أبجد

عبدالله الخليلي شاعر عمان الأول

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

عبدالله الخليلي

شاعر عمان الأول

 

أحمد الفلاحي

 

إن فعلي مرءآة ذاتي ولكن                 لا أراني فيها وغيري يراني

فإذا شئت أن تراني يقينا                   فبفعلي وما أقول تراني

لا تسلني عني وسلك لتدري              كنه شاني أولا فسل من رءاني

أنا للناس لا لنفسي شعرا                  وفعالا فهل بعيني أراني

 

        هكذا أجاب شاعرنا الكبير الشيخ عبدالله الخليلي على سؤال يطلب منه تقييم شعره كما يراه هو لا كما يراه الناس؟ فهو يرى أن تقييم الآءخر المتلقي هو الأدق من تقييم صاحب الشعر لشعره لأن الذات يصعب عليها أن ترى فعلها من كل جوانبه. ولعل في الجواب شيء من التهرب ومن التواضع أيضا.

 

        الشيخ عبدالله بن علي الخليلي كان الشاعر الأول في عمان على مدى ما يزيد من نصف قرن وكان ذا ملكة شعرية متميزة ينساب الشعر من ذاته انسياب الماء من السحاب ولكنه لا يترك قصيدته كما أفرزتها الموهبة وإنما يجتهد في تنقيحها وإصلاحها وتهذيب لغتها وصورها وتنسيق جملتها ويظل لفترة يعاود النظر فيها يغير ويبدل ويحذف ويضيف إلى أن يراها قد استقامت واكتمل بنيانها وحينذاك يطلقها ليراها الناس ويقرأونها وهو راض عنها.. وكانت ثقافته الشعرية واسعة محيطة بالكثير من قصائد الشعر العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى العصر الذي كان هو فيه. وكذلك كانت ثقافته اللغوية والنحوية عالية المستوى لم يكد يفته شيء من علوم البيان وفنونه وهذا هو الذي حمى شعره من الأخطاء وعصمه من الزلل وكانت جملته الشعرية رصينة قوية.

 

        بيد أن بيئته العمانية المنغلقة إبان تكونه وانبلاج شاعريته أثرت عليه تأثيرا كبيرا حيث انطبعت قصيدته على المذاهب التقليدية واللغة القديمة التي يبتعد أكثرها عن الأساليب العصرية الحديثة وهو نفسه قد لاحظ هذا الشيء في إبداعه ولكنه لم يستطع تخطيه وتجاوزه إلا في اليسير ولو أن موهبته احتكت في بدايات إشراقها وتفتحها بالحضارة الحديثة وكانت على صلة بتجاربها ونظرياتها لرأينا في شعره لغة وأجواء الشعراء المحدثين كأمثال الجواهري  والأخطل الصغير وإبراهيم ناجي وأضرابهم من أعلام القصيدة العمودية الحديثة.

 

        الشيخ عبدالله الخليلي من أسرة شعرية فاض الشعر في شتى جوانبها فجده الأكبر مفتي عمان في وقته الفقيه العلامة الشيخ سعيد بن خلفان كان شاعرا مجيدا بليغ الكلمة وجده المباشر لأبيه الشيخ عبدالله بن سعيد يعد من الشعراء الكبار وجده لأمه الشيخ أحمد بن سعيد هو شاعر كذلك وهذه  الأسرة الشعرية البارزة لم تكن أسرة شعر فحسب وإنما هي أيضا أسرة علمية فقهية توارثت العلم أبا عن جد على مدى قرون متوالية وقد ورث الشيخ عبدالله من آبائه وأجداده علوم الفقه واللغة والأدب إضافة إلى الشعر الذي برز فيه ..

 

وقد طرق شاعرنا معظم أبواب الشعر العربي كشعر الذاتيات والوجدانيات والشعر المتعلق بالذات الإلهية والمدائح النبوية والشعر الوطني والقومي وشعر الحكمة والرثاء والغزل وكان ديوانه الأول “وحي العبقرية”  قد جاوز الخمسمئة صفحة ومجموعته الشعرية الكبيرة الأخرى  التي أسماها “فارس الضاد” التي ما تزال مخطوطة لم تطبع بعد لعلها تصل في صفحاتها إلى ضعف عدد صفحات “وحي العبقرية” إضافة إلى دواوينه الأخرى “نافذة الحياة” و “وحدة الشعب” و “بين الفقه والأدب” وغيرها.. وكانت نشأة الشيخ عبدالله في مدينة “سمائل” التي يطلق عليها العمانيون لقب “الفيحا” لتدفق مياهها وخصوبتها وشدة اخضرارها حيث عززت هذه الطبيعة الجميلة شاعريته وحركت مكامنها. ومدينة “سمائل” معروفة في عمان بكثرة شعرائها المتعاقبين لأجيال متوالية..

 

والشيخ عبدالله كما هو حال أغلب الشعراء يحب الأدب ويسعده مجالسة أهله والمشتغلين به ولعل هذا هو الذي دفعه إلى إقامة مجلس خاص للأدب والشعر في بيته ينعقد كل أسبوع يحضره الشعراء وهواة الأدب من القائلين والسامعين وكان لذلك المجلس إسهامه في إثراء الساحة الأدبية العمانية وتنشيطها حيث كانت تلقى فيه القصائد ويتم نقدها والتحاور حولها إضافة إلى الجوانب الأدبية الأخرى..

 

        وللأسف الشديد لم ينل شعر الشيخ عبدالله من عناية الباحثين والدارسين ما يستحقه ويتناسب مع مستواه الراقي والسبب في ذلك على ما أظن جزالته وقوته وعمقه حيث يتطلب الدخول في عوالمه الكثير من الجهد والمشقة والصبر لذلك يتهيب الباحث الارتطام بصوره الباهرة ولغته الجزلة وجملته المحكمة ومعانيه الدقيقة ويذهب لما هو أسهل منه..

 

        وهذا الشعر القوي البليغ لم يخرج من عمان ولم يصل إلى عشاق الكلمة الشعرية في عواصم الثقافة العربية ومنتدياتها كون الذي نشر منه طبع طبعة محلية والذي لم ينشر وهو الأكثر ما زال لم يطرق أبواب المطابع بعد وامنياتنا أن يجد طريقه إلى دور النشر الكبرى في لبنان وغيرها ليتم التعرف عليه وليتاح له الإنتشار والتمدد.

 

        وقبل أن نختتم هذه الأسطر القليلة المتعجلة سنحاول مقاربة شيء من أشعار الشيخ الخليلي بتقديم نماذج منها لإعطاء فكرة عن نوعية شعر هذا الشاعر كلمحات قد تفتح دروب الولوج لشعريته التي ما تزال شبه مجهولة للقارئ العربي.

 

        في إحدى قصائده الصوفية وعنوانها “الحمول” يقول  شاعرنا:-

 

وكأن الدنيا حوالي سطر                  من حروف توحي بكل عجيب

وكأن السماء وهي نجوم                   تتجلى عنها عيون الرقيب

وكأن الفضاء خيمة عرس                عرست حولها حداة القلوب

وكأن النسيم في حافتيها                    نفحة من رداء غيد لعوب

وكأن المياه تنساب فيها                    نفس الروح أوجلاء الكروب 

 

ذلك نموذج لرصانة القول ولرهافة الحس والإبانة عن خلجات النفس الذاهبة إلى عوالم الملكوت العليا وكلمة “وكأن” الوصفية المترادفة التي تكررت لعشر مرات في لفظها المجرد “كأن” ولأكثر من عشر أخرى في صيغة ضمير المتكلم “كأني” توضح مدى اصطخاب دواخل الذات وقوة خفقان حراكها جاذبة المتأمل للقصيدة إلى عوالم ممتدة لا نهائية أشبه بالموج المتدفق المتلاطم في بعضه البعض.

 

وفي مقام التوسل والرجاء يرفع الكف ضارعا:-

 

إلى الله في أسمائه أتزلف          وبالله في ءآياته أتعرف

وفيه به منه له عز شأنه           رجائي وامني والهدى والتصرف

وإياه أعني لو كنيت بغيره         وفيه به أعني ولا أتكلف

 

        استغاثة والتماس وتلطف في السؤال والتصاق بالحضرة الإلهية المقدسة في استكانة وخشوع ورجاء وأمل واستعطاف.

       

        لقد احتوى ديوان “وحي العبقرية” أحد عشر مجالا وفي كل مجال منها عشرات القصائد تفيض في موضوعاتها بئايات البيان المشرق الرفيع المعجب..

 

فقدنا منك يا “حمدان” شخصا            كأن العلم في يده النجوم

فقدنا منك حرا أريحيا                      خليقته السراط المستقيم

فقدنا منك أزهد من عرفنا                         حليم الطبع إن لؤم الحليم

فقدنا سيبويه العصر فيه                   وأعظم ما فقدناه الصميم

 

        هذه أبيات من مرثيته في استاذه عالم النحو والعربية الشيخ حمدان بن خميس اليوسفي وقد امتلأت القصيدة بالحزن والتأثر لفقدان ذلك الخبير الضليع الذي اشتهر بالزهد والعبادات وسمات الصلاح وكان مقربا لديه وأحد اصدقائه الحميمين.

 

ومن نماذج إخوانياته خطابه لشيخه العلامة الفقيه المؤرخ سالم بن حمود السيابي

 

يا سالم بن حمود يا بن بجدتها            حتام سعيك بين السيف والقلم

تجلو الطريدة في ماضي الشباة كما     تجلو الغريبة في مألوفة الكلم

جلوت ءآي بيان كالغزالة في             رادالضحىماطوتوخطاعلى كتم

جلوتها بين هالات الجمال لها            نور يزحزح عنها طرة الظلم

 

        وصف لسعة معارف شيخه العلمية وسعيه الدائب لخدمة العلم وكشف دقائقه وإشادة بقصيدة الشيخ التي بعث بها إليه محكمة الصياغة فائقة البيان بليغة المعنى.

 

        وفي خطابه لأخويه وقد حل يوم العيد وهما بعيدان عنه وهو بسبب عدم وجودهما معه لا يحس بالعيد ولا بأجواء فرحته التي اعتادها حين كان شمله مجتمع بهما:-

 

وهل صافحتني بالسبات نجومه          وألحفني بالياسمين رداؤه

وهل بات منه جانبي غير شوكه                 وهل لذ لي مقليه وشواؤه

سل الراحلين التاركين أخاهما            وراءهما والدهر وعر وراؤه

هل ارتضعا ثدي النعيم فهوما             عليه وفي النعماء للمرء داؤه

سليلا أبي إني على ذلك الوفا             مقيم إذا خان الصديق وفاؤه

 

        حسرة تمتليء بها نفس الشاعر صباح ذاك العيد الذي جاءه هذه السنة وهو وحده وقد سافر عنه شقيقاه بعيدا فهو غير قادر على الالتذاذ بأطعمة العيد ولا على استشعار بهجته كما كان يجدها في أعياده السالفة وهما معه.

 

        وشاعرنا كدأب الشعراء من قبله استهواه الجمال وأبدع في وصفه وفي الهمس إليه ومناجاته:-

 

وحبيب كالثريا              يتجلى دون رين

بات يطويني بخصريه     فما ادركت عيني

وغدا ينشرني للريح        بين الخافقين

ذهبي الشعر لكن            عندمي الشفتين

بدوي اللحظ لكن            حضري المرشفين

جوهري اللفظ لكن          لؤلؤي المبسمين

 

        هكذا يطويه الحبيب بخصريه وينشره للريح ولكن بين الخافقين يبادله النظرات ويبسم له بالثغر اللؤلؤي مغريا إياه بالمراشف العندمية الداكنة الإحمرار.

 

        وفي قصيدة أخرى:-

       

أما إذا ظفرت بالحبيب             فالعق عسله

وبثه شكوى الغرام                  وارتشف مقبله

وضمه والثمه واخلع               بالعناق حلله

وعض فوق غصنه                 رمانة مدللة

وغنه لحن الهوى                   من بعد أن تقبله

 

        ذاك هو اللقاء الحسي بين المحبين القبلة والعناق والإندماج الكامل بمقدماته ونهاياته كما يراها الشعراء دوما على مختلف أزمانهم إنه غزل الشعراء في ملهماتهم وقد امتلأت به الدواوين وشاعرنا على عفته وتحفظه واحد منهم يتجول في رياض النساء ويستجلي محاسنهن بالكلمة الناطقة والصورة المعبرة.

 

        ذلكم هو الشاعر الكبير الشيخ عبدالله بن علي الخليلي الذي ملأ الساحة العمانية بشعره العذب الجميل لأكثر من نصف قرن.

 

        وهذه كلمة مختصرة عنه توجز ولا تفصل كنوع من التعريف بهذا الشاعر وشعره.

 

  • شهادة الأديب أحمد الفلاحي في كتاب”عبدالله الخليلي ..كلاسيكيّة متجدّدة ” للشاعر سعيد الصقلاوي الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري في الكويت 

شهادة الأديب أحمد الفلاحي في كتاب”عبدالله الخليلي ..كلاسيكيّة متجدّدة ” للشاعر سعيد الصقلاوي الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري في الكويت 

Your Page Title