يكتبها : بدر العبري
حدث لاحقا تطور بمصطلح الرأي كجانب تفريقي بينه وبين الدين، وهذا في الأصل باعتبار الدليل، هل هو قطعي أو ظني، لاحتمال عدم ثبوت الدليل الظني، وبالتالي يسع التعامل معه، ودائرة الخلاف فيه مقبولة.
والدليل القطعي في كثير من الأحيان تكون دلالته ظنية، وبالتالي نفسه سيفتح بابا واسعا من الخلاف والتأمل والنظر، والنتيجة ستتعدد الآراء حوله وتتنوع، ليشكل رافدا معرفيا ممتعا.
وهذا التفريق المنهجي كان كفيلا بحفظ دائرة الجماعة المؤمنة، وتشكيل جو من الخلاف الجماعي المفيد، والمكون لمدرسة تعددية تسهم في الرقي بالفكر الإنساني، تحت مظلة الأدبيات القرآنية في الخلاف، واحترام كرامة الإنسان.
ولكن سنجد هذا الخط الرفيع من احترام التعددية سينحرف في العديد من المجتمعات الإسلامية، وسيتحول الخلاف حول الأدلة الظنية، أو ما يدور حول الدلالة الظنية وإن كان الدليل قطعيا، فستتحول هذه الاستنتاجات إلى عقائد يفسق من لا يأخذ بالمعتمد حينها، أو يصل في كثير من الأحيان إلى درجة العقائد التي لا يسلم المخالف أحيانا حتى من التكفير.
بل ستظلم مدارس إسلامية طول التأريخ بسبب الخلاف حول قضايا فرعية لم تكن معهودة في بداية الدعوة الإسلامية، كما حدث عند قضية خلق القرآن ونحوها.
فمثلا قضية مسح الخفين مع كونها قضية فرعية سنراها تدرج ضمن كتب العقائد، بل وصل الحدّ في بعضهم إلى تكفير ممن يقول بعدم ثبوتها وسنيتها؟
كذلك قضايا كثر الجدل حولها كقضايا الصفات وعذاب القبر وأشراط الساعة والميزان والصراط والمعراج، سنجد هذه المسائل الفرعية تجعل من أصول الدين، والتي يصل المخالف إلى التفسيق بل وإلى التكفير في العديد من الأحيان.
وهكذا الحال في قضايا الإمامة ومع كونها شورى بين العباد سنجد الصراع السياسي، والذي سيتحول إلى نص إلهي حول الأمويين ومعارضيهم، فمن نصوص القرشية إلى نصوص الوصية لآل البيت، بل لم يتوقف الأمر عند علي وابنيه الحسن والحسين بل هو ممتد إلى خروج المهدي المنتظر من سردابه، وهذه ستتحول إلى عقائد ليجني العالم الإسلامي إلى اليوم نتائج هذا الصراع؟!!!
وعليه ابتعد المسلمون في حقيقة الأمر عن الجوهر القرآني في أدبية الخلاف، وإذا تأملنا في القرآن الكريم سنجد روح الاختلاف ليس فقط في قضايا الرأي بل حتى في قضايا الدين، وهذا سيتجلى في عدة مظاهر منها: احترام معتقد الآخرين، وعدم جواز سب موروثاتهم العقدية والعملية، فضلا عن سب المنتسبين إليها، والمتمسكين بها، يقول – تعالى -: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وإذا كانت هذه المنهجية طُبّقت نوعا ما مع اليهود والنصارى، إلا أنّها للأسف فُقِدَت بين غالب المدارس الإسلامية؛ بل وأحيانا بين المدرسة الواحدة، بل وفي قضايا فرعية، وتحت أدلة ظنية في كثير من الأحيان.
وهذه الآية يمكن اعتبارها قاعدة في احترام رأي الآخرين، ولو كان مخالفا كليا لمعتقد المسلمين، فلماذا لا تُجعل قاعدة بين المدارس الإسلامية؟ وهي متفقة في غالب تصوراتها العقدية، فضلا عن اتفاقها في الجانب الفقهي العملي.
ومن المظاهر أيضا أدبيات الدعوة إلى الإسلام إنّما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يجوز إكراه أحد للدخول في دين الله، يقول – تعالى -: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، ويقول أيضا: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، فإذا كان من لا يعتقد بأصول الدين رأسا لا يجوز أن يُكره للدخول في دين الله، فكيف بمن كان مسلما! يؤمن بأصول الدين، كيف يجبر ويكره على تغيير مذهبه وفكره ليوافق مذهبا آخر، ولينضم إلى مدرسة أخرى غير المدرسة التي ولد وترعرع فيها، فهو داخل في دائرتها إمّا عن اقتناع، أو بسبب البيئة، أو لأنّه ولد من أبوين أو أحدهما كان منتسبا إلى مدرسة معينة، ومع هذا لا يجوز أن يجبر للخروج من مدرسته، ويجب أن يحترم، ويعتبر مسلما كأيّ مسلم في العالم ما دام مقرا بأصول الدين وأركانه، ولم ينكر شيئا مما يلزم اتباعه بالضرورة، وفي الوقت نفسه له الحرية في الدخول في مدرسة أخرى، ما دام مقتنعا بتلك المدرسة، ولا يجوز لأتباع مدرسته الأولى أن يعتبروه مرتدا له حكم المرتدين.