الأولى

الحج من ظفار: مسارات ومحطات وتحديات الطريق إلى أرض الحرمين

الحج قديما (وكالة الأنباء السعودية)

أثير – جميلة العبرية

ضمن الندوة العلمية “ظفار في ذاكرة التاريخ العماني” التي تنظمها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في مدينة صلالة خلال الفترة من 14-16 سبتمبر الجاري، قدم الدكتور صالح بن سعيد الحوسني -خبير شؤون الحج بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية- ورقته المعنونة «طريق الحج الظفاري والعادات المرتبطة به (دراسة وصفية).

بين الحوسني في حديثه لـ«أثير» أن الدافع العلمي لهذا البحث يتمثل في إضاءة طريق الحج من ظفار برًّا وبحرًا، ورصد المحطات التي يتوقف عندها الحجاج في تلك الطرق، وإظهار الأعراف والطقوس المصاحبة للرحلة منذ لحظة الاستعداد وحتى عودة الحاج، مع تتبّع الأخطار والصعوبات التاريخية، ثم توثيق التحوّلات التي لحقت برحلات الحج في العصر الحديث مدعومة بإحصاءات تعكس تطوّر القطاع.

وأوضح أن ظفار عرفت تاريخيًا بأسماء عدة في المرويات العربية واليونانية–الرومانية كـ«أرض اللبان» و«الأحقاف» و«الشِّحر»، بينما بقي اسم «ظفار» الأبرز تداولًا، مع تباينات لغوية في ضبطه ومعانيه في المصادر القديمة، وتورد الروايات الإسلامية إشارات مبكّرة إلى تجاوب أهل الشِّحر/ظفار مع دعوة الإسلام، ومنها وفادة رجال من المنطقة إلى المدينة المنوّرة في العام العاشر للهجرة، وهو ما يشير بوجود شبكات طريق وتجربة سفر راسخة سبقت التنظيمات اللاحقة لقوافل الحج.

مسارات الحج من ظفار

لخّص الحوسني مشهد المسالك التاريخية في مسارين بريين رئيسين ومسلك بحري واسع، حيث ينطلق المسار البري الشرقي من ظفار أو مرباط، ثم ينعطف عبر السفوح الشرقية لـجبل سمحان باتجاه حاسك، قبل أن يتوغّل شمالًا في بادية عُمان إلى الوسط والشرق مرورًا بمدركة والجازر؛ وهناك يتشعّب إلى فرعٍ يتّجه نحو جعلان، وفرعٍ آخر يميل شمالًا عبر أدم وقرية فَرق حتى كاظمة وشمال الخليج، مع تفرّعاتٍ لاحقة نحو اليمامة ونجد.

أما المسار البري الغربي فيغادر مرباط إلى ريسوت/جبل القمر، ثم يقطع جبال الساحل والوديان حتى حلقات/خلفات (خرفوت) فـرأس فرتك شديد الوعورة، ثم الحصوين وخِيريج والريدة وصولًا إلى الشِّحر والمُكلا فـأبين ولحج وعدن؛ وتظهر مسالك أخرى تصعد من ريسوت إلى عقبة قفط ثم الغِيل والحُلوف ومَضي حتى حبروت المؤدي إلى شبوة، لينفتح الطريق بعدها على تريم وشِبام وتعز وتفرّعات ساحلية باتجاه عدن.

وتذكر الذاكرة المحلية فرعًا شماليًا يفضّله بعض أهل شمال عُمان يمرّ عبر يبرين، كما سلك حجاجٌ ظفاريون طريقًا مركّبًا يبدأ بحرًا من موانئ ظفار ثم يتابع برًّا عبر منافذ الخليج. كانت قافلة الإبل تحتاج -بحسب الظروف- نحو ثلاثة أسابيع أو يزيد لعبور هذا العالم المركّب من الجبال والبيداء، حيث يغدو الخطأ في تقدير المسار مغامرةً تُهدد الأرواح.

محطات الطريق

تشكّل واحة الشِّصر/وبار محطة استراحة ورافد ماء بين مرباط وحضرموت، وتدلّ الروايات على دورها التاريخي في تنظيم «منازل» القافلة بين مفاوز الصحراء. وعلى الساحل، تنهض موانئ صلالة /ريسوت وطاقة ومرباط ورأس نورة وحاسك وجزر الحلانيات بدور بوابات الانطلاق والترانزيت؛ إذ تُنقل الأفواج الصغيرة بقوارب إلى المراكب الكبيرة أو تنزل إليها الحمولة تبعًا لحالة البحر. أمّا بحرًا، فيسلك الحجاج خطّ الشِّحر–باب المندب–البحر الأحمر حتى جدّة، أو يقطعون شرقًا نحو سواحل الهند/باكستان بما يتيحه موسم الرياح، ثم يتجهون إلى الحرمين، وهي مسارات كانت تسمح بمبادلة الركّاب والتموين وفق شبكات الموانئ التقليدية.

العوامل الطبيعية وتوقيت الرحلة

تؤثر تضاريس ظفار الثلاثية -النجد الصحراوي، السلسلة الجبلية، السهل الساحلي- ومناخ الخريف الموسمي على إيقاع الرحلة ومخاطرها. فالمسارات الجبلية تُختار في مواقيت اعتدال النسيم وتراجع الضباب الكثيف، بينما تُستغل الرياح الموسمية في الشق البحري لاقتفاء التيارات المؤاتية أو لتجنّب الأعاصير التي تعصف بالمياه القريبة من الساحل. هذا الوعي البيئي ينعكس في خرائط التوقّف وتوزيع الموارد وتدبير الزاد والماء، وفي قرارات الإبحار شرقًا حين يشتدّ البحر على خط ظفار-الشِّحر.

الاستعدادات قبيل الانطلاق

فصّل الحوسني في حديثه لـ “أثير” منظومة تجهيز دقيقة تبدأ من البيت وتنتهي في «الزّرب»؛ إذ يُعِدّ الحاج زادًا طويل الحفظ من القديد/المعجين والخبز اليابس «البرامي» والعسل والسمن، ويهيّئ القِرَب للماء وملابس الإحرام. أسريًا تُترك نفقةٌ كافية مع توكيل قريب لإدارة الشؤون، بينما تنسّق القافلة السجلّات والأسماء وتوزيع التكليفات: مؤذّن وإمام للصلاة، وحَمَلة للأمتعة، ومن يتولّى إعداد الطعام ونصب الخيام، إضافةً إلى تدبير ما يلزم من تمويلٍ مشترك ومبادلاتٍ على الطريق.

العادات والتقاليد المصاحبة للرحلة

يستهلّ الظفاريون الرحلة بـتوديعٍ جماعي تختلط فيه التكبيرات بالتهليلات، وتصطفّ الإبل في فناءات البيوت والدروب، ويرتفع نشيد الوداع لتليين قلب المسافر. وخلال المسير، تتردّد أهازيج “الحادي” لإذكاء الهمّة على امتداد القفار، ويغدو السفر مدرسةً للصبر والمواساة وتقاسم اللقمة. وعند العودة، تُرفع “البنديرة” على البيوت إيذانًا بوصول الحاج، وتستقبله الأناشيد وتعلو طلقات الفرح، وتُذبح الذبائح وتُخرَج الصدقات وتُوزّع الهدايا الرمزية من مِسابح وسجاد، وتُعقَد المصافحات وتتوالى التهاني في مشهدٍ يُعيد نسج العلائق بين الفرد والمجتمع.

تنظيم القافلة والأمن وقواعد السير

يقود الركب “أمير القافلة”؛ وهو رجلٌ يُشهد له بالخبرة في المسالك وطبائع الأرض، وبالقدرة على إدارة الطوارئ وفضّ النزاعات. تتقدّم القافلة على «منازل» يومية تُقدّر بنحو 30–40 كم تبعًا للماء والتضاريس، وتُفرض قواعد للسير والراحة والانضباط. أمنيًا كان السفر في جماعاتٍ مُسلّحة بالحذر، مع الاستعانة بحُرّاس وربما جنودٍ في مقاطع معيّنة، وتحمّل إتاواتٍ محدودة في تخوم بعض القبائل حين تقتضي السلامة ذلك، اتّقاءً لغارات قطاع الطرق وتقلبات السياسة والطقس.

الدور الاجتماعي على خطّ الطريق

ما كان للحاج الفرد أن يبلغ مقصده دون ضيافة الأهالي وإسنادهم على طول الطريق؛ إذ تتواشج القرى والحواضر في شبكة كرمٍ تمتدّ من موارد الماء إلى الفرض البحري، حيث تستقبل العائلات المراكب الوافدة وتبادر إلى قِرى ركّابها، وهي عادةٌ قديمة رسّختها الحاجة والديانة والعُرف.

الشق البحري: المواسم والتحديات

يُدار الإبحار وفق رزنامة الموسميات؛ فيُفضَّل المضي شرقًا أحيانًا لالتقاط رياحٍ مواتية وتجنّب أعاصير الساحل، ثم متابعة الطريق بحرًا أو استكماله برًّا. وعلى الرغم من براعة الملاّحين، ظلّ البحر يحمل مخاطره من عواصف مباغتة وحوادث قرصنة وردت في مدونات الرحّالة وأخبار البحّارة، ما استدعى أنماطًا من التحالفات والحماية والتناوب بين المرافئ.

Your Page Title