الأولى

الباحث السوري محمد حسن يكتب: نظرة ذاتية لاختلال العالم

نظرة ذاتية لاختلال العالم

محمد حسن - باحث سوري

عند سقوط جدار برلين اجتاحت العالم موجة من الأمل بأن انتهاء المجابهة بين الغرب والاتحاد السوفياتي كان يحمل بين ركام حطامه بذور انتشار الديمقراطية التي ستعم أرجاء المعمورة بمجملها، وأنّ الحواجز ستزول بين مختلف أصقاع الكرة الأرضية، وأن انتقال الناس والسلع والصور والأفكار سيتطور دون عوائق. لقد تحققت بضع خطوات في كل من هذه الميادين لكننا كنا نزداد ضياعاً كلما ازددنا تقدماً.

إذا كانت أوروبا تعرف تماماً من أين أتت، وتعرف أية فواجع أقنعت شعوبها بضرورة التوحد، فإنها لم تعد تعرف جيداً وجهة سيرها، والولايات المتحدة الأمريكية بعد أن صرعت عدوها العالمي الرئيسي، وجدت نفسها تواجه أعداء محتملين وتخترع لنفسها أعداء فتخوض غمار مشروع هائل يدفع بها إلى التيه، والعالم العربي الإسلامي ما زال يغوص أكثر فأكثر في بئر تاريخية يبدو عاجزاً عن الصعود منها وتقطّعه الأحقاد والتبعيات. إنّ جميع شعوب الأرض في مهب العاصفة، بشكل أو بآخر، فنحن جميعاً على متن زورق متصدّع، سائرين إلى الغرق معاً، لكننا مع ذلك لا نكفّ عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين بتعاظم أمواج البحر.

لقد مكننا القرن الذي نعاصره أن نعيش حياة أطول وأفضل، وبات تحت تصرفنا آلات وأدوية أيضاً، كانت تبدو، قبل بضع عشرات من السنين، من نتاج الوهم العلمي وكان يستحيل تصورها، لكن شهد هذا القرن أيضاً مشاريع شمولية أشد هولاً من امبراطوريات سابقة، وأنتج أسلحة قادرة، لأول مرة في التاريخ، أن تبيد كل أثر للمدنية على وجه الأرض. وهذا يطرح تساؤلًا ملحًا ومشروعًا هل تقدمت حضارتنا في الميدان المادي فقط بينما كان التقدم في الميدان الخلقي لسلوكياتنا وذهنياتنا متقلباً وغير ملائم لمجابهة تحديات عالم اليوم الهائلة. ففي عصرنا اليوم حيث تواجه كل ثقافة يومياً ثقافات أخرى، وحيث تحس كل هوية بالحاجة إلى ترسيخ وجودها بحدة، وحيث يتوجب على كل بلد، وكل مدينة، أن ينظما تعايشاً دقيقاً في كنفهما تصبح المسألة المهمة معرفة ما إذا كان في مقدورنا أن نحول دون انزلاق مجتمعاتنا نحو العنف والتعصب والفوضى، ففي حين كانت حادثة خطيرة تحصل في قرية ما، كان لا بد من مرور أسابيع قبل أن تسمع بها بقية مناطق البلاد، وكان هذا يحد من انعكاساتها، أما اليوم فالعكس صحيح، فالإدلاء بتصريح أرعن عند الظهر قد يكون ذريعة لحصول مذبحة مساء اليوم ذاته وعلى بعد عشرات آلاف من الكيلومترات. فإن خروج الناس والنزاعات من نطاق العزلة هو بالفعل نتيجة طبيعية لتقدم وسائل الاتصال، وما يحق لنا أن نأسف بشأنه هو أن هذا التقدم التكنولوجي غير مصحوب بوعي يمّكن من تأمين حماية الناس الذين زُجَّ بهم في معمعة التاريخ، فإن ما نشكو منه اليوم هو الهوة المتزايدة عمقاً بين تقدمنا المادي السريع، الذي يزيدنا خروجاً من عزلتنا كل يوم، وبين تقدمنا الخلقي البطيء الذي لا يسمح لنا أن نواجه العواقب المفجعة لهذا الخروج من العزلة، وهذا يستلزم دراسة معمقة للسلوكيات واستجابتها للمشاكل التي تواجهنا، خاصّة وأننا نجد أنفسنا كل صباح أمام مريض مختلف عن ذاك الذي عالجناه في الأمس.

إن انتصار الغرب الإستراتيجي، الذي كان من شأنه أن يعزز تفوقه، قد عجّل في انحداره، وإنّ انتصار الرأسمالية قد عجل في زجها في أسوأ أزمة عرفها تاريخها، وإن نهاية “توازن الرعب” قد خلق عالماً مهجوساً بالإرهاب وقد أدى إلى تراجع النقاش الديمقراطي في العالم كله، فبعد انتهاء المجابهة بين الكتلتين، انتقلنا من عالم كانت فيه الانشطارات إيديولوجية بالدرجة الأولى إلى عالم باتت فيه الانشطارات نووية، فراح كل واحد ينادي بانتماءاته في وجه الآخرين، ويكفر، ويحشد ويؤبلس أعداءه. كان لهذا الانزلاق من الإيديولوجيا نحو فكر الهوية بشقها الضيق عواقب مدمرة على كوكبنا بمجمله، لكن هذا الدمار لم يبلغ في أي مكان القدر الذي بلغه في المحيط الثقافي العربي-الاسلامي، حيث اكتسبت الأصولية الدينية مداً كبيراً محاولة إقصاء أي فكرة أو شخص أو راية تختلف عنها، شاهرةً سيف التكفير على الرؤوس والمشاعل.

لقد كان النضال ضد التخلف استكمالاً منطقياً للنضال من أجل الاستقلال. كان يبدو أن محاربة الفقر، والجهل، والإهمال، والركود الاجتماعي، أو الأوبئة، يجب أن تمتد قروناً، لذا فأن تتمكن الأمم الأكثر سكاناً كالصين والهند من الانطلاق السريع فهو أمر يدعو للإعجاب، لكن يجب التأكيد أن النمو العاصف للطبقات الوسطى في مجمل الكرة الأرضية، هو واقع يبدو معه العالم، بأدائه الراهن غير قادر على التكيف معه، فالضغط على الموارد الطبيعية بما فيها النفط، والماء العذب، والمواد الأولية، واللحم، والسمك، والحبوب وغيرها، واستماتة بعضهم للسيطرة على مناطق إنتاجية جديدة، كل هذه أمور تثير نزاعات فتاكة، فكيف تتصرف أية أمة إذا تعرضت آمالها بالتطور الاقتصادي لكبح ما، إلى أية انقلابات اجتماعية، وأية ضلالات إيديولوجية أو سياسية، وأية انحرافات حربية، قد يؤدي إليه مثل هذا التهديد.

إن تدني حصة الغرب النسبية في الاقتصاد العالمي، حسبما ابتدأ قبيل نهاية الحرب الباردة حمل في طياته عواقب خطيرة، حيث أخذت واشنطن تحاول بواسطة التفوق العسكري أن تحافظ على ما لا يمكن أن تحافظ عليه بواسطة التفوق الاقتصادي ولا بواسطة السلطة المعنوية، حيث راحت أميركا بعد انتهاء الحرب الباردة تقفز من حرب إلى حرب دون المرور بمراحل انتقالية، كما لو أن الأمر بات نهج حكم لسلطة شمولية ينحدر وزنها في الاقتصاد العالمي، ولا تكف عن الاستدانة، وتعيش بشكل واضح على نحو يفوق طاقتها، مع أنها تحوز تفوقاً عسكرياً لا ريب فيه. وهو ما دفعها لاستخدام تلك الورقة الرابحة كي تعوض فقدان قدرتها في الميادين الأخرى، لكن هذا التدخل إذا استندنا إلى حصيلة أولى سنوات القرن قد سرع هذا الانحطاط.

يميز بعض المحللين بين قوة صلبة وقوة ناعمة، قاصدين بذلك أن في وسع الدولة أن تزاول سلطتها بأشكال متنوعة دون أن تحتاج إلى الاستعانة بقواتها المسلحة في كل مرة. إنّ عجز ستالين عن فهم هذه الحقيقة هو الذي دفع به إلى السؤال عن عدد الفرق العسكرية التي يملكها بابا الفاتيكان. من جهة أخرى يوم انهار الاتحاد السوفياتي، كان وهذا يطرح تساؤلًا ملحًا ومشروعًا هل تقدمت حضارتنا في الميدان المادي فقط بينما كان التقدم في الميدان الخلقي لسلوكياتنا وذهنياتنا متقلباً وغير ملائم لمجابهة تحديات عالم اليوم الهائلة ما يزال يملك بقدر كبير، من الوجهة العسكرية، وسائل إبادة أعدائه. غير أن النصر والهزيمة لا يتوقفان على عدد الفرق المدرعة. فهذه ليست سوى عامل بين عوامل أخرى، ذلك أنه في كل مجابهة بين أفراد، أو جماعات بشرية، أو بين دول، تدخل في المعترك عوامل عديدة تتصل بالقدرة المادية، أو الطاقة الاقتصادية، أو الهيبة المعنوية. وهو ما كان واضحاً أن الاتحاد السوفياتي في حينها فقد اعتباره معنوياً، ودبّ فيه الوهن اقتصادياً، الأمر الذي جعل ذراعه العسكرية غير قادرة على الفعل.

لقد تكلم الغرب دائماً عن أنبل المبادئ في كل مكان، لكنه حرص على الامتناع عن تطبيقها في الأراضي التي غزاها ووجد مع قوى التخلف تسويات وحقول تفاهم ومصالح متلاقية. خطيئة الغرب المستمرة تجلت في تخليه الدائم عن احترام قيمه في علاقاته مع الشعوب المغلوبة، فمفاعيل البناء الأوروبي التي أتاحت له النهوض، لم تفلح قط في عبور مضيق جبل طارق لتنتقل إلى ضفة المتوسط الأخرى، حيث ينتصب الآن جدار عال، غير منظور، لكنه واقعي، وقاس، وخطر، كذاك الذي كان يقسم أوروبا فيما مضى. هذا ما يدفعني إلى القول أنّ فكرة صدام الحضارات والترويج لها كنظرية القرن والترويج لكاتبها هنتغتون، ليس إلاّ تضليلاًللشعوب والنخب على السواء لإخفاء أكبر عملية لنهب ثروات الشعوب باسم النيوليبرالية، والتعمية عن المشاكل الاجتماعية والفوارق الطبقية بين المجتمعات واستمرار استئثار تلك الدول بثروات العالم وإشغاله بصراع هويات إثنية ودينية والاشتغال عليه حد تمزيقه والاستفراد بنهب خيراته.

لا بد من أن نلاحظ أنّ القوات الأمريكية أقامت، منذ أسابيع الاحتلال الأولى للعراق، نظاماً للتمثيل السياسي يرتكز على الانتماء الديني أو الإثني، الأمر الذي أحدث انفلاتاً للعنف لا سابق له في هذا البلد. فالطائفية إنكار لفكرة المواطنية بالذات ولا يمكن بناء نظام سياسي متمدن على أساس كهذا.

إنّ مرور الزمن فكرة اخترعها أهل القانون، ولا وجود لها في ذاكرة الشعوب، فليس هناك حقوق إنسان لأوروبا، وحقوق إنسان لإفريقيا، أو آسيا أو العالم العربي والإسلامي، ما من شعب في الأرض وجد لأجل الاستعباد أو لأجل الطغيان، أو الاستبداد أو الجهل، أو الظلامية، ولا لأجل استعباد النساء. وكلما أهملنا هذه الحقيقة الأساسية نخون الإنسانية ونخون أنفسنا.

من الطبيعي أن تتحرك مشاعر الضحايا ومن المقلق أيضاًأن تكون الوحيدة التي تتحرك مشاعرها، فالتنوع الديني في منطقتنا الذي يضم جماعات عمرها آلاف السنين وحافظة لأقدم الحضارات الإنسانية وفي موضع القلب منها الأقليات الدينية والإثنية في العالم العربي والإسلامي. لكن مشكلة الأقليات ليست مشكلة لهذه الأقليات فقط بل هي علة وجود حضارتنا وغائيتها. فإذا ما أفضت هذه الحضارة، بعد تطور مادي ومعنوي طويل، إلى مثل هذا التطهير الإثني والديني، فمعنى ذلك أنها ضلت طريقها. إنّ مصير الأقليات بالنسبة إلى كل مجتمع هو أحد أصدق المؤشرات على التقدم الخلقي أو على التقهقر. وإن عالماً يتحسن فيه يومياً احترام التنوع البشري، حيث يمكن لكل شخص أن يتكلم اللغة التي اختارها، وأن يمارس معتقداته بسلام، إن عالماً كهذا هو عالم يتقدم ويرتفع، وبالمقابل إذا تغلبت التشنجات الهووية كما هي الحال اليوم في الغالبية الكبرى من البلدان، في شمال الكرة الأرضية كما في جنوبها، حيث يجد الإنسان صعوبة متزايدة كل يوم في أن يكون هو نفسه بصفاء، وأن يتكلم لغته بحرية ويمارس إيمانه بحرية، فكيف إذن لا نتكلم عن تقهقر؟ فإما أن نعرف كيف نبني حضارة مشتركة تزيد من ثرائها تنوعاتنا الثقافية وإما أن نغرق جميعاً في بربرية مشتركة.

ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “خيرُ الناس أنفعهم للناس” هذا شعار سامٍ ينبغي أن يثير اليوم أسئلة مؤلمة، ماذا نجلب للآخرين ولنا نحن؟ بأي شيء نحن نافعون للناس؟

هذا القول يمكن أن نسند إليه علاقات أوسع، أفراد وجماعات ودول، فقد أثبتت التجارب والأيام أننا بحاجة لإعادة تدوير وصفات الماضي وإسقاط نظريات في العلاقات الدولية لا تستحق حتى اسمها، وفي ضوء هذا القول المأثور يمكن لنا أن نضيء على تجربة سلطنة عُمان،فهي وريثة حضارة ممتدة في التاريخ، وأهلها سمتهم التعقل والمحبة والطيبة والتسامح، وحكومتهم معروفة بدورها في المنطقة والإقليم بتدوير الزوايا وتقريب وجهات النظر بين الأفرقاء المتخاصمين، تجمع دبلوماسيتهم بين الإخلاص والصراحة في القول والفعل، حيث تتعدى أحياناً حدود الدبلوماسية التقليدية وتقول كلمتها دون تردد، وهذا ما مكّن عمان أن تلعب دور الوسيط وتنزع فتيل أزمات كثيرة وتسحب الصاعق عن أحداث كادت أن تتفجر، حتى لو كانت على خلاف مع أحد طرفي النزاع في مسألة ما فهي ترجح أن هذا الخلاف يتقاطع مع توافق ما في مسائل أخرى، فأينما أغُلقت الدوائر وجدت مخرجاً وخلقت أرضية مشتركة بقراءة واقعية لمعطيات الأحداث وحسن رؤية مؤسسات لديها عمق سياسي ومرونة في الاستجابة لمتغيرات المشهد المستمرة،مما جعل لها عبر سنوات طويلة من النجاح الباهر في جهود الوساطة وتحقيق الاستقرار مكانة وسمعة دولية لا يبزها فيها أحد، وغرس لها جذور الصداقة في كل مكان من هذا العالم، فما تزال السفينة سلطانة مستمرة في رحلتها بنشر المحبة والسلام وسط أمواج الصراعات الدولية، حتى تهدأ رياح تلك الصراعات وتصل بها إلى بر الأمان. وفي كل مرة نجحت دبلوماسية عمان كانت تصوغ وتؤكد نظرية وفلسفة في العلاقات الدولية لها براءة اختراعها وتستحق عن جدارة اسمها، ويجب إيصال مفرداتها للأساتذة والطلاب على السواء في كل جامعات العالم. لذا يمكننا أن نقيس على القول المأثور " خيرُ الدول أقربها إلى سلطنة عمان بالقول والعمل “.

Your Page Title