خاص - أثير
خلال 12 يومًا من التصعيد بين إيران وإسرائيل، الذي بدأ بعدوان إسرائيليّ غاشمٍ على الأراضي الإيرانية في 13 يونيو الجاري، شهدت الساحة الدولية تباينًا ملحوظًا في مواقف القوى الدولية، بين دعم صريح للاحتلال الإسرائيلي ودعوات للتهدئة وتفادي الانزلاق نحو مواجهة إقليمية شاملة، وسط حسابات معقدة تحكم علاقاتها بالطرفين.
في حوار أجرته “أثير” في وقتٍ سابق مع العقيد ركن جوي متقاعد الدكتور جمعة بن سعيد الجرادي، المحاضر الزائر بجامعة السلطان قابوس والمتخصص في الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية، أوضح لنا كيف تداخلت المصالح الدولية وتباينت المواقف بين القوى الكبرى، مسلطًا الضوء على الخلفيات الإستراتيجية لهذه المواقف وتداعيات الصراع على مستقبل البرنامج النووي الإيراني.
لماذا تباينت مواقف الدول الغربية بين الدعم والتهدئة؟
أكّد الدكتور جمعة الجرادي، لـ “أثير”، أن مواقف القوى الدولية الفاعلة تجاه الحرب بين إيران والاحتلال الإسرائيلي اتسمت بالتباين، لكنها جميعًا تنطلق من قاعدة الحذر المشترك، مشيرًا إلى أن الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أجمعت على دعم إسرائيل، مشددةً على حقها في الدفاع عن النفس، بالتوازي مع رفضها القاطع لامتلاك إيران للسلاح النووي. إلا أن درجة الانخراط والمواقف السياسية بدت متفاوتة؛ حيث أظهرت فرنسا ميلًا أكبر نحو الحلول السلمية والدبلوماسية، في مؤشر على تباينٍ نسبيّ داخل المعسكر الغربي.
ماذا وراء تحفظ الصين رغم شراكتها الاقتصادية مع إيران؟
رأى الجرادي أن الصين، رغم كونها الشريك الاقتصادي الأكبر لإيران في مجاليّ النفط والغاز، إلا أن موقفها اتسم بالحذر والدعوة إلى ضبط النفس من الجانبين، ولم تظهر أي مؤشرات على استعدادها لدعم إيران عسكريًا، ويرجع ذلك إلى طبيعة السياسة الخارجية الصينية القائمة على “القوة الناعمة” وتجنّب المواجهات مع الغرب، خصوصًا في مرحلة تحولها إلى قوة دولية صاعدة، حيث تركز الصين حاليًا على توسعة نفوذها الاقتصادي عالميًا، لذا فهي لا ترى فائدةً إستراتيجية من التورط في صراع قد يضعها في مواجهة مع الغرب. وعليه، فإن موقفها يعكس إستراتيجية أوسع تقوم على الربح الاقتصادي وتفادي الاصطفاف في النزاعات العسكرية، في إطار سعيها لتثبيت موقعها كقوةٍ صاعدة دون احتكاك مباشر بالقوى الكبرى.
كيف توازن روسيا بين علاقاتها المعقدة مع إيران وإسرائيل؟
وفيما يتعلق بروسيا، أشار إلى أن علاقات موسكو بطهران تعززت خلال السنوات الأخيرة، خاصةً بعد تزويد طهران لها بطائرات مسيّرة في بداية حربها مع أوكرانيا، إضافة إلى التنسيق بين موسكو وطهران في الشأن السوري؛ مما خلق تقاربًا أمنيًا بينهما. لكن رغم هذا التعاون، فإن العلاقة تبقى أقرب إلى شراكة مصلحة مؤقتة، وليست تحالفًا مبنيًا على التزامات متبادلة في الحروب الكبرى. وفي الجانب الآخر، فإن علاقات روسيا مع إسرائيل أيضًا تحمل أبعادًا إستراتيجية، من بينها وجود جالية إسرائيلية واسعة من أصول روسية، مما يمنح العلاقات الثنائية طابعًا اجتماعيًا وإنسانيًا حساسًا، مما يجعل موقفها معقدًا يتسم بالحذر والانكفاء التكتيكي.
واستشهد الجرادي بعدّة تجارب تاريخية تؤكد أن روسيا تتخلى عن حلفائها عند اشتداد الضغوط، منها تخلي موسكو عن مصر في الستينيات، وعن العراق في 2003م، وأخيرًا عن سوريا، معتبرًا أن روسيا ليست حليفًا يمكن الركون إليه في الأزمات الكبرى.
لماذا ترفض الدول الإقليمية تصعيد الحرب في المنطقة؟
أوضح الجرادي، لـ “أثير”، أن دول الخليج ومصر والأردن وتركيا أعلنت رسميًا رفضها للهجمات الإسرائيلية، مشيرًا إلى مخاوفها من توسع رقعة الحرب. واعتبر أن القرب الجغرافي من إيران يدفع هذه الدول إلى انتهاج سياساتٍ حذرة، خاصةً أن استمرار التصعيد يهدد أمنها الوطني واستقرارها الاقتصادي، وهو ما يفسّر دعواتها المستمرة إلى وقف التصعيد والعودة للحلول السياسية، ويجعلها أكثر حرصًا على عدم تصعيد النزاع. ولفت إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تدرك أن استمرار الحرب سيهدد أمنها الوطني ومصالحها الاقتصادية، وهو ما يفسر دعواتها المتكررة إلى وقف التصعيد، والسعي لحل سياسي.
كيف أثرت المواجهة على مستقبل البرنامج النووي الإيراني؟
وفي تقييمه لتأثير الصراع على البرنامج النووي الإيراني، قال الجرادي إن المواجهة لن تدفع إيران إلى التراجع، بل على العكس، ستعزز من قناعتها بأن امتلاك برنامج نووي قوي يعدّ ضرورة إستراتيجية، وربما تزيد من إصرارها على امتلاك السلاح النووي. وأشار إلى أن إيران كانت قبل الحرب تتعامل مع الملف النووي بحسابات معقدة بين الربح والخسارة، لكنها اليوم، وبعد كسر حاجز الخوف، باتت ترى في نفسها طرفًا متوازنًا في معادلة الردع مع إسرائيل، خاصةً بعد تمكنها من الرد العسكري وضرب أهداف إستراتيجية داخل العمق الإسرائيلي بشكل غير مسبوق. هذا التطور أعاد رسم قواعد الاشتباك، حيث لم تعد إسرائيل الطرف الوحيد القادر على توجيه ضربة دون تكلفة.
وأوضح أن هذه المعادلة الجديدة تجعل من المستبعد أن تتنازل إيران عن برنامجها النووي طوعًا، بل إنها على الأرجح ستواصل تطويره باعتباره جزءًا من أمنها الإستراتيجي وردعها الإقليمي.
وفي المحصلة، يبدو أن التصعيد بين إيران وإسرائيل أخرج إلى السطح مجددًا شبكة التحالفات والتناقضات الدولية، وسط توازناتٍ دقيقة تحكمها المصالح الإستراتيجية ومخاوف الانزلاق إلى حرب أوسع. وبينما تتجه القوى الدولية إلى ضبط النفس، فإن مستقبل المواجهة يظل مرهونًا بتطورات المشهد الإقليمي وحسابات القوة بين الطرفين.