أثير- زاهر بن حارث المحروقي
في جولتنا للمدينة الحجرية، أخذَنا الصديق مسعود الريامي إلى أولى المحطات، وكانت في منزل من منازلهم “القليلة” التي أعيدت إليهم، بعد أن صادرها الانقلابيون عام ١٩٦٤، وهو المبنى الذي استأجرته شركة تجارية ألمانية، وشهد بداية علاقة الحب بين السيدة سلمى وهنريش رويته، الذي سيصبح بعد ذلك زوجها. صعدنا إلى غرفة الألماني المطلة على حجرة سالمة في البيت المقابل، وكنتُ أتخيّل كيف كانت تقطع تلك السكة الضيقة بين البيتين في غسق الدجى والناسُ نيام، وقلتُ لا بد أنّ الحراس ساعدوا في تسهيل تلك اللقاءات. وبما أني سبق أن تناولتُ الموضوع، أكتفي بهذا فقط، فالمدينة كانت شاهدة على كلِّ شيء، حتى ما لا يُقال.
بعد خروجنا من البيت تجولنا في المدينة، فإذا مسعود يشير إلى شقة في الأعلى ويسألنا: “أتعرفون شقة من هذه؟!” أجبنا: “ننتظر منك التفاصيل”. قال: “هذه شقة حمود بن محمد البرواني الذي قتل الرئيس عبيد كارومي”. في تلك اللحظة كان شخصٌ ما يقدِّم طعامًا لقطة واقفة عند الباب، فيما يُخيّم الهدوء التام على المكان، وكأنّ الحادث وقع قبل لحظات، وكأنّ كلَّ سكان الحي قد تركوه هربًا أو خوفًا.
كان لكلام مسعود وقعٌ على نفسي، لأني أتذكر يوم الاغتيال ذاك، إذ كنتُ بالكاد قد بلغتُ العاشرة من عمري، ولا أذكر التفاصيل، ولكن هناك ما علق في ذهني؛ فلكثرةِ ما كنتُ أستمع إلى الإذاعة، حفظتُ اسم رئيس زنجبار عبيد كارومي، وقد تكوّنَتْ لديّ فكرةٌ سيئة عن الرجل، خاصةً من بعض الطلبة في المدرسة، الذين كانوا يفخرون به لأنّه قاد انقلابًا ضد العرب وسامهم سوء العذاب، وأقام لهم مذابح واغتصب نساءهم وأموالهم. وكان بعضُ الطلاب - وهم ممن تأثروا بالمناهج والدعايات الغربية ضد العُمانيين -، يهزؤون بنا ويقولون إنّ اليوم الذي سيحلقون لِحى آبائنا آتٍ لا محالة؛ “كما فعل كارومي بالعرب في زنجبار”.
هناك بعض الأمور لا يجد المرء لها تفسيرًا مهما حاول أن يفهمها، فلا يعلم كيف حدثت؟ ومنها ما حدث صبيحة يوم الجمعة 7 إبريل عام 1972م، حيث كنتُ ألعب خارج البيت. ومضيُّ هذه السنين الطويلة شوّش ذاكرتي، وجعلني أظن أنّه كان معي في هذا اليوم صديق الطفولة سعيد بن عبد الله المحروقي، لكن أمي تقول إني كنتُ بمفردي، وأقدمتُ على تمثيل دورٍ أقتل فيه عبيد كارومي، لأنه أهان العرب (كلمة العرب تطلق على العُمانيين). كانت أمي بالقرب مني، وكذلك بعض الناس ممن يشتغلون عندنا في محطة البنزين وفي الدكان؛ فنهرتني ونهتْني عن ذلك، خاصةً أني كنتُ أصرخ وأنا أمثل ذلك الدور، لكن المفاجأة - كما أخبرتني أمي لاحقًا - أنّ الأخبار جاءت مساء اليوم نفسه تقول إنّ شابًا عربيًّا هو حمود بن محمد بن حمود البرواني، قتل الرئيس كارومي؛ فما كان من أهلي إلّا أن خافوا خوفًا شديدًا من أن يصيبنا الانتقام؛ رغم أننا كنا بعيدين كثيرًا عن موقع الحدث، ولكن ما خوّفهم هو أنه عندما يتحدّث طفلٌ في حوالي العاشرة من عمره أمام الناس عن اغتيال رئيسٍ، في يوم وقوع الحدث بعد ساعات، فمعنى ذلك أنّ أهله كانوا على علم ودراية بذلك. لذا طلب مني أبي وأمي ألا أتحدّث عن هذا الموضوع ثانية أمام أيّ أحد، وفعلًا أغلقت فمي لأكثر من أربعين عامًا، حتى نشرتُ الموضوع في كتابي “بأعمالهم لا بأعمارهم” الصادر عن دار الانتشار العربي في بيروت عام 2015.
تقول تفاصيل الاغتيال: بينما كان الرئيس كارومي ومجموعةٌ من وزرائه في الطابق الأرضي لمقر حزب “الأفروشيرزاي” يلعبون طاولة الزهر؛ داهمهم حمود البرواني الذي كان عائدًا من التدريب العسكري من إحدى دول أوروبا الشرقية، ودخل عليهم شاهرًا سلاحه، فأفرغ طلقاته في كارومي الذي خرّ صريعًا، وانتهت العملية بمقتل مُنفذّها البرواني، ليبدأ فصلٌ جديدٌ في مأساة العُمانيين في زنجبار، الذين أُخذوا بـ “جريرة” حمود، فقُتل وأخفِي الكثيرون في ظروف غامضة، منهم والد مرشدنا مسعود “عبد الله بن سليمان الريامي”، الذي يقودُنا في هذه الجولة في المدينة الحجرية.
لا أستطيع أن أصف مشاعري بالتفصيل - أنا ابن العاشرة - لكني أعلم أني تلقيتُ نبأ اغتيال عبيد كارومي بفرح شديد. هل كان الاغتيال انتقامًا ربانيًّا لأرواح الآلاف من الأبرياء الذين ذُبحوا وعُذِّبوا وصودرت أموالهم بغير حق؟ هل سخريةُ بعض الطلاب منا وتهديداتُهم لنا ستتوقف؟! كنتُ في نفسي فخورًا أمام أولئك الطلاب ، وأعلم أنّ هناك الآن من يستطيع أن يرد على سخريتهم منا وتهديداتهم لنا، مثل حمود البرواني.
في كلِّ الأحوال؛ إنّ حمود البرواني سيبقى لغزًا، وستبقى خطوةُ إقدامه على قتل كارومي مثار تساؤلات، حتى تظهر الوثائق التي تتحدّث عن الموضوع، فهو شابٌ عمانيّ الأصل، نشأ على قصص المجازر التي طالت أهله وأبناء وطنه في زنجبار؛ إذ كان والده من بين الضحايا، ممّا جعل القضية عند البعض شخصية وعاطفية، بما يثبت أنّ الدم البريء الذي أريق لا يُنسى. واعتبر البعض الآخر أنّ الخطوة كانت تصفية حسابات بين أطراف خارجية وأخرى داخلية، وأنّ حمود كان مجرد منفذ لخطة كبيرة، ويدللون على ذلك بالقطيعة التي حصلت بين الرئيس التنزاني جوليوس نيريري وكارومي أكثر من عام، (كما قال لنا أحد الباحثين)، فيما يرى طرفٌ ثالثٌ أنّ الاغتيال كان انتقامًا لأرواح الآلاف ممن قتلوا ظلمًا وجورًا وعدوانًا، وأنّ البرواني بطلٌ قوميٌّ جسّد الغضب المكبوت، وحقق العدالة التي لم تتحقق عبر المحاكم، وأنه لم يكن قاتلًا مأجورًا، لكنه حمل على كتفيه تاريخًا من الألم، وقرر أن يكتب النهاية بيده.
ومصير حمود البرواني نفسه أثار علامات استفهام: هل كانت نهايته هو بيده؟! هناك من قال إنّ حمود انتحر، ولكن لا أحد يقدِّم دليلًا على ذلك. وهناك من قال إنه قُتل من قبل حراس عبيد كارومي، بعد أن أجهز عليه وأفرغ فيه رصاصاته، أما الاحتمال الثالث فيرى أنه قُتل بنيران صديقة أثناء الهرب من القاعة.
الذي حدث بعد ذلك الاغتيال هو تشديد القبضة الأمنية، تمثلت في اعتقالات موسعة، شملت كلَّ من أظهر الفرح، ووصل التخبط إلى “اعتقال شخص لأنه ذبح دجاجة، حيث فُسِّر تصرفه أنه احتفالٌ وابتهاجٌ بمقتل الرئيس”، حسب الروايات الواسعة الانتشار، كما ذكر ناصر الريامي في كتابه “زنجبار شخصيات وأحداث”. ومن المثير أنّ بعض العمانيين الذين أيدوا الانقلاب، قد دفعوا الثمن أيضًا، إذ طالهم الاعتقال والتعذيب وكأنهم دفعوا ثمن خيانتهم. ولا يمكن أن ننكر فرح أهالي الضحايا، فقد أعادت عملية القتل تلك فتح ملف المجازر التي ارتكبت في حق الأبرياء، وأجبرت العالم على النظر في تلك الحقبة السوداء من تاريخ الجزيرة.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما فعله البرواني يُعتبر جريمة أم عدالة؟ في ميزان القانون، هو اغتيال. لكن في ميزان التاريخ، قد يُنظر إليه أنه عدالة ربانية ومقاومة ضد الإبادة، وربما صرخة في وجه نسيان الأحداث المؤسفة والمؤلمة التي تعرّض لها العُمانيون واليمنيون والهنود وحتى الأفارقة أنفسهم. ولا أعتقد أنّ حمود بن محمد البرواني نفذ عمليته تلك تصفيةً للحسابات فقط، - كما ذهب البعض -، وإنما بسبب التراكمات الكثيرة والمجازر الكثيرة التي ارتكبها الانقلابيون، ولو فرضنا أنّ هناك من خطط لذلك، فإنّ البيئة التي نشأ فيها حمود كانت تؤهله لينفذ عملًا انتقاميًّا جريئًا كذلك، وأنا أميل إلى ما كتبه ناصر الريامي في كتابه، الصفحة 152، أنّ “الله سبحانه وتعالى قيَّض للأمة الإسلامية والعربية والزنجبارية، شابًا عربيًّا من أصل عُماني، غيورًا على شرف الأعراض المنتهكة جهارًا نهارًا، دون وازع من دين أو ضمير أو خُلق، ليسقيه كأسًا من كؤوس الذل والمهانة التي طالما سقاها للأبرياء”.
بعد أن سجلتُ مقطع فيديو قصير من أمام شقة البرواني، واصلنا تجوالنا في المدينة الحجرية، وفي ذهني أنّ الاغتيال - وإن كان انتقامًا لقتل والده أو غير ذلك - فإنه لا ينفي أن يكون انتقامًا لأرواح الأبرياء والأعراض المنتهكة، وللأموال التي اغتُصبت بغير وجه حق، وهو رأي الكثيرين دون جدال، “فذلك كان أمل كلِّ من كان في قلبه ذرة من الغيرة والكرامة، ولكن فقدان الكثير منهم للجرأة المطلوبة وخوفهم من التبعات الحتمية، حالت بينهم والتنفيذ”. حسب رأي ناصر الريامي.
واصلنا تجوالنا وأنا أقول لسيف: ما زالت المدينة الحجرية تكشف لنا في كلِّ يوم وكلِّ لحظة سرًا من أسرارها، يا ترى ماذا ينتظرنا؟!