أثير - أحمد نجفي
إعلامي إيراني
قبل اندلاع الحرب المباشرة بين طهران وتل أبيب، والتي استمرت لاثني عشر يومًا خلال يونيو الماضي، كانت المواجهة الاستخباراتية والأمنية بين الجانبين مستمرة على مدى عقود، مواجهة عميقة على أكثر من صعيد، ظهرت إلى العيان بين الحين والآخر من خلال إلقاء القبض على جواسيس أو إجهاض عمليات أمنية لكل من الطرفين في أراضي الآخر. واستطاع العدو الصهيوني حسم بعض جولات صراع الظل لصالحه من خلال عمليات إرهابية استهدفت علماء إيرانيين، ما تكرر في بداية الحرب الأخيرة، بهدف مُعلن هو إنهاء المشروع النووي الإيراني، وآخر خفي تمثل في إجهاض محاولات طهران نحو التفوق التقني. حرب تقنيات حصلت وما زالت مستمرة على أرضية المواجهة الأمنية بين الجانبين.
حرب الظلال
مصطلح حروب الظلال أو الحروب الظلّية يُطلق على صراعات تُدار خلف الكواليس، يلجأ فيه الجانبان إلى أساليب مختلفة لضرب الآخر دون أن يتم إعلان الحرب بينهما رسميًا. تُعتبر العمليات الاستخباراتية والأمنية والاغتيالات السرية أبرز ملامح هذه الحروب منذ عقود، بينما أصبحت الهجمات السيبرانية ومواجهات القراصنة الإلكترونيين واجهتها الجديدة في العصر الحديث. كما تُعتبر العقوبات الاقتصادية وحملات الدعاية والتضليل الإعلامي من أدواتها الفاعلة، كما يُصنف البعض الحروب بالوكالة (Proxy Wars) أيضًا في خانة هذه المواجهات. أساليب مختلفة من الحرب غير المُعلنة، تهدف إلى تحقيق مكاسب استراتيجية دون إثارة ردود فعل مباشرة أو إدانات دولية ومع تجنب الدخول في مواجهة عسكرية شاملة.
أوصاف الحرب الظلية تتطابق مع ما يجري بين طهران وتل أبيب إن لم نُعمّمُه على كامل مشهد التوتر الإيراني الغربي.. صراع يميل كثيرون نحو اعتبار تل أبيب الطرف المنتصر فيه بما حصل من اختراق أمني للداخل الإيراني وعمليات إرهابية واغتيالات ناجحة استهدفت علماء وقادة إيرانيين خلال الأعوام الماضية وصولًا إلى أوجها في باكورة الحرب الأخيرة، حيث شهدت مختلف المناطق الإيرانية هجمات من الداخل وباستخدام مئات إن لم تكن آلاف المسيّرات الصغيرة تم تشغيلها بواسطة عملاء للموساد، حيث أعلنت طهران إلقاء القبض على مئات منهم وكشف معدات استخباراتية وأجهزة اتصالات متطورة بحوزتهم، فضلًا عن قطع مسيّرات كانت في طور التركيب في ورش كاملة كُشفت بمختلف أنحاء إيران. اختراقٌ أمني جسيم أثار الشكوك بشأن دور أجهزة الأمن الإيرانية ومدى فاعليتها في هذه المواجهة الشرسة، رواية رُوّجت لها جهات إعلامية بتوجيهات أمنية، لبث الخوف واليأس في صفوف الشعب الإيراني حول عواقب استمرار المواجهة مع إسرائيل، وكل ذلك في إطار الحرب النفسية التي يشنها العدو الصهيوني على إيران.

صراع السرديات
في إطار الحرب الإعلامية والنفسية الشرسة التي تُشن على طهران، وأمام الروايات الغربية، هناك سردية أخرى “إيرانية” تحدث عن دور الاستخبارات الإيرانية ونجاحاتها في اختراق الداخل الإسرائيلي، سردية مضادة تُبطل أسطورة الانتصار الإسرائيلي المحض، وتكسر صورة الدرع الصهيوني الحصين الذي تحاول تل أبيب الترويج له، لا سيما وأن رواية طهران، وخلافًا للنسخة الغربية، لا تستند فقط إلى تقارير أمنية وتسريبات داخلية، بل تدعمها روايات من الجانب الآخر، في إطار تقارير إعلامية غربية، وأخبار اعتقالاتٍ وحملات أمنية مضادة تعلن عنها تل أبيب بين الحين والآخر. وفي أحدث نسخها ما أعلنته هيئة البث الإسرائيلية عن اعتقال امرأة من وسط الأراضي المحتلة بعد الاشتباه بتواصلها مع جهات أخرى لم يُعلن عنها، بهدف استهداف بنيامين نتنياهو باستخدام عبوة ناسفة.
الاختراق الأمني الإيراني وصل كذلك خلال الأعوام الأخيرة إلى مستوى تجنيد وزير سابق، أعلن الكيان الصهيوني عن اعتقاله بتهمة التجسس لصالح طهران، ناهيك عن اعتقال مواطنين إسرائيليين جندتهم طهران لتنفيذ عمليات أمنية واغتيالاتٍ في صفوف القيادات الإسرائيلية، بحسب ما نشره إعلام العدو. حملات أمنية وصلت إلى ذروتها خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيما مع اندلاع الحرب، ومن أبرزها ما نشره الإعلام الغربي عن اتهام إيران بالتخطيط لاستهداف عالم نووي إسرائيلي كان يعمل في معهد وايزمان للعلوم، ويعيش في المنشآت السكنية المحاذية للمعهد بتل أبيب، حيث تحدثت التقارير عن إلقاء القبض على فلسطيني من القدس الشرقية بتهمة التجسس لإيران، وجمع معلوماتٍ عن المعهد، والتقاط صور من الواجهة الخارجية للمبنى الرئيس في وايزمان. تسريبات تُبطلُ سيناريو التشكيك الصهيوني حول دقة الهجوم الإيراني، وترويجه رواية عدم وجود هجمات هادفة، وأن إيران قد تكون استهدفت المعهد بقصف عشوائيٍ دون قصد مسبق أو معلوماتٍ استخباراتية دقيقة!
جمع المعلومات واختراق الحلقات الأمنية المحيطة بمعهد وايزمان، ومن ثم استهداف هذا المركز بما يشكله من رمزية كبيرة في منظومة التقنيات والعلوم الإسرائيلية، يُعد بحد ذاته إثباتًا على عدم وقوف طهران مكتوفة الأيدي في المواجهة الأمنية مع تل أبيب، لا سيما في جولةٍ وايزمان التي حسمتها طهران لصالحها، وذلك بشهاداتٍ صهيونية حول حجم الأضرار والتدمير الشامل في المنشآت التقنية التي استهدفها الإيرانيون بصواريخهم الدقيقة.
تدمير كامل
بعد السماح لوسائل الإعلام بتفقد بعض المواقع المستهدفة في الضربات الإيرانية، تحدثت تقارير إسرائيلية وغربية عن أضرار كبيرة لحقت بعدة مبانٍ في المعهد، وتدميرٍ كاملٍ لعدد آخر منها، مع انتشار حطام في كافة أرجاء الموقع، ومشاهد دمار بين أسقف منهارة وجدران محترقة، ناهيك عن معدات متطورة ومعقدة، دُمّرت أو أُحرقت بالكامل.
وصف علماء إسرائيليون متعاونون مع المعهد الذين زاروا المبنى عقب الضربات، بأن أجزاء منه بـالمُدَمّرة بشكل كبير، نتيجة الصواريخ الإيرانية التي أصابت عدة مبانٍ، ويقولون إن “سنوات طويلة من بحوثهم العلمية تدمر، حصيلة عمر من الأعمال والمشاريع العلمية تحطمت وتلاشت بالكامل أو تراجعت لسنوات، وأن العودة إلى النقطة التي كانت قد بلغتها تتطلب ربما سنواتٍ عدة”. هكذا يصفون المشهد، في تعابير تظهر أن عمق الأضرار يتعدى حطام المباني فحسب.

لماذا وايزمان؟
تأَسّسَ المعهد عام 1934 خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، تحت اسم “معهد دانيال سيف للأبحاث”، ومن ثم أُعيدت تسميته إلى “معهد الدكتور حاييم وايزمان”، وهو عالم كيمياء أسّسَ المعهد قبل أن يصبح أول رئيس لدولة الاحتلال.
علوم الحاسوب وتقنيات المعلومات تُعد من أهم الحقول العلمية التي يعمل عليها المعهد، حيث صُنِعَ أول جهاز حاسوب في إسرائيل، ويواصل العمل على تطوير التقنيات المعلوماتية في الأراضي المحتلة، في إطار التفوق التقني الذي تتغنّى به إسرائيل، وتُعوّل عليه في الحروب التي تشنّها في المنطقة.. وهذا ما يُكسبُ استهداف وايزمان أهميةً بالغة، لا سيما على أرضية المواجهة التقنية والمعلوماتية بين طهران وتل أبيب.
وإلى جانب ذلك، يُركّز المعهد على العلوم البيولوجية والفيزياء وتطوير تقنيات مرتبطة بعلوم الحياة، حسب ما يُروّجُ له العدو.. في حين عمل المعهد على بحوث مختلفة في مجالات تتعلق معظمها بالتقنيات العسكرية أو مجالات ذات استخدام مدنيٍّ عسكريٍّ مزدوج، ناهيك عن علاقاته المعلنة مع الصناعات العسكرية للكيان الصهيوني مثل شركة إلبيت سيستمز (Elbit Systems)، كما هو حال سائر الجامعات والمؤسسات العلمية في الأراضي المحتلة.
نشر موقع وايزمان الإلكتروني أهم التخصصات البحثية والتقنيات التي عمل المعهد على تطويرها أو شارك فيها، حيث نجد كثيرًا منها ذات استخدامات واسعة في الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وكأن المعهد أشبه بمركز دراسات وأبحاث وزارة الدفاع للكيان الصهيوني، ومن أهم هذه الحقول:
• الذكاء الاصطناعي: حيث تشير بعض الدراسات إلى دوره في تطوير أنظمة داعمة لاتخاذ القرار وتعيين الأهداف، تم استخدامها بكثافة في حرب غزة واستهداف قادة المقاومة بلبنان، كما أن هناك حديثًا عن دور هذه الأنظمة المطوّرة بالذكاء الاصطناعي في الاغتيالات الأخيرة بإيران.
• تطوير أنظمة الملاحة: حيث عمل المعهد، بحسب موقعه الإلكتروني، على أبحاث في مجال الملاحة الطبيعية، وتحليل إشارات الملاحة، واضطراب إشارات نظام GPS
• تشويشٍ وإرباك الإشارات اللاسلكية (jamming)
• تحليل البيانات الضخمة(Big Data) في مختلف المجالات. وبحسب بعض التسريبات، يعمل العدو على تطوير خوارزمياتٍ متطورة في هذا المجال لاستخدامها في تحديد المواقع الجغرافية، وأنظمة توجيه طائراتٍ مسيّرة، وإلى جانبها تحليل بيانات استخباراتيةٍ ضخمة.
• أنظمة رادارٍ واتصالاتٍ مزدوجة الوظيفة.. حيث يُعلن موقع المعهد عن دراسات لتطوير رادارات منخفضة التكلفة، واتصالات لاسلكية عالية الكفاءة، والنمذجة ثلاثية الأبعاد.
• تشفير المعلومات والاتصالات اللاسلكية.. ينص موقع المعهد على بحوث واسعة حول التشفير الكلاسيكي والاتصالات الآمنة، وأنظمة التشفير، والحماية من التنصّت.
• التقنية النووية، حيث يُعلن المعهد عن مشاركته في بحوث مختلفة بمجال الفيزياء النووية والكيمياء الإشعاعية، وتحليل الجسيمات، وكذلك دراسات في مجال الجسيمات الأولية والنوى الثقيلة، والتحليل الطيفي النووي، والتفاعلات الذرية.
• العلوم الكهروضوئية، بحسب موقع وايزمان الإلكتروني، ينخرط المعهد في نشاط واسع بهذا المجال، لا سيما في تطوير أنظمةٍ الليزر، والتشفير البصري، والاستشعار الضوئي.
• علوم الخلايا والجينات.. حيث يُجري المعهد أبحاثًا متطورة في علم الأحياء، بحسب موقعه الرسمي، إلا أن سلوك الكيان وتفنّنه بقتل المدنيين يدفع مراقبين إلى تبنّي نظرية تطويره أسلحةً بيولوجيةً وجرثوميةً.
• إنتاج لقاح فايزر.. حيث قام المعهد بإنتاج اللقاح الأميركي لفيروس كورونا على نطاق واسع في الأراضي المحتلة، وقد نجده النشاط المدني الوحيد أو ضمن نوادر بحوث المعهد التي لا يوجد لها استخدام عسكري مزدوج.
دُرّة التاج... ثأرًا لدماء العلماء النوويين
يُنظر إلى معهد وايزمان على أنه رمز للتقدم العلمي الإسرائيلي، ومن هنا يُعد استهدافه نقطة فارقة في حرب التقنيات المتقدمة بين طهران وتل أبيب، أو من منظور آخر، يمكن قراءته كرد طهران على استهداف برنامجها النووي وتقنياتها الذرية، واغتيال علمائها، على قاعدة العينِ بالعينِ التي يُمارسها الإيرانيون في الرد على أعدائهم.
وصف البروفيسور أورن شولدينر (Oren Schuldiner) الذي كان يعمل في المعهد منذ 16 عامًا هذا الاستهداف بأنه “نصرٌ معنوي لإيران”، ويقول إن الإيرانيين استطاعوا “إلحاقَ الضرر بدُرّةِ التاج في العلوم الإسرائيلية”... ورغم كل هذه التفاصيل والتسريبات المؤكدة، يُحاول الإعلام الصهيوني والغربي التشكيكَ بمدى نجاح الاستخبارات الإيرانية في إسرائيل، بإظهار الاختراق الفارسي أقل عمقًا من التسلّل الصهيوني، كما يستصغرُ حجم الأضرار التي سببتها الصواريخ الإيرانية في الأراضي المحتلة طوال الحرب، وذلك بالاعتماد على حجبٍ للمعلوماتِ والرقابة العسكرية الصارمة التي تمارسها تل أبيب لإخفاء أبعادِ الدمار والأضرار التي ألحقتها طهران بالهيكل الأمني والعسكري الصهيوني، وبنيته التحتية، خلال هذه الجولة المفتوحة.
شهاداتٌ من أهلها، تُفند السردية الصهيونية، في حرب روايات وصراع تقنيٍّ واستخباراتيٍّ مستمر، رغم سريان الهدنةِ العسكرية الهشّة بين طهران وتل أبيب.
المصادر:
(Iranian missile strikes Israel’s Weizmann research institute | AP News)
التلفزيون الايراني