والحديث الآخر وهو حديث عبادة الذي يرويه مسلم: “الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة والنفي” فإننا نكون أمام أمرين:
الأول: أن الجمهور الذين لا يرون الجمع بين الحدين؛ يجعلون فعل علي مخالفا لظواهر القرآن، ومقاصد الشريعة، وهو دون الفهم الصحيح للتشريعات؛ لذا فإنني أستبعده عن عملاق الفصاحة والبلاغة والفقه علي بن أبي طالب؛ ويزداد الأمر سوءا أن السرخسي علل فعل علي؛ بأنه لم يكن يعلم إحصانها ثم علم فرجمها[9]؛ وهذا لعمري يعد فعلا شنيعا وهو تعليل باطل عقلا، وشرعا، وعرفا؛ إذ كيف يتصرف الإنسان في الحدود دون أدلة قاطعة، ويتجاهل قاعدة الدرء بالشبهات؟ ويتناقض مع الإجراءات الاحترازية عند الفقهاء التي تجعل من تنفيذ الحد مستحيلا؛
الثاني: أن الجمهور يعتقد أن الرواية وإن كانت في البخاري؛ فإنها غير صحيحة؛ بسبب الاضطراب والاختلاف في نقل حدث واحد، وبراو واحد على الأغلب وهو الشعبي
أضف إلى ذلك أن حديث عبادة به علل تتعلق بفصاحة النبي؛ إذ كيف يتم الجمع بين (الثيب بالثيب) و(البكر بالبكر) فما علاقة الثيب الأول بالثاني في واقعة الزنى؟ وعليه فإننا نجد الحنفية يفصلون في تطور التشريع في عقوبة الزاني بالآتي[10]:
أولا: أن حكم الزاني في الابتداء الحبس في البيوت والتعيير، والأذى باللسان بدليل قوله :واللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) النساء: ١٥ – ١٦
أولا: أن حكم الزاني في الابتداء الحبس في البيوت والتعيير، والأذى باللسان بدليل قوله :
واللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
النساء: ١٥ – ١٦
ثانيا: تطور الحكم بالنسخ بحديث عبادة أن النبي قال: ” خذوا عني؛ قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، وقد كان هذا كما ينص السرخسي قبل نزول سورة النور؛ بدليل قوله: خذوا عني، ولو كان بعد نزولها؛ لقال: خذوا عن الله تعالى؛
ثالثا: نسخ الأحكام السابقة بآية النور:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا
كُلَّ
وَاحِدٍ
مِنْهُمَا
مِائَةَ
جَلْدَةٍ
وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،
وَلَا
تَأْخُذْكُمْ
بِهِمَا
رَأْفَةٌ
فِي
دِينِ
اللَّهِ
إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ
،
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ النور: ٢، وقال السرخسي: ” واستقر الحكم على الجلد في حق غير المحصن والرجم في حق المحصن؛ فأما الجلد فهو متفق عليه بين العلماء، وأما الرجم فهو حد مشروع في حق المحصن ثابت بالسنة إلا على قول الخوارج؛ فإنهم ينكرون الرجم؛ لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن في حد التواتر، والدليل على أن الرجم حد في حق المحصن أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا بعدما سأل عن إحصانه، ورجم الغامدية، وحديث العسيف”[11] وفي هذا إشكالات منها:
وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
النور: ٢، وقال السرخسي: ” واستقر الحكم على الجلد في حق غير المحصن والرجم في حق المحصن؛ فأما الجلد فهو متفق عليه بين العلماء، وأما الرجم فهو حد مشروع في حق المحصن ثابت بالسنة إلا على قول الخوارج؛ فإنهم ينكرون الرجم؛ لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن في حد التواتر، والدليل على أن الرجم حد في حق المحصن أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا بعدما سأل عن إحصانه، ورجم الغامدية، وحديث العسيف”[11] وفي هذا إشكالات منها: