عدنان الصائغ
لا يمكن تكراره، صيرورةً أو سيرةً، نصاً أو حياةً. هكذا تَرَاءى لي الشاعر عبد الرزاق الربيعي؛ وأنا ألتقيه لأوّل مرّة، قبل أكثر من ثلث قرن (ولليوم): مزيجاً فريداً وخلّاقاً، من براءة الشاعر وألمه وعمقه وطيبته وحدسه وارتباكاته وحماقاته واستكشافاته.
كان ذلك ذات مهرجان شعري ملتبس (1984)، أعوام الحرب والتوجّس والغبار، كأن ثمة قدراً أن ألتقي شبيهي لنواصل الرحلة معاً، يضيف بعضنا لبعض، ونقتسمُ القراءات والخسارات والأمل:
“.. وأنا وأنتَ…
على الطريقِ:
ظلاّنِ
منكسرانِ
في
الزمنِ
الصفيقِ…
إنْ جارَ بي زمني
اتكأتُ على صديقي…”..
والى آخر القصيدة التي أهديته (من ديوان “العصافير لا تحبُّ الرصاص” 1986) وإلى آخر المواجع والذكريات..
كيف قرأ أحدنا الآخر وقتذاك؟ وكيف نقرأنا الآن؟ داخل النص وخارجه!
وأمام موجة الغموض أو المباشرة، سنوات الثمانينات، افترعنا طريقاً آخر لنا، لم نتعلمه من الكتب أكثر مما تعلمناه من الحياة نفسها: الروح والوجع والحذر.
دلّني على مجاهيل، وأدخلته أخرى، كأنّا نكتبُ نصاً واحداً بتلاوين وأوجاع مختلفة.. وقد فعلناه يوماً ما (1991)، ولم يُنشر النص وقتها لحدة الألم الذي فيه: [تقاسيم على الرصاص الحيِّ].
ثم وتشاطرنا نص المنفى (1993-…)، كأن قدرنا أن نلمَّ بشتاتنا الواحد من طرفيه: (العربي والغربي)؛ شاداً رحاله إلى صنعاء ثم مسقط، ومتأبطاً منفاي إلى السويد ثم لندن.. وبيننا الغربة والقصيدة.
أذهبُ بعيداً وأعود إليه، ويذهب بعيداً ويعودُ إليّ، تجارب تستكشف أخرى، تضيف وتغاير وتجترح..
المفارقة المغرية لي وله، حين أتحدث عنه، أجدني كأنني أتحدث عني. وحين أتحدث عني، كأنني أتحدث عنه. وهو ما يفعله أيضاً.. وكذلك يفعل الكثير من الدارسين أو الشعراء أو القرّاء عند حديثهم عن أيٍّ منا.
لكنه واصلَ عمله في عالم الصحافة، فاتحاً عدسة عينيه، لرصد الشارع والثقافة والنبض، لم ينقطع يوماً [وانقطعتُ] منذ أن دخلناها معاً أيضاً ذات ظرفٍ ومعتركٍ. لكنك من الصعب أن ترسم خطاً فاصلاً بين ريبورتاجه النصي، ونصه الشعري! لغة متدفقة والتقاطات ماهرة كـ صياد حاذق يعرف كيف يستدرج الفكرة – اللقطة – (مثلما القصيدة) إليه.
نصُّهُ مُنْتَجُ حياته وتقلباتها وانكسارتها وأحلامها واستشرافاتها – هل أتحدثُ عنه أم عني! – كل قصيدة هي اكتناز تجربة وحب، وأيضاً انصهار منجم معرفي. كان حريصاً على قراءة كل شيء، وفي هذا الشيء كان يجد الشعر، وتلك ميزته الخاصة للالتقاط.. إنه قناص صور وأفكار بارع.
من الصعب أن تختصر حياته أو نصوصه بسطور أو دراسة أو كتاب. فكيف لي بهذه الكلمات!؟.
………
{قليلاً.. من كثير “عزّة” (ديوانه الأخير 2016)}؛ هل هي “تراجيديا شعريّة باذخة” كما يصفها صديقنا الناقد د. حاتم الصكر، أم هي إلحاقٌ بميتاته السابقة، على حد ما عنونه الربيعي نفسه لأول ديوان له في ثمانينات الحرب والموت والطاغوت (1987).. ذلك أن الموت لم ينفصل عنه، لهذا أعلن حداده الأبدي على ما تبقى (ديوانه الثاني 1992)، منذ أن فتح عينيه على الجنائز المعلقة (ديوانه الرابع 2000)، كأن الفقدان قدرٌ يتبعه كظله، فاتحاً شدقيه لالتهام كل ما قد تجود به حياته الشحيحة من مسرات، وآخره هذا القليل الجميل.
11/6/2016 لندن