أثير- زاهر بن حارث المحروقي
بعد زيارة ”بيت الراس“ والحمّامات الفارسية في ”كيديشي“، اتجهنا إلى منطقة ”المتوني“، التي سبق أن زرناها في رحلتنا الأولى، لكن الهدف هذه المرة كان التعرف إلى مكان قبر الشيخ العالِم ناصر بن أبي نبهان الخروصي.
لم يكن دليلنا محمد الفلاحي يعرف مكان القبر بالتحديد، لكننا تجوّلنا في بيت ”المتوني“ أولًا ثم زرنا مسجد الشيخ ناصر، وبعد أكثر من سؤال توصلنا إلى أنّ القبر يقع داخل أحرامات إحدى الشركات، ودخلنا بعد ”تفاهمات“ معتادة مع مسؤولي الحراسة في الشركة.
ذكر الشيخ عبد الله بن صالح الفارسي في كتابه ”البوسعيديون حكّام زنجبار“ أنّ وفاة الشيخ ناصر كانت يوم الأحد 22 جمادى الأولى 1263هـ – 9 مايو 1847م، عن عُمر ناهز واحدًا وسبعين عامًا، قضى عشرين منها في زنجبار، وعندما فاضت روحه كان رأسه في حِجر السيد سعيد بن سلطان.
ويذكر الفارسي أنّ السيدة عالية بنت محمد بن سعيد بن سلطان بنت قبة على القبر، معلقًا على ذلك بالقول: ”وهذه الأعمال يحرمها الدين، ولكن الناس يقومون بها“، لكننا لم نجد قبة أو أيّ بناء على القبر، وإنما وجدنا قبرًا عاديًّا يحيط به الطابوق العادي. كما لا يوجد أيَّ شاهد أو كتابة على القبر، والحشائشُ تحيط به من كلِّ مكان.
وقصةُ إزالة القبة من القبر تعود لزيارة فضيلة الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عُمان لزنجبار، وكانت عبارة الشيخ عبد الله الفارسي ترن في أذنيه؛ لذا طلب من أصحاب الشركة إزالة تلك القبة، مع الحفاظ على القبر.
بعد قراءة الفاتحة على روحه، كنتُ أفكر في ذلك الرحيل، تُرى كيف تصرّف السيد سعيد بن سلطان بعد وفاة الشيخ ناصر بين يديه؟ ومن غسل الشيخ وكفنه وصلى عليه؟ ومن أيِّ درب مرّ موكب الجنازة حتى وصل إلى مكان الدفن؟! وعلى أية حال؛ تركنا المقبرة وفكري مشغول بالسيد سعيد والشيخ ناصر وسر العلاقة المميزة بينهما.
في الليلة التي تلت زيارتنا للقبر، نمتُ باكرًا في فندق ”ميزنجاني“، كان النوم عميقًا. وبما أني كنتُ مشغول البال، فقد شعرتُ أنّ شيئًا ما ينتظرني، وما إن تمدّدت في سكوني حتى انفتح لي بابٌ، ففي فسحة من التجلي، حين سكنَت الأصوات الخارجية للباعة والمتجوّلين والسهارى في ”فروضاتي“، ارتفعت نغمة الروح، ووجدتُني وجهًا لوجه مع روح الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي، صاحب الأسرار والمقامات - الذي وإن مضى على رحيله ما ينيف على قرنين - فما تزال روحه تسري في كتبٍ تنبض بالحكمة.
ناديتُ روحه بنداءٍ صادق فحضر، لا بصوتٍ ولا جسد، بل بجلالٍ يستشعره القلب قبل أن يراه البصر. قلتُ له بنبرة من شوق وعطش: ”يا شيخ الأسرار، يا من خطّ نورًا في الكتب التي لم تذبل، إني أتيتك مشتاقًا، أبحثُ عن معنى يروي ظمأ روحي، فهل تسمعني؟“ فأجابني بلطافة العارفين: ”نعم، قد سمعتُك قبل أن تنطق، فإنّ الأرواح تتلاقى حين تصدق النية. ما الذي أثقل روحك؟“
قلتُ: ”أشتاق للحياة الروحانية، لكن نفسي الأمّارة بالسوء تُغرقني في الشهوات وفي ملذات الدنيا الفانية، وتحجب عني الأنوار، فكيف لمثلي أن يرتقي؟“. ردّ بنور الحكمة: ((النفس ليست عدوًّا، بل سُلّمٌ إن روّضتَه ارتقيت، وقد كتبتُ أنّ ”العلم لا يُثمر إلا إذا خالطه صفاء النية، وأنّ الظلم الحقيقي هو جهل النفس بنفسها“. فابدأ بتعليم نفسك، لا بقهرها)).
تساءلتُ، وأنا في مقامٍ من التطلع: ”هل يمكنني أن أكون من أهل السلوك ومن الذين يرون بنور البصيرة؟“. أجابني بثقة: ”كلُّ من سأل هذا السؤال قد بدأ الطريق. السلوك ليس لباسًا يُرتدى، بل كشفٌ تدريجي. اقرأ في نفسك كما تقرأ في كتاب، واذكر الله حتى تنسى نفسك، فتتذكّر حقيقتك“.
قلتُ: ”علِّمني شيئًا من أسرارك.. من علمك الذي لا يُدرّس في المدارس“. فقال: ”الروح لا تصل إلا إذا طهّرت مرآتها من الغرور. كلُّ علم لا يُثمر خشوعًا هو حجاب، وكلُّ دعاء لا ينبع من تجربة، لا يُفتح له باب“.
بادرتُه على طريقة المريدين مع شيوخهم: ”زدني يا شيخ“.
قال: ”السلوك طريقٌ لا يُسلَك إلا بالتجريد عن الهوى والتسليم للحق، والتطهر من دنس النفس“.
نظرتُ إليه بامتنان، وهمستُ: ”أشعر أنني أتنفّس من جديد.. هل ستظل معي؟“. أجاب: ”أنا فيك، ما دمتَ تبحث. اقرأ كتبي بعين القلب، فإنّ فيها رموزًا لا تُفَك إلا لمن ذاق، لا لمن قرأ“، فخطر لي سؤال يسكن أعماق التاريخ: ”هل صحيح أنك حملتَ رسالة من السيد سعيد في زنجبار إلى ولده ثويني في مسقط، وأحضرْتَ الرد في ليلة واحدة؟ كيف حدث ذلك في زمن لا طائرات فيه ولا اتصالات ولا بريد؟“ ابتسم الشيخ وقال: ”نعم، حدث ذلك. كنتُ مع السيد سعيد في بيت المتوني، فبثّ همّه إليّ. طلبتُ منه أن يكتب، وتكفلتُ بإيصال الرسالة. عدتُ ومعي ردّ السيد ثويني مكتوبًا. لا تسأل كيف، بل اسأل لماذا؟ حين تصفو النية، يطيع الزمان وتنطوي الأرض“.
طلبتُ من الشيخ وصيةً لا تذبل، فسألني: ”هل قرأتَ كتبي؟“ أجبتُ: ((قرأتُ كتابًا واحدًا هو ”إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك“))، ابتسم وقال: ((إذن أوصيك به، وأوصيك بكلمات وردت في الكتاب وهي ”لا تطلب النور من الخارج، فإنك إن فتّشت فيك وجدتَه. اجعل قلبك محرابًا، ولسانك تسبيحًا، وعقلك خادمًا للحق لا للهوى. كن في الدنيا كمن يعبُر نهرًا، لا يبني فيه بيتًا، بل يطلب الضفة الأخرى“)). واستطرد: ”كما ورد في ذلك الكتاب، إنّ الروح إذا خلصت من شوائب النفس، ارتقت إلى مقام الكشف، وصارت مرآةً للأنوار الإلهية.. والنفس لا تُهذَّب إلا بالمجاهدة، ولا تُطهَّر إلا بالصدق ولا ترقّى إلا بالعلم والعمل“.
غصتُ في أعماق الحكمة، وتعلمتُ منه أنّ ”النية الخالصة جناح للروح، تطير بها إلى حيث لا يطول الجسد، وأنّ السكْر الحقيقي هو غَيْبة عن الخلق بحضور الحقّ، وصحوٌ إليه، لا عنه“.
وحين أخبرتُه أنني سكران في هذا العالم، قال: ”السكر لا يُذَم إن كان من المحبة، وإنما يُذَم مَن سكر عن الحق، فسُكر العارفين هو غيابٌ عن الناس بحضور النور، وصحوُهم رجوع إليهم بنورٍ اكتسبوه من الحق“.
سألتُه عن الغَيْبة والحضور، فردَّ بكلماتٍ تُضيء البصيرة: ”الغَيبة هي غيابك عن شهود نفسك، والحضور هو شهودك للحق في كلِّ شيء. إن غبْتَ عن الخلق بحضرة الحق فقد حضرْتَ، وإن حضرْتَ الخلقَ وغبْتَ عن الحق، فقد احتجبْتَ“.
وكدتُ أذوب في هذا الحديث، كأنني لم أعد أسأل، بل أرتوي، فقال عبارة كأنها الختام الذي يفتح بداية جديدة: ”تذكّر أنّ الأرواح لا تموت، بل تستبدل المراتب، وأنك إن صدقت في التوق، طويتَ الزمان، ولو لم تغادر المكان“.
فجأة سمعت صوت أذان الفجر من مسجد السيد حمود المجاور للفندق، واستعدتُ للذهاب إلى المسجد.
ملاحظة: كلّ ما ورد في المحاورة المتخيّلة مستلٌّ من كتاب ”إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك“ للشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي