أخبار

ورقة بحثية تكشف خصوصية التحصينات العسكرية في ظفار في عهد الدولة البوسعيدية

ورقة بحثية تكشف خصوصية التحصينات العسكرية في ظفار في عهد الدولة البوسعيدية

أثير – جميلة العبرية

استعرضت ندوة ”ظفار في ذاكرة التاريخ العماني“ ورقة بحثية بعنوان (التحصينات العسكرية في ظفار في عهد الدولة البوسعيدية).

”أثير“ التقت بالدكتور عبد العزيز بن حميد المحذوري، مدير دائرة التاريخ الشفوي بهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، الذي أوضح أن اختياره لهذا الموضوع جاء انطلاقًا من قناعته بأهمية الربط بين المعمار والتاريخ السياسي والاجتماعي، خاصة في المناطق التي لم تحظَ بما يكفي من الدراسة الأكاديمية، كظفار، فالتحصينات العسكرية هناك لا تمثل مجرد هياكل دفاعية، بل شواهد مادية على ديناميكيات الدولة البوسعيدية في إدارة أطرافها الجغرافية، وترسيخ سلطتها، والتفاعل مع المجتمع المحلي، كما أنه لاحظ ندرة الأبحاث التي تتناول تحصينات ظفار من منظور تكاملي يجمع بين البعد المعماري والتاريخي، وهو ما شكل دافعًا رئيسيًا للخوض في هذا المشروع.

الطابع المعماري المميز

قال المحذوري بأن التحصينات العسكرية في ظفار تتسم بطابع معماري فريد يعكس تفاعلات جغرافية وتاريخية خاصة. من أبرز سماتها: استخدام المواد المحلية مثل الحجارة الجيرية والطين، وانسجامها مع التضاريس الجبلية والساحلية على حد سواء، كما يظهر التأثير البحري والعماني-الأفريقي في بعض عناصرها المعمارية، خصوصًا في الأبراج والزخارف، وعلى خلاف التحصينات في محافظات شمال السلطنة، التي تتسم غالبًا بطابع أكثر مركزية واتساقًا مع طراز العمارة الداخلية، فإن تحصينات ظفار تُظهر مزيجًا من الوظيفة الدفاعية والتكيّف مع خصوصيات المكان، ما يمنحها شخصية معمارية مستقلة.

أدوار عسكرية وإدارية

أشار الدكتور عبد العزيز إلى أن هذه التحصينات لعبت أدوارًا محورية على الصعيدين العسكري والإداري. فمن الناحية العسكرية، كانت تشكل نقاط ارتكاز لمراقبة السواحل والممرات الجبلية، ومواقع دفاعية في وجه أي تهديدات خارجية أو داخلية. أما إداريًا، فقد مثلت مراكز للحكم المحلي، حيث كان الولاة أو القادة العسكريون يديرون من خلالها شؤون المناطق المحيطة، مما يعكس وظيفتها المزدوجة كمقرات سلطة محلية ووسائل لفرض النظام البوسعيدي في الإقليم.

تعزيز الوجود الإستراتيجي

بين أن هذه التحصينات أسهمت بشكل مباشر في ترسيخ الوجود الإستراتيجي للدولة البوسعيدية في ظفار، من خلال بسط السيطرة على نقاط جغرافية حيوية، مثل الموانئ، والممرات التجارية، والمناطق الحدودية، وكذلك أيضًا مكنت الدولة من تحقيق توازن بين المركز والعُرف المحلي في إدارة الإقليم، وهو ما ساعد في تهدئة النزاعات الداخلية، وضمان الولاء، ودمج ظفار بشكل أكثر فاعلية ضمن النسيج السياسي للدولة البوسعيدية.

الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية

ذكر المحذوري لـ ”أثير“ أن دراسته كشفت أن هذه التحصينات لم تكن منعزلة عن النسيج الاجتماعي، بل شكلت جزءًا من الحياة اليومية للمجتمع المحلي، فكانت مراكز جذب للأنشطة الاقتصادية مثل التبادل التجاري، وتخزين المحاصيل، بل وأحيانًا تقديم الحماية للأسواق والموانئ، وارتبط بها أيضًا عدد من الحرف التقليدية المرتبطة بالبناء والدفاع، وأسهم وجودها في خلق نوع من الاستقرار الذي سمح بانتعاش اقتصادي نسبي في محيطها، أما اجتماعيًا، فقد مثلت رمزًا للسلطة والنظام، وشكلت جزءًا من الذاكرة الجماعية للناس، حيث ارتبطت بوقائع تاريخية، وتحولات سياسية، وشخصيات محلية لا تزال حاضرة في الروايات الشفوية إلى اليوم.

أبرز التحصينات والنماذج القائمة

عدد المحذوري أبرز التحصينات التي رصدتها الدراسة خلال فترة الدولة البوسعيدية في ظفار وهي: الحصن في مدينة صلالة، وقلعة حمرين (حمران)، وحصن طاقة، وحصن مرباط، وقلعة رخيوت، وقلعة سدح، وقلعة مقشن، وقلعة حبروت، إضافةً إلى التحصينات الواقعة على السفوح الشرقية لسلسلة جبال ظفار التي كانت تؤدي وظائف دفاعية إستراتيجية.

وأضاف: العديد من هذه النماذج ما يزال قائمًا حتى اليوم، وما زالت تحتفظ بجزء كبير من ملامحها المعمارية الأصلية، مما يجعلها مادة حية للدراسة الأثرية والمعمارية. كما أن بعض الأبراج المنتشرة في محيط مدينة صلالة وجبال ظفار لا تزال تُظهر بقايا هندسية تعكس وظيفتها الدفاعية في ذلك العصر.

السياحة والحفاظ على التراث

أكد أن هذه التحصينات تمتلك مقومات كبيرة لتكون عنصر جذب سياحي، خاصة أنها تمثل نقطة التقاء بين التاريخ والمعمار والمناظر الطبيعية الخلابة في ظفار. من خلال تطوير مسارات سياحية ثقافية تدمج هذه التحصينات ضمن سرديات تفاعلية، يمكن إعادة تقديم التاريخ المحلي بأسلوب جذاب للزوار، كما أن توثيق هذه المواقع، وترميمها بأساليب علمية، سيسهم في الحفاظ على التراث الثقافي العُماني ونقله للأجيال القادمة، مع إمكانية إشراك المجتمع المحلي في إدارتها، ما يعزز من الاقتصاد المحلي ويعيد إحياء الحرف التقليدية المرتبطة بالبناء والتراث.

مصادر وميدان وروايات شفوية

أشار المحذوري إلى أن منهجية الدراسة دمجت بين المصادر المكتوبة والميدانية والمقابلات الشفوية الذي أتاح له بناء صورة أكثر شمولية وتوازنًا عن الموضوع، فالمصادر التاريخية زودته بالإطار الزمني والتحولات السياسية والعسكرية للدولة البوسعيدية، أما الزيارات الميدانية فكشفت له الأنماط المعمارية وطرائق البناء المحلية، وأظهرت واقع الحال للتحصينات من حيث حالتها العمرانية، فيما أضافت المقابلات الشفوية، بعدًا إنسانيًا وثقافيًا للدراسة، حيث وفرت روايات حية عن استخدام التحصينات، وأدوارها المجتمعية، والذكريات المرتبطة بها، مما ساعدني على فهم السياق الاجتماعي الذي أحاط بهذه الأبنية، وهو جانب غالبًا ما تغفله المصادر الرسمية.

رسائل حضارية للأجيال

أوضح المحذوري أن هذه التحصينات أرسلت رسائل حضارية للأجيال وتتضمن:

  • قدرة الدولة العمانية في فترة مبكرة على إدارة أطرافها الجغرافية، وتثبيت سلطتها من خلال وسائل عمرانية ذات طابع إستراتيجي، دون أن تنفصل عن البيئة المحلية.
  • التحصينات تبرز مفهوم الاستدامة الثقافية والمعمارية، إذ بُنيت بمواد محلية ووفق احتياجات واقعية، مما يجعلها نموذجًا يمكن الاستلهام منه في العمران الحديث..
  • تمثل ذاكرة جماعية وهوية مكانية للمجتمع، وتذكّرهم بجذورهم، وبكيفية تفاعل أجدادهم مع البيئة والتاريخ، وتؤكد على ضرورة التمسك بالتراث، ليس كعنصر رمزي فحسب، بل كجزء من بناء المستقبل.

وفي ختام حديثه لـ ”أثير“ أكد الدكتور عبد العزيز المحذوري أن دراسة التحصينات العسكرية في ظفار لا ينبغي أن تبقى حبيسة الجدران الأكاديمية، بل من المهم تحويل نتائج هذه الأبحاث إلى مبادرات عملية، مثل:

• إعداد خرائط رقمية تفاعلية لهذه المواقع.

• تطوير برامج تعليمية وتوعوية في المدارس والجامعات حول التراث المحلي.

• إشراك المجتمع المحلي في مشاريع الحفاظ على هذه المواقع.

كما أن التعاون بين المؤسسات الأكاديمية، ووزارة التراث والسياحة، والمجتمع المدني، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في تحويل هذه التحصينات إلى روافع تنموية وثقافية حقيقية.

Your Page Title