رصد - أثير
إعداد-جميلة العبرية
في صباح الأحد 31 أغسطس 2025، استفاق السودان على واحدة من أعنف الكوارث الطبيعية التي شهدتها أراضيه منذ عقود، فالفاجعة أنبأت عن أن قرية “ترسين”، الواقعة على المنحدرات الشرقية لجبل مرة في إقليم دارفور اختفت تحت ركام الصخور والطمى، بعد انزلاقات أرضية مدمرة أودت بحياة جميع سكانها تقريبًا، والبالغ عددهم نحو ألف شخص، ولم ينجُ منها سوى شخص واحد فقط.
قرية على منحدر الخطر
ترسين لم تكن مجرد قرية نائية، بل مجتمع صغير يزخر بالحياة، إذ كانت تقع على ارتفاعات جبل مرة الذي يُعد أعلى جبال السودان بارتفاع 3042 مترًا، والمكون من صخور بركانية هشة تحولت مع مرور الزمن إلى أراضٍ خصبة صالحة للزراعة، حيث اشتهرت القرية بزراعة البرتقال والليمون والخضراوات، وكانت مقصدًا للنازحين الفارين من النزاعات المسلحة في دارفور، وذلك لاعتدال مناخها وتوافر المياه فيها؛ لكن طبيعتها الجبلية الوعرة وانحداراتها الشديدة كانت تخفي خطرًا محدقًا، إذ يشكّل الطين الكامن أسفل الطبقات السطحية عامل انزلاق عند تشبعه بالأمطار.
كيف حدثت الكارثة؟
على مدار أسبوع، شهدت المنطقة أمطارًا غزيرة أغرقت التربة وزادت من ثقلها، حتى لم تعد المنحدرات قادرة على الاحتمال، وبفعل الجاذبية والانحدار الحاد، انزلقت التربة والصخور، لتتحول إلى كتلة هائلة جرفت كل ما أمامها، فالبيوت الطينية لم تصمد، وسكان القرية الذين كان عددهم نحو ألف نسمة دفنوا في باطن الأرض، وأكثر من 100 منزل دُمّر بالكامل، فيما تحولت القرية إلى أثر بعد عين.
مأساة بلا شهود
المأساة لم تتوقف عند حجم الدمار، بل تعمّقت بفعل العزلة، فقرية ترسين تبعد أكثر من 900 كيلومتر عن الخرطوم، والوصول إليها لا يتم إلا مشيًا أو عبر الحمير، ووعورة الطرق وصعوبة الظروف الأمنية جعلت وصول فرق الإنقاذ شبه مستحيل، ومصادر محلية تحدثت عن نجاة شخص واحد فقط من بين جميع السكان، ليصبح الشاهد الوحيد على الكارثة التي دفنت مجتمعًا كاملًا تحت الأرض.
نداءات استغاثة وتحذيرات أممية
الأمم المتحدة عبرت عن قلقها العميق من تفاقم الوضع الإنساني بعد الانهيار، مؤكدة على لسان المتحدث ستيفان دوجاريك أن الحادثة جاءت في وقت يعاني فيه السودان من أزمة إنسانية خانقة، وأن أكثر من 750 نازحًا كانوا قد لجؤوا إلى القرية قبل أيام فقط من الكارثة، ما ضاعف عدد الضحايا والمشردين، والأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة حذرت من نقص حاد في المساعدات الغذائية والطبية، داعية إلى تدخل عاجل رغم وعورة المنطقة.
وصف حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، الحادثة بأنها “مأساة إنسانية تتجاوز حدود الإقليم”، وتوضح الصور والإفادات القادمة من المنطقة قسوة المشهد عبر المنازل المطمورة، والأراضي المنهارة، والصرخات المكلومة العاجزة عن الوصول إلى العالم.
جبل مرة… جمال قاتل
جبل مرة الذي يزخر بالمناظر الخلابة، ببحيراته البركانية وأراضيه الخصبة، أثبت أنه يحمل في جوفه خطرًا لا يُستهان به، فالانزلاقات الأرضية والفيضانات ليست غريبة على المنطقة، لكنها لم تصل قط إلى مستوى الكارثة التي مسحت قرية بكاملها عن الوجود، والطبيعة هناك تحمل تناقضًا صارخًا بين الجمال والخطر، وبين الحياة والموت.
ختامًا فإن قصة ترسين لم تعد مجرد خبر عن كارثة طبيعية، بل صرخة عن مجتمع اختفى في لحظة، وعن مئات الأرواح التي دفنت تحت الطمى والصخور دون أن تنال فرصة للنجاة، إنها حكاية قرية كاملة لم تعد موجودة، وستُذكّر السودان والعالم بأن هشاشة الأرض قد تبتلع حياة بأكملها في غمضة عين.
المصادر