الأولى

طولها 3 أمتار وعمرها 230 عامًا: إليك قصة خطبة عيد عُمانية فريدة من نوعها

مخطوطة خطبة العيد

أثير- تاريخ عمان

إعداد: د. محمد بن حمد العريمي

تفنّن العمانيون على مرّ العصور في تنويع إنتاجهم الفكري والثقافي، فظهر لنا العديد من المؤلفات، والخطب، والأشعار، التي تميز العديد منها بمواصفات فنيّة رائعة تدل على مدى براعة المثقّف العماني وسعة اهتمامه.

ومن بين تلك الأساليب الفنيّة التي أخرجها لنا التاريخ العماني، استخدام اللفائف الطويلة في كتابة خطب العيد، وذلك لتسهيل القراءة، ولمساعدة الخطيب على متابعة نص الخطبة بسلاسة دون التشتيت، ولتجنب التمزق والتلف، وكذلك لسهولة الحمل والنقل خصوصًا مع تنقّل الخطباء والدعاة من مكانٍ لآخر، ولشيوع استخدام هذا الأسلوب من الكتابة خلال تلك الفترة.

جانب من مقدمة الخطبة

وأثناء زيارتي الأخيرة إلى ولاية إبراء واطّلاعي على جانب ممّا حوته خزانة الباحث الدكتور ناصر بن صالح الإسماعيلي المليئة بالعديد من المخطوطات والوثائق المهمة، شدّ انتباهي وثيقة يبلغ طولها حوالي ثلاثة أمتار تحوي خطبة عيد كتبها أحد أجداد الباحث صاحب الخزانة، ألا وهو الشيخ مانع بن علي بن عبدالله الإسماعيلي الذي يعد إحدى الشخصيات العديدة التي أنجبتهم هذه الأسرة العريقة في مختلف المجالات، والذين عرضنا لبعض أسمائهم ومنجزاتهم في تقارير سابقة.

ونظرًا لندرة هذه الوثيقة، وقيمتها الفنيّة والجمالية والفكرية العالية، فقد كان لزامًا علينا إعداد تقريرٍ أثيريّ حولها؛ تقديرًا لجهود تلك الأجيال التي اهتمت بالموروث الثقافي، وتثمينًا لقيمة المنتج الفكري، وتذكيرًا للأجيال الحالية والقادمة لمواصلة السير على خطى أولئك الأوائل.

أهمية المخطوطة

تعد مخطوطة خطبة العيد التي نحن بصدد عرضها، واحدة من أهم الموروثات الدينية والثقافية لسلطنة عمان بصورة عامة، ولقرية (النصيب) في ولاية إبراء بصورة خاصة، حيث تتميز بطول صفحتها الذي يصل إلى 3 أمتار وبعرض 20 سم، وقد كتبت هذه الخطبة في القرن الثالث عشر وتحديدًا في سنة 1209هـ.

صاحب الخطبة

تعود خطبة العيد للشيخ مانع بن علي بن عبدالله بن بركات بن محمد بن بلعرب بن مانع بن علي الإسماعيلي أحد المعتنين بنسخ المخطوطات في بداية القرن الثالث عشر الهجري، ومن جملة ما نسخه، مخطوط (الفكر والاعتبار) في عام 1205هـ، وكتاب (بيان الشرع)، وقد نسخه في سنة 1236هـ، والجزء الحادي عشر من كتاب (المصنّف) لمؤلفه الشيخ أحمد بن عبدالله بن موسى الكندي السمدي النزوي، وقد نسخه يوم الأربعاء 17 رجب 1229هـ للشيخ محمد بن خميس بن سالم بن عبدالله البوسعيدي السمدي.

نسخة من كتاب (بيان الشرع) بخط الناسخ الشيخ مانع الإسماعيلي

المواصفات الفنّية لمخطوط الخطبة

كتب الشيخ مانع بن علي خطبته بخط مشرقي جميل تجاوزت مائتي سطر يوم الخميس في 16 من ذي القعدة سنة 1209هـ الموافق الرابع من يونيو 1795م، وقد أبدع الناسخ في زخرفتها حيث أحاط الخطبة بأكملها بإطار هندسي جميل، وقد تجاوزت النقوش والزخارف البهية في مقدمة الخطبة 120 سم مزج فيها بين الزخارف النباتية والهندسية في صورة تعكس عناية الناسخ العماني بخطب العيد والحس الفني الذي وصل إليه، والتعبير عن القيم الثقافية والفنية السائدة خلال تلك الفترة؛ ما يعكس تقديرًا كبيرًا للمحتوى الذي يتضمنه العمل.

صورة عامة للخطبة

محتوى الخطبة

بدأت الخطبة بالاستعاذة والبسملة والتكبير والحمد والتسبيح وبيان عدل الله تعالى وعظيم قدرته وحكيم صنعه ووجوب شكره وذكره والصلاة والسلام على خير خلقه، تطرقت بعدها إلى بيان فضل يوم العيد والتذكير بقصة الخليل إبراهيم عليه السلام وأهمية التزام شعائر الله وتعظيمها، والتذكير باليوم الآخر وأهواله والموت وسكراته، والجنة، ونعيمها، والنار وعذابها.

جانب من مقدمة الخطبة بعد ترميمها
جانب من الخطبة

ثم اختتمت الخطبة بالصلاة والسلام على النبي الأمين وسائر النبيين ومن تبعهم إلى يوم الدين والدعاء لإمام المسلمين بالتأييد، ولعمان، وأهلها شرقها، وغربها، بالنصر والتوفيق.

الجزء الختامي من الخطبة

استمرارية استخدام الخطبة

يؤكد الباحث ناصر بن صالح بن عبدالله الإسماعيلي بأن خطبة العيد هذه قد امتد استعمالها في قرية النصيب بولاية إبراء لفترة تجاوزت القرنين يتناقلها أهل الفضل جيلًا بعد جيل، وكان آخر من خطب بها الشيخ سعيد بن سيف بن سليمان الإسماعيلي - رحمه الله- إمام وخطيب صلاة العيد بقرية النصيب، منتصف تسعينيات القرن العشرين الميلادي.

الشيخ سعيد بن سيف الإسماعيلي يلقي خطبة العيد

ترميم وثيقة الخطبة

ما تزال الوثيقة تحتفظ بحالتها الأصلية الجيدة، ولعل ذلك يعود إلى نوعية المواد التي استخدمت في كتابتها، والتي تتكون من مواد طبيعية قابلة للاستمرار والحفاظ على طبيعتها لفترة طويلة بعكس الأحبار الصناعية المستخدمة في الوقت الحالي.

وقد أشرف الباحث ناصر بن صالح بن عبدالله الإسماعيلي على إعادة نسخ مخطوط خطبة العيد، من خلال استخدام وسائل فنيّة حديثة لحفظها مثل التصوير الرقمي، واستخدام أوراق مناسبة لإعادة نسخها مستفيدًا من خبرته في هذا المجال، واطلاعه على تجارب الأجداد في هذا المجال، عدا عن حضوره للعديد من الورش والندوات المتخصصة في مجال حفظ المخطوطات والوثائق، وقد تعاون الدكتور الإسماعيلي مع مؤسسة (ذاكرة عمان) من أجل تصوير وثيقة الخطبة كاملة.

الباحث الدكتور ناصر بن صالح الإسماعيلي مع الشيخ خليفة بن يحيى الإسماعيلي وبينهما خطبة العيد
صورة مصغّرة للوثيقة بعد إعادة ترميمها

المراجع

  • الريامي، حمد. إعادة نسخ خطبة عيد يعود تاريخها إلى بداية القرن الثالث عشر الهجري، جريدة عمان، 26 مارس 2025م.
  • إذاعة سلطنة عمان، برنامج أهلا بالعيد، لقاء مع الباحث الدكتور ناصر بن صالح الإسماعيلي، 2 أبريل 2025م.
Your Page Title