أثير- زاهر بن حارث المحروقي
ونحن نغادر البيت الذي سكنه حمود بن محمد البرواني، متجهين إلى مُشاهدة بقية معالم المدينة الحجرية، كان بالي مشغولًا به. وجدتُ نفسي في حوار متخيّل معه، ولم يكن سهلًا أن أجري هذا الحوار وأكتُبه، فأنا لم ألتقِ به شخصيًّا، إذ مضى على “استشهاده” عند البعض، و“قتله” عند البعض الأخر أكثرُ من نصف قرن. أي أنّ الآراء قد تباينت حوله وحول مصيره أيضًا، لكنني حاولتُ أن أستحضر صوته وفكره، وربما حتى مشاعره، بقدر ما تسمح به المراجع والذاكرة والخيال معًا.

تركتُ سيف المحروقي ومسعود الريامي يتحدّثان، وقلتُ لنفسي: اسرق دقائق أو ثوانٍ قليلة، واغتنم فرصة خروجك من بيت البرواني وتحدّث معه. سألتُه: “هل كان اغتيالك لعبيد كارومي انتقامًا شخصيًّا؟ أم تصفية حسابات بين أطراف، كنتَ أنتَ مجرد أداة تنفيذ فيها؟”.
أجابني بهدوء: “دعني أسألك قبل أن أجيب عن سؤالك. ما الذي دعاك أنتَ أن تلعب لعبة - وأنت طفل - تتخيّل فيها أنك تقتل كارومي؟”، وقبل أن أجيب واصل حديثه: “ربما كانت كلّ تلك الأسباب مجتمعة. لكن ما دفعني فعلًا هو رؤيتي لمقتلة العُمانيين رأي العين، والتمثيل بجثثهم، واغتصاب نسائهم، ونهب ثرواتهم، ودفنهم أحياء، وتهجيرهم من زنجبار. كان أبي واحدًا منهم، ولم نكن نعلم مصيره، غير أنّ الله سبحانه وتعالى قيّض أناسًا كُتب عليهم الإعدام، لكن الله أنجاهم وكانوا شهودًا على تلك الحادثة الأليمة، التي عرفتُ بها فيما بعد، فظلَّ قلبي يشتعل نارًا. لقد أُمر أبي ومن معه من الضحايا - تحت تهديد السلاح - بحفر قبر، ثم أطلقت النار عليهم ليسقطوا سريعًا في تلك الحفرة، دون محاكمة ودون جريرة ارتكبوها.
استُشهد مع أبي في هذه الحادثة كلٌ من محمد بن سالم البرواني (الشهير بجينجا)، وعامر بن زاهر الإسماعيلي، وحمزة بن محمد. وأهيل التراب على الحفرة دون التأكد من أنّ هناك من قد يكون به رمقٌ من الحياة. نفذوا جريمتهم تلك بدم بارد على مرأى من مجموعة من السجناء العُمانيين، الذين أحضروا إلى ذلك المكان خصيصًا لترهيبهم، وليؤمروا بعد ذلك بردم القبر. كان من ضمن هذه المجموعة سعيد بن علي بن حمود الحارثي وعبد الرحمن حيدر وسلطان بن بريك وهو من أصل حضرمي، وجوخة بنت محمد بن سالم بن علي الريامية، - وهي امرأة عُرفت بالسخاء وبنشاطها الاجتماعي -. وبعد أن فرغوا من ردم القبر قيل لهم إنّ قتلهم سيكون في الغد وبالطريقة التي شاهدوها“.
سكت حمود لحظات، ثم أضاف: “طريقة قتل والدي ومن معه، عرفناها من خلال هذه المجموعة التي نجت من الموت بمعجزة إلهية، إذ لم يُقتادوا إلى ذلك المصير المشؤوم في اليوم التالي كما كان مقررًا، وكأنّ رجالات القتل والتعذيب غفلوا عنهم فبقوا في السجن حتى أفرج عنهم”.
سألني: “هل عرفتَ سبب سؤالي لك: ما الذي جعلك تلعب لعبة القتل تلك وأنت بعيدٌ من موقع الانقلاب ولم يصبك ما أصابنا؟ لقد تألم قلبك - وأنت الطفل الصغير - من مصير إخوانك في الدم. ثم إنّ ما تعرضْتَ له أنت وأقرانُك من سخرية وتهديد، لا يمكن أن يقارن بما عشناه نحن في الواقع.
ألم تكتب أنتَ مرةً أنّ حكايات زنجبار تحتاج إلى مؤلفات كثيرة؟! أنا أتفق معك في هذه النقطة، فما قيل غيضٌ من فيض، ونحن عرفنا قصة استشهاد أبي ومَن معه، لأنّ الله كتب الحياة لمن شهد الحادثة، ولكن هناك المئات ذهبوا واختفوا دون أن يعلم بهم أحد، منهم والد الرجل الطيب الذي يمشي معكم الآن" (يقصد مسعود).
سألتُه: “يقول بعضُهم إنك بطلٌ قومي وإنك شهيد، بينما يراك آخرون مجرمًا قتل رئيس دولة. كيف ترى نفسك؟”
ردّ: “أرى نفسي ابنًا بارًّا لوالد قُتل ظلمًا، وعُمانيًّا لم يجد وسيلة أخرى للرد على كلِّ المظالم التي وقعت للعُمانيين. أما الألقاب، فليطلقوها كما يشاؤون. لا يهمني - وأنا في العالم الآخر - أن أكون بطلًا أو مجرمًا في نظر الناس، المهم أني لم أبع ضميري كما باعه الآخرون”.
هنا سألتُه: “هل كان الانتقام لوالدك فقط؟!”. قال: “وأنا في العالم الآخر أعلم أنّ هناك من قال ذلك. وهناك من قال إني لعبة في مشروع أكبر مني، لكني كما قلتُ لك: كلُّ ذلك لا يهم. أنا فخورٌ أني انتقمتُ لأرواح الآلاف من الأبرياء”.
سألتُه عن لحظة الاغتيال، فصمت قليلًا، ثم قال:
“الغريب أنني كنتُ ساكنًا تمامًا. دخلتُ عليه بكلِّ ثقة. لم أرتجف، لم أتردد. كنتُ فقط أنفذ. كأنّ الزمن توقف. كان داخلي يمتلئ بمشاهد القتل التي رأيتُها لعُمانيين عزّل، وبأصوات الأمهات، ونظرات الأطفال، والمقابر الجماعية، وقصص الفقد المؤلمة. كان صوتُ أبي يحفزني، ويدعوني: تقدّم يا حمود ولا تخف، تقدّم يا حمود، تقدّم ولا تخف. كان ذلك الصوت يبث في نفسي الراحة والطمأنينة والسكينة”.
ثم التفت إليّ، وصوتُه يتهادى بشيء من الطمأنينة وقال: “تريد أن تعرف كيف كانت لحظتي الأخيرة؟ سأقول لك، في ثانية واحدة فقط، شعرتُ كأنني انسلخت من هذا العالم. لا ألم، لا صراخ، فقط هدوء عجيب. رأيتُ أبي. نعم أبي كان هناك ينتظرني على الطرف الآخر. احتضنني بقوة لم أعهدها فيه من قبل، وهو يقول: “أهلًا يا حمود يا ولدي، أنت فعلًا ابن أبيك، أنت فعلًا ابن أبيك. ما إن فرغ من كلماته حتى رأيتُ آلاف الأرواح تنتظرني، كانت تبتسم وتضحك في آنٍ واحد. كانوا ضحايا الانقلاب، شهداء المذابح من 12 يناير 1964، حتى هذه اللحظة في 7 أبريل 1972. كنتُ بين تلك الأرواح عريسًا في زفة الشهداء. لم أكن ميِّتًا، كنتُ حيًّا معهم. لكني لاحظتُ أنّ هناك من بين المستقبلين من تختلف سحناتُهم عن سحنات الشهداء. كان في الاستقبال السلاطين والعلماء والشعراء والقضاة والشيوخ العُمانيون الذين عاشوا في هذه الجزيرة منذ مئات السنين”.
صمت قليلًا، وابتسم ابتسامة هادئة كأنه يراهم من جديد، وقال: “في تلك اللحظة فقط، شعرتُ أني وصلت”.
سألته: “هل ندمت على ما فعلت؟”.
التفتَ إليّ وبدا في عينيه شيء من الفخر والحنين، وقال بنبرة هادئة: “لقد فرحتَ، وأنت ابن العشر سنوات، حين علمتَ بما فعلتُه أنا، أتعرف لماذا؟ لأنّ الأطفال يعيشون على الفطرة، هم مرآة الحقيقة. حين فرحتَ أنت، وفرح أقرانُك، ومن هم في سنك، تيقنتُ أنّ ما فعلتُه كان يتّسق مع العدالة والكرامة، مع ردّ المهانة، فكيف تسألني اليوم: هل ندمت؟”.
بدا عليه شرود عميق، وقال بصوت منخفض كأنما يحدِّث نفسه: “تعرف؟ كلما تابعتُ ما يقدّمه الفلسطينيون من تضحيات، أتذكّر جيدًا أنّ منبع الشجاعة ليس التدريب ولا السلاح، بل الإيمان. أولئك يقاتلون لأنهم مقتنعون بعدالة قضيتهم، ولأنهم رأوا أهاليهم ممزقين أمام أعينهم، صارت الحياةُ والموتُ بالنسبة لهم سواء. وفي النهاية سينتصرون. أنا أيضًا سمعتُ عن والدي كيف قُتل بطريقة مهينة. بعد تلك اللحظة، لم أعد إنسانًا عاديًّا”.
ثم أردف بنبرة حادة: “ما يدفع الإنسان إلى التضحية القصوى هو الإحساس العميق بالظلم، والرغبة في أن ينكسر هذا الظلم يومًا ما، ولو بعدة طلقات”.
أعادتني كلمات حمود إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنتُ أعدَّ وأقدّم برنامج “ضيف الأسبوع” في الإذاعة، فتحمستُ لمواصلة الحوار المتخيّل. وقبل أن أغادره، سألتُه عن نهايته، وقد كثرت الروايات حولها؛ إذ قيل إنه انتحر بعد تنفيذ العملية، وقيل إنّ الحراس أطلقوا عليه النار، بينما قال آخرون إنّ زميلًا له قتله بالخطأ أثناء الهروب. ابتسم بحزن وقال: “كلّ تلك الروايات قد تحمل جزءًا من الحقيقة، لكنها لا تعكس الواقع بالكامل. الشيء المؤكد أني لم أنتحر. بعد تنفيذ العملية، اندلع تبادلٌ لإطلاق النار. في خضم الفوضى، أصابتني رصاصة قاتلة. لا أعلم من أطلقها، وربما لم يكن مهمًا حينها. كنتُ مستعدًا للموت منذ لحظة اتخاذي القرار. المهم أنّ المهمة نجحت، والرسالة وصلت، وأنّ دم والدي ودماء الأبرياء لم تذهب سدى”.
تلاشت صورتُه أمامي، لكن صوته ظلّ يتردد في أذني، حتى سمعتُ صوتًا آخر يهمس لي من خلف كتفي: “وصلنا إلى البيت الذي تبحث عنه، هذا هو بيت المدفع”.
التفتُّ، فإذا هو مسعود الريامي، وإلى جانبه سيف المحروقي، وعدتُ من حواري مع حمود، إلى زنجبار الحقيقية.
*ملاحظة: حكاية استشهاد والد حمود ومَن معه، منقولة من كتاب ناصر بن عبد الله الريامي (زنجبار- شخصيات وأحداث).