أثير- تاريخ عمان
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
عُرفت سلطنة عُمان عبر تاريخها الطويل بنتاج فكري زاخر، أسهم فيه علماء أجلاء ونسّاخ بارعون تركوا بصماتهم الواضحة في شتى ميادين المعرفة، وقد أثْرَوا الساحة العُمانية بمؤلفات متنوّعة اتسمت بالعمق والتجديد، وتوزعت بين علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة، والشعر بأغراضه المتعددة، فضلًا عن مؤلفات رصينة في الجغرافيا والفلك والطب والتاريخ، وغيرها من ميادين الفكر والفنون التي شكّلت ملامح الهوية العلمية والثقافية للبلاد.

ولم يقتصر أثر هذا النتاج على الداخل العُماني فحسب، بل تجاوزه إلى رحاب العالم الإسلامي، حيث انتشرت المخطوطات وتناقلها طلاب العلم والرحّالة والتجار، فكان للعمانيين إسهام معتبر في إثراء المكتبة الإسلامية وتغذية الحركة الفكرية في أقطار متعددة، بما يعكس مكانة عُمان العلمية وصلاتها الحضارية الواسعة.
“أثير” تسلّط في هذا التقرير الضوء على أحد المصاحف الشريفة التي نسخها أحد أعلام النسّاخ العُمانيين، وهو الشيخ بخيت بن سليمان بن راشد المقيمي من أهالي طيوي، الذي فرغ من نسخه في الخامس عشر من رمضان سنة 1262هـ.
مصدر المخطوط:
تُحفَظ نسخة هذا المخطوط في خزانة الفاضل عبد الله بن علي بن عزّان المقيمي، أحد أحفاد الشيخ بخيت بن سليمان، ناسخ المصحف، وتضم هذه الخزانة عددًا من الوثائق والمخطوطات العائلية العائدة لأفراد الأسرة في الأجيال اللاحقة، من بينها مراسلات تاريخية، وكتاب لتقييد الأنساب، ومخطوط “تيمينة” ألّفها الشيخ بخيت في منطقة الجيلة، إلى جانب وثائق أخرى قيّمة، وقد بادر الفاضل عبد الله المقيمي بالتواصل مع هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، التي تولّت ترميم المخطوط وإعادة تجليده وتغليفه بما يحفظه من عوامل التلف ويضمن استمرارية بقائه.
ويُعَدّ هذا المخطوط، إلى جانب ما تحويه الخزانة من وثائق، شاهدًا حيًّا على ثراء التراث العُماني وأصالته، ومصدرًا مهمًا للباحثين والمهتمين بالتاريخ والفكر العُماني.
وصف المخطوط:
المخطوط عبارة عن مصحف شريف يتألف من (185) ورقة من القطع الكبيرة، كُتبت آياته بخط واضح باللونين الأسود والأحمر، وقد استخدم الناسخ أشكالًا هندسية بسيطة كالمستطيلات والمربعات لتمييز عناوين السور، بينما خلا المصحف من الزخارف النباتية الشائعة في بعض المصاحف الأخرى، ويُلاحظ أن الناسخ حرص على إبراز أسماء السور باللون الأحمر لتمييزها عن نصوص الآيات المكتوبة باللون الأسود. كما أثبت بجوار كل سورة عدد آياتها، وهو ما يعكس دقة العناية بترتيب النص القرآني وتوثيقه.

الخصائص الفنية للمخطوط:
العنوان: مصحف شريف
عدد الأوراق: 185 ورقة.
المقاس: من القطع الكبيرة
المادة: ورق شرقي
التخطيط: النص مكتوب داخل إطار مستطيل مرسوم بالمداد الأحمر يحيط بكل صفحة. كما أن النص مرتب في مستطيلات أفقية (مربعات نصية) تفصل بين المقاطع.
الخط والألوان: الخط نسخي واضح مائل قليلا إلى الطول، بحبر أسود. كما استُخدم الحبر الأحمر لعناوين السور، وللتفريق بين الآيات أو بعض الكلمات المهمة، ويلاحظ أن أسماء السور بارزة باللون الأحمر مع تذييلها بعدد آياتها.
الزخرفة: لا توجد زخارف نباتية أو تذهيب، وإنما يكتفي الناسخ بالخط والإطار الأحمر الهندسي، وهذا يؤكد الطابع العملي الوظيفي للمصحف، أكثر من كونه نسخة فاخرة للعرض.
الحالة المادية: الورق يبدو متأثرًا بعوامل الرطوبة والاستخدام (بقع واضحة)، كما أن النص ما يزال مقروءًا بوضوح؛ ما يدل على جودة الحبر المستخدم، وهناك علامات اهتراء طفيفة عند الأطراف، وهو أمر طبيعي في المخطوطات المتداولة.
الملاحظات النصية: في أسفل بعض الصفحات توجد فواصل أو زخرفة كتابية صغيرة بالمداد الأحمر (مثل كلمة فصل أو خطوط زخرفية بسيطة)، التنسيق بين اللونين يعكس حرص الناسخ على جمالية عملية تسهّل القراءة.

ويبرز في عمل الناسخ حرصه على التمييز البصري بين أسماء السور ونصوص الآيات، ما يسهل القراءة والتلاوة، كما يُظهر المخطوط الطابع العملي الوظيفي أكثر من الطابع الجمالي، حيث تجنّب الناسخ الزخارف المزخرفة وركّز على وضوح النص وتوثيقه، وفي الصفحات الأخيرة أُدرجت تقييدات تاريخية واجتماعية، ما يضفي على المخطوط قيمة مضاعفة: دينية وتوثيقية في آنٍ واحد.


وقد تم الفراغ من كتابة المصحف في عصر يوم الاثنين 15 رمضان سنة 1262هـ الموافق 6 سبتمبر 1846م، وجاء في خاتمته: " وتمت كلمة ربّك صدقًا وعدلًا لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم. وقد وقع الفراغ من تحرير هذا المصحف الكريم في عصر يوم الاثنين من خمسة عشر ليلة خلت من سيّد الشهور رمضان الذي أنزل فيه القرآن من شهور سنة اثنين وستين سنة ومايتين سنة وألف سنة من الهجرة بقلم الفقير الحقير أعظم البرايا خطايا بخيت بن سليمان بن راشد المقيمي بيده الفنية سنة 1262″.

تقييدات
احتوى المصحف في صفحاته الأخيرة على عددٍ من التقييدات، تنوّعت موضوعاتها بين ما هو عام يتناول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في طيوي على وجه الخصوص وعُمان على وجه العموم، وما هو خاص يتعلق بأخبار أسرة صاحب المخطوط، ويُلاحظ من مضمون هذه التقييدات أنّ جزءًا كبيرًا منها كُتب في فترات لاحقة؛ مّا يرجّح أنّ المصحف قد انتقل بعد وفاة ناسخه إلى عددٍ من أفراد الأسرة، الذين واصلوا تدوين ما استجدّ من أحداث وشؤون، فجاءت التقييدات بمثابة سجلٍّ متسلسل يجمع بين الذاكرة العائلية والتوثيق التاريخي المحلي.
ومن بين تلك التقييدات:


صاحب المخطوط:
هو الشيخ بخيت بن سليمان بن راشد بن حبن بن راشد بن سالم بن خميس بن سعيد بن علي المقيمي، ولد في منطقة (ميبام) من أعمال طيوي، ولا يعرف تاريخ ولادته بالضبط، لكنه عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، أي في عهد السلطان سعيد بن سلطان بن أحمد، بحسب ما تشير إليه التواريخ الموجودة في الكتب التي قام بنسخها.
للشيخ بخيت بن سليمان المقيمي العديد من المآثر الفكرية من بينها مخطوطة مصحف القرآن الكريم نسخها بتاريخ الأربعاء 16 جمادي الآخر 1241هـ الموافق 26 يناير 1826م، وتوجد منها نسخط محفوظة في دار المخطوطات العمانية.



وله كذلك مخطوط يدوي انتهى من نسخه في 11 من ذي القعدة عام 1245هـ الموافق الرابع من مايو عام 1830م، وهو كتاب فقهي بعنوان (مختصر الشيخ أبو الحسن علي بن محمد البسيوي).
كما نسخ جامع أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد البسيوي في يوم الأربعاء 23 جمادى الأولى 1246هـ الموافق 9 نوفمبر 1830م، ويتكون من 244 صفحة، ومداد الكتابة أسود وأحمر، وهو بحالٍ جيّدة، وتوجد نسخة منه في خزانة القاضي الشيخ حمود بن عبدالله بن حامد الراشدي.
وفي يوم السبت 14 رمضان 1260هـ الموافق 27 سبتمبر 1844م نسخ الشيخ بخيت بن سليمان المقيمي جامع أبي الحسن البسيوي لسالم بن سعيد البوثاني الخالدي، والمخطوط في 392 صفحة، وتوجد نسخة منه في خزانة دار المخطوطات العمانية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب.

كما كتب الشيخ بخيت بن سليمان المقيمي تيمينة، وهي احتفال ثقافي وتربوي عماني تقليدي يقام بمناسبة نجاح الطلاب والطالبات في ختم القرآن الكريم، حيث يطوف الأطفال في الحارة يرددون أدعية وصلوات تعبر عن الفرح بهذا الإنجاز الديني، ويستقبلون التبريكات والهدايا من أهل القرية، وذلك أثناء وجوده في قرية (الجيلة)، وهي قرية جبلية مرتفعة من أعمال نيابة طيوي، وكان فراغه منها يوم 15 ربيع الآخر سنة 1242هـ الموافق 16 نوفمبر 1826م.


وبحسب الباحث الدكتور مبارك بن مسلم الشعبني، فقد كان للشيخ بخيت بن سليمان جهد دعوي وتعليمي في طيوي، ويؤثر عنه وفاته هو وزوجته وهما ينسخان المصحف، هو في يده القلم وهي في يدها المحبرة.
وقد توالى الاهتمام بالعلوم والنسخ في ذرية الشيخ بخيت بن سليمان، وممّن حذى حذوه ابنه الشيخ جمعة بن بخيت بن سليمان المقيمي الذي قام في عام 1269هـ بنسخ كتاب (بصيرة الأديان في الزور والبهتان) لمؤلفه الشيخ عثمان الأصم في 172صفحة، نسخها بطلب من الشيخ سالم بن ناصر المقيمي، وكذلك حفيده الشيخ سعود بن علي بن بخيت الذي نسخ مخطوطة (الأجرومية في النحو)، كما نسخ مختصر البسيوي الذي كان جده قد نسخه من قبل، وذلك في السابع من ربيع الأول عام 1351هـ.
المراجع
- الشعبني، مبارك بن مسلّم. طيوي يا نفس طيبي، بدون دار نشر، سلطنة عمان، 2015.
- المقيمي. عبدالله بن علي. اتصال هاتفي ولقاء شخصي. صور، السبت 20 سبتمبر 2025.
- دار المخطوطات العمانية. وزارة الثقافة والشباب، عدّة مخطوطات.
- حساب (omani@(sami4047. موقع التواصل الاجتماعي X