الأولى

حين يصعد القلب على أمواج الجبل الأخضر

الجبل الأخضر

مسقط-أثير

بقلم: محمد حسن، باحث سوري

الجبل الأخضر ليس مكانا في الجغرافيا يتربع على عرش الأرض وإنما حالة روحية تتربع على قمة أعماقك وأنت تصعد في منحدراته وترتمي بين مدرجاته الجبلية ووروده النادرة وقراه المعلقة بين السماء والأرض، في كل مرة كنت أجول ببصري بين كفتيه أشعر أني أعانق الأفق وأشرد ملء جفوني في ذاكرة المكان وذاكرة الروح فتتلاشى غربتي أمام أُلفةٍ تعرف كيف تمسك ثناياك وتطير معها على جناحي نسر وحمام يحلق في فضائه اللامتناهي، يوجد مساحةً في ذاكرتك المتعبة ويعيد الروح إلى شبابها وكأنك طفل المكان تخلع عنك ثوب الكِبر وتطلق الدهشة على مصراعيها بين قراه الوادعة وأشجاره النادرة تتقدم نحو أسراره تجلوها بقلب طفل وتعيد إحساسك بالجهات يقينا يطوي بين صفحاته فوضى الزمن وانفلات ساعاته أمام إنسان يبحث عن نقطة ارتكاز في زمن الرمال المتحركة، من وحي صخوره المهيبة تشعر بثبات خطواتك على الأرض وتشكل أشجاره امتدادا صريحا ليديك العاريتين حتى تضم بهما الأفق وتلفحك تحت سمائه شمس الحقيقة. صادفنا أثناء جولتنا في إحدى قرى الجبل الأخضر عجوزا يحمل في تغضناته ذاكرة الجبل وشموخه بادرنا بالسؤال من أين أنتم ؟ جاوبته من سورية. قال لنا سورية كانت وليبيا كانت وفلسطين كانت...في إشارة ذكية ومفاجأة منه عن وضع بلادنا العربية وتشظيها الدامي وأكمل قائلاً: حالنا كمن يتوسد الثعبان فراشا له، فَتحتْ عبارته جُرحا داميا في ذاكرتي عن حال بلادنا العربية وتمزقها المزمن، أعادني ترحيبه بنا وقسمات وجهه الطيبة إلى اللحظة الحالية وفتح لي بسواعده السُمر فسحةً في سماء الممكن عن قوتنا الكامنة التي لا بد أن تخرج يوما وتعيد لنا مكاننا بين الأمم، تعلمت منه أن تلك الأيدي العارية التي استطاعت أن تنحت في صخر الجبال منازل ومدرجات واستطاعت تطويع الطبيعة الجامحة لتحفر لها مكانا في ذاكرة الأرض لهي قادرة بالأحرى على مدنا بيد العون وأن تكشف عن قوتنا التي إذا ولدت ذات يوم ستحفر اسم العرب مرة أخرى في فضاء التاريخ وتنتشل أجيالنا من غياهب الضعف والخضوع.

الجبل الأخضر

تجولنا في قراه الجميلة، عند قرية العين ولدت لنا عيونٌ كثيرة وتوقفنا عند الأبواب والنوافذ المشرعة على الأفق والصامدة في وجه الريح تصوغ حكايات المكان وأزمنة من مكثوا هنا وتركوا لنا صوتهم تميمة نعلقها بين ضلوعنا، حيث موسم الورد ينتج أريج عطر سري تفردت عمان في تكوينه وصوغ أمواجه فقد شربت تلك الورود كل تلك الذاكرة، اتحدت بذاكرة الأرض وذاكرة الإنسان وحكاياته، وتقطرت مفردات تلك الجمالية عطرا يخترقك حتى شغاف القلب ويعطيك دفقا أنسيا يهدر في دمك وينبلج منه ضوءٌ هو فجرك الذاتي المولود على مصطبة تلك الذرى أخوة للشمس في مشرقها ومغربها.

في وادي بني حبيب وقفنا على أطلالهم كشاعر من الجاهلية يلقي مديحه ومشاعر فقده لبيوت الأحبة والأهل تأملنا عظمة المكان وانسيابه بين دفتي الوادي وبيوته المعلقة على سفحٍ يُطل على مجرى الماء وأشجار تقف شامخة بالأيادي التي تحرسها وتقدم لها العناية والرعاية فتشجرّنا نحن أيضا في المكان وأنمينا جذورنا في تربته. وعند قرية السوجرة سلكنا طريقا وعرا كان لقوة الإنسان فضلٌ في رسم مساره والتغلب على منحدراته الخطرة وحينما وصلنا شعرنا بضآلة الإنسان وعظمته في آن واحد، ضآلته أمام عظمة المكان وهيبته بين الجبال الباسقة الشديدة الانحدار وعظمة هذا الإنسان الذي بنى بيوتا تشعر أنها تشارك الجبل وقوفه وشموخه وتتعلق بأهدابها على صخر المكان وتفتح أعينها على أفق بلا نهاية، ويهنأ فيها الماعز الجبلي بالتنقل بأطراف حوافره على صخورٍ تقف كما يقف الزمن منذ آلاف السنين شاهدا على تلك الإرادة الصلبة تنحت في طيات المستحيل الكلأ والمأوى، وفي جدران كهوفه يتربع نحلٌ بري ينتج أصناف نادرة من العسل فقد شكل وجود الإنسان في هذا الحيّز الزهرة التي دأب النحلُ على امتصاص رحيقها حتى أنتج عسلا ليس كمثل طعمه وفائدته عسلٌ آخر في الأرض، فقد اتحد الإنسان هنا مع النحل والصخور حتى شكلوا أبجدية حياة نقف مدهوشين أمام صوتيات حروفها وموسيقى كلماتها.

وفي نهاية اليوم اكتملت الرحلة بزخات المطر المنهمر على أرواحنا في ذروة يومٍ صيفي كترحيبٍ خفي من الجبل بزواره الشغوفين بتاريخه وحاضره وأهله وبيوتاته فلم تكن تلك الغيوم مجرد سحابة صيف بل كرمٌ منقطع النظير من الجبل بضيوفه وزواره، وكشفت لنا تلك القطرات السماوية عن رفعة هذا المكان ومعجزته المتحققة في الزمان والمكان.

وفي الخاتمة وليست بخاتمة بل فاتحةٌ على دربٍ، أحلف أغلظ الأيمان بأني سأسلكه مرارا وتكرارا بلا هوادة حتى يولد مني في كل مرة طفلٌ جديد على طريق حج روحي العطشى تحت هيكل تلك اللوحة الربانية.

لم تكن لتتوفر لنا تلك التجربة الفريدة لولا الدعوة الكريمة من وزارة السياحة والتراث في سلطنة عمان وتوفيرها لكل الخدمات والمرافق السياحية التي تتواءم مع روح المكان وحداثة الزمن فتشعر أنك أبُ الأمس وابن الحاضر بكل تجلياته، فالبنية الأساسية التي وفرتها حكومة سلطنة عمان، من فنادق ومطاعم وطرقات تشق مساراتها المتعرجة في الجبال الشامخة ومرافق متنوعة، وفرت لنا مسيرا سهلا لقافلة الاستكشاف وأعطت لأهل الجبل الأخضر الأعزاء الفرصة كي يحيوا حياة مدنية يسيرة في مكان خارج المكان وزمان خارج الزمن.

Your Page Title