في كل مرة أزور جمعية المكفوفين الكويتية أعود من الزيارة وانا أحمل عبء عينيّ المبصرتين. قبل أن أزور الجمعية لأول مرة قبل عامين تقريباً لم أكن أعرف الكثير عن عالم المكفوفين إلا في إطار النسق المعتاد لصورة الكفيف بنظارتيه السوداوين وعصاه وطريقته في المشي وغيرها من دقائق الصورة النمطية التي لا تعتمد على اقتراب حقيقي منهم بقدر اعتمادها على مرئيات الإعلام في تصويره لتلك الفئة.
كنت أسميه عالم المكفوفين فعلا وكأن لهم عالمهم الخاص بهم والذي يعيشون تفاصيله المختلفة عن تفاصيل عالمنا نحن المبصرين، لكن تلك الزيارة التي عقدت من خلالها علاقة صداقة قوية ومستمرة بيني وبين جمعية المكفوفين وأعضائها غيرت الكثير من مفاهيمي عنهم.
عدت يومها أشعر بالنقص وأتلمس حواسي الناقصة وأنا أستعين بها لأكتب عن الزيارة مقالة عنونتها ب “ارم نظارتيك” مستعينة ببيت شهير لنزار قباني وجهه لأشهر أديب عربي كفيف وهو طه حسين. في ذلك المقال كتبت؛ “هل كان نزار قباني يخاطب طه حسين لوحده؟ أم كان يوجه كلامه لكل من فقد بصره ولم يفقد بصيرته عندما قال له ذات قصيدة مجنحة في ديوان الشعر العربي:
ارمِ نظارتيــك كي أتملىَّ/ كيف تبكي شواطئ المرجانِ
ارمِ نظارتيك، ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان؟
في تلك القصيدة التي ألقاها الشاعر في سياق حفل أقامته جامعة الدول العربية احتفاء بطه حسين في إحدى المناسبات، كسر قباني ذلك الزجاج الضبابي الذي يفصل بينه وبين طه حسين بصفته أعمى في حوار ثوري من طرف واحد، على الرغم من حضور طرف الحوار الآخر في المناسبة، ليحول تلك القصيدة التكريمية الى ما يشبه الاعتراف الانساني المؤجل ببؤس التعامل العربي تحديدا مع فئة من الناس حرمهم القدر من حاسة البصر، فقررت البشرية الناقصة بفهمها أن تتعامل معهم في غالب تعاملاتها بصفتهم قد حرموا أيضا من بقية الحواس، أو ربما باعتبارهم ناقصين في طبيعتهم البشرية.
والأسوأ أن ذلك يتم بحسن نية من قبل الجميع، تقريبا، فيبدو من يتصرف بهذا الفهم الناقص وكأنه متعاطف مع هذه الفئة، فلا يشعر بتأنيب ضمير مثلا ولا بحاجة لإعادة النظر في طريقة تعاملاته معهم ولا في فهمه لطبيعة معاناتهم فيحصرها فقط في فقدانهم البصر، غير مدرك أن هذا الفهم الناقص ربما هو أكبر ما يعانونه…”.
قضيت في زيارتي الأولى لجمعية المكفوفين ساعات استغرقت معظم نهاري، ولم أكن أشعر بمضي الوقت وأنا أشارك في كل أنشطة ذلك اليوم، وكانت متعتي الحقيقية قد تجلت في استماعي لمشاركاتهم الإبداعية في الشعر والقصة القصيرة. فقد استمعت يومها لمواهب أدبية حقيقية مدفونة في غياهب التجاهل الإعلامي العربي. آلمني كثيرا آنذاك أنني مشاركة من حيث لا أدري ككثيرين من الإعلاميين والصحفيين المشرفين على الصفحات الثقافية، في دفن تلك المواهب لصالح مواهب لا ترقى إليها لمجرد أن أصحابها مبصرون، صحيح أن هناك بعض أصحاب هذه المواهب من المكفوفين قد فلتوا من أسر التجاهل الإعلامي بفضل جهودهم الفردية الخارقة إلا أن كثيرين غيرهم لم ينجحوا في الأمر لأسباب كثيرة أهمها أن الإعلام العربي يتعامل مع هذه الفئة وربما كل فئات ذوي الاحتياجات الخاصة في سياقين أحلاهما مر، أولهما غض الطرف والآخر الاحتفاء المبالغ فيه وغير المعتمد على مستوى الموهبة وإنما على كون صاحبها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا يعني مزيد من التجاهل للموهبة وعدم الجدية في التعامل معها.
في زيارتي الأخيرة لجمعية المكفوفين الكويتيين بمناسبة استضافتها للملتقى المكفوفين العرب (أمس الثلاثاء) ذهبت هذه المرة وأنا أعرف تماما من سأقابل وكيف أتصرف معهم وأخاطبهم. لم استغرب مثلاً وأنا أراهم يستخدمون اللابتوبات والآيفونات وغيرها من الأجهزة الحديثة، ولم يدهشني أن كثيرين منهم يتابعني على تويتر، ولم أسأل أحدهم وهو يناقشني في مجموعتي الشعرية الأخيرة “كيف قرأتها” بل مضيت أناقشه بكل جدية تليق بجديته في القراءة والنقاش، ولم يسترع انتباهي نقاشاتهم في كل القضايا المطروحة سياسيا وثقافيا واجتماعيا ورياضيا أيضا، وازداد اعجابي بهم وأنا أرصد أن القلة القليلة فقط منهم اتخذت من موضوع “العمى” منطلقاً للكتابة الإبداعية في حين تنوعت موضوعات الآخرين تماهياً مع موضوعات الأدباء المبصرين بشكل حقيقي وغير مفتعل، وأن شواطئ المرجان التي أراد نزار قباني أن يتملاها في نظرات طه حسين الدامعة ذات يوم قد امتدت وعبرت حدود النظارات السوداء إلى حدود الكون كله من دون الحاجة للدموع!
مرة أخرى.. خرجت من ملتقى المكفوفين العرب.. بذلك العبء الثقيل؛ عينان مبصرتان لا تعنيان شيئاً بالنسبة لهؤلاء الذين حولت إرادتهم كل خلية من خلاياهم إلى عين مبصرة!