أبجد

حوار مع الروائي حسونة المصباحي

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

حسونة المصباحي

 

تجربتي الفعليّة في الكتابة بدأت في ميونيخ

المجتمع التونسي لم يكن مهيّئا لقيام ثورة حقيقيّة باتّجاه المستقبل

 

محمد الهادي الجزيري

 

كاتب عربيّ ينهض باكرا ، يمارس رياضة السير كلّ صباح ولا بدّ من قطع المسافة المقرّر قطعها ، لا بدّ كذلك من الجلوس للقراءة والكتابة طوال اليوم مع احترام المواعيد المضبوطة للغداء والعشاء والنوم ، في حياته حيّز للأصدقاء لكن من المستحيل أن يشوّش أحد إيقاعه اليوميّ أو أن يطمع في تمديد الوقت المخصّص له ، من الجليّ أن إقامته الطويلة في ألمانيا لقّنته الانضباط والمثابرة ، لكنّها لم تفصله عن تونس رِيفا ويسارا وذكرى وواقعا ، فلم تخل مجامعيه القصصية ورواياته ومقالاته وحواراته من هموم وطنه وآماله كذلك، إنّه حسونة المصباحي الموغل في الأرض والورقة ، المغامر الذي كان لنا معه هذا الحوار

 

*لنبدأ بالحديث عن قرار العيش للكتابة وبها في محيط تطغى عليه الأميّة واللامبالاة والجحود كذلك، هلاّ استحضرت لنا اللحظة الفارقة التي اتّخذت فيها قرار العيش بكدّ قلمك وما حكمك على قرارك اليوم؟

 

ــ منذ منتصف السبعينات وحتّى الثمانينات عشت ظروفا ماديّة ومعنويّة صعبة للغاية،فقد فُصلت من عملي كأستاذ مساعد في اللغة الفرنسية لأسباب نقابيّة وسياسيّة، ومع الانفراج الذي تحقّق بعد ” أحداث قفصة” ووصول محمد مزالي إلى الحكم ، حاولت العودة إلى العمل، غير أنّ الذي سعى إلى مساعدتي على ذلك وهو الأديب الراحل الميداني بن صالح ، جاءني ذات يوم ليقول لي :انس التعليم وابحث عن مجال آخر.

 

كنت في ذلك الوقت قد استعدت حيويّتي للكتابة وشغفي بها، بعد إهمالي لها لانشغالي ” بالنضال السياسي ” وحين استعدت جواز سفري الذي كان محجوزا، سافرت إلى باريس فوجدت فيها ما زاد في حماسي للكتابة فقد تعرّفت على شخصيات أدبيّة مرموقة من أمثال ميشال دي قي الشاعر الفيلسوف، وَايتيل عدنان ومحمود أمين العالم وأحمد عبد المعطي حجازي وشربل داغر وآخرين، ومن باريس انتقلت إلى مدريد لأعيش أجواءها في بداية الحكم الاشتراكي والتقيت بالشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وأجريت معه حوارا مثيرا للاهتمام حول الشعر والحياة والأسفار والتصوّف الذي وسم البعض من قصائده…

 

*لكن هل كنت تبحث عن نافذة ما للكسب أم اتّخذت قرارك في هذه اللحظة الفارقة من حياتك أن تعيش بالكتابة ولها؟

 

ــ كنت من خلال اللقاءات التي ذكرتها آنفا أتطلّع إلى ما يمكن أن ينقذني ماديّا دون أن يبعدني عن الكتابة، فيمكن القول أنني أضمرت ذلك وبدأت بتطبيقه على الأرض

 

* جميل ، لنواصل متابعتك في هبوبك الأوّل، في أيّ اتّجاه توغّلت؟

 

ــ من مدريد انطلقت إلى المغرب، حيث التقيت بفنانين وكتّاب متميّزين من ضمنهم محمد برادة وعبد الكريم غلاّب وعبد اللطيف اللعبي الذي كان قد خرج توّا من السجن ، ورغم الحصار المضروب على بيته ، تمكّنت من إجراء حوار مطوّل معه حول السياسة والشعر وتجربة السجن وقضايا التحرّر ..، وعند عودتي إلى تونس أرسلت الحوار إلى مجلّة الدستور في لندن، فإذا بي أتفاجأ بعد أسبوعين بصدوره ، لأصبح منذ ذلك الوقت مراسلا للمجلّة المذكورة.

 

*هل يمكن القول إنّ هذا الترحال الأوّل كان حاسما في مجريات مسيرتك الأدبيّة وحياتك عموما؟

 

ــ نعم كانت رحلة مفصليّة ، إذ كانت نهاية مرحلة الاضطراب والتشرّد والضبابيّة وبداية العودة إلى الكتابة واتّخاذها كمصدر للعيش وكنت سعيدا وواثقا من الطريق التي سلكتها ، كانت رحلة اكتشاف للعالم والحياة وحقول المعرفة، فعندما كنت أجوب مكتبات باريس ومدريد والمغرب ، تعرّفت على مبدعين لم تتسنّ لي معرفتهم من قبل، كما أكّدت لي رحلتي الأولى أنّ الكتابة الحقيقيّة لابدّ أن تكون مرتبطة بالمغامرة ارتباطا وثيقا ، المغامرة الطامحة إلى الاكتشاف والبحث الدائم عن آفاق جديدة

 

*وهكذا ألقيت نفسك في محيط اجتماعي وثقافيّ لا علاقة لك به أصلا، أقصد ألمانيا طبعا، تلك التي لم تكن تنطق جملة واحدة من لغتها…

 

ــ لا أخفي أنني ضقت ضرعا بالحياة في بلادي ولم أعد أتحمّل العيش فيها ، إذ بدت لي مسدودة الآفاق على المستوى الثقافي والسياسيّ ،لذا كنت أسافر كثيرا إلى أوروبا وحضرت سنة 1984 في مدينة ” لند ” السويديّة مؤتمرا مهمّا عن الشعر العربي والسويدي، أشرفت عليه الأكاديميّة السويديّة التي تمنح جائزة نوبل للآداب، ومن السويد ذهبت إلى ألمانيا بدعوة من الدكتورة ” آرد موتا هيلر ” المشرفة آنذاك على مجلّة ” فكر وفنّ ” ، ومنذ البداية راقت لي مدينة ميونيخ ، رغم جهلي التام للغة الألمانية، بدت لي أنّها المدينة المثاليّة التي يمكن أن أستقرّ بها ، نظرا لجمالها وهدوئها وكثرة متاحفها وأنشطتها الثقافيّة التي تسم الحياة فيها…

 

*بعجالة، كيف تقيّم تجربتك الألمانيّة؟

يمكن القول إنّ تجربتي الفعليّة في الكتابة بدأت في ميونيخ، فقبل ذلك اقتصرت على كتابة قصص قصيرة وترجمات ومقالات نقديّة، لكن في ميونيخ كتبت أوّل رواية لي وهي ” هلوسات ترشيش “ثمّ ” الآخرون ” و ” وداعا روزالي ” ، كما أنجزت مع الدكتورة هيلر كتابا مهمّا عن الحبّ والجنس في الثقافة العربيّة الإسلاميّة ، صدر عن دار ” باك ” ، إضافة إلى العديد من الأنطولوجيات والدراسات الفكريّة التي تناولت وتضمنّت نصوصا لنخبة من أهمّ المبدعين والمفكّرين العرب، وحقيقة لا يمكنني أن أنسى أبدا فضل الألمان عليّ، فقد أكرموني واحتضنوني ومنحوني جائزة ” توكان ” لأفضل كتاب لروايتي ” هلوسات ترشيش “، كما لن أنسى أنّهم قدمّوا لي منحة وإقامة في البيت الألماني ” فيلا أورور” بلوس أنجلس ” حيث أنهيت روايتي الأخيرة ” أشواك وياسمين “…

 

* هلاّ وضعتنا في أجواء ومناخات عملك الروائي الأخير…

 

ــ عندما حدثت الرجّة الكبيرة التي أدّت إلى انهيار نظام بن علي بعد 23 سنة من الحكم،تبيّن لي أنّ المجتمع التونسي لم يكن مهيّئا لقيام ثورة حقيقية باتّجاه المستقبل، أدركت منذ البداية أنّها وهم وطريقة مكّنت الانتهازيين والأصوليين المتطرّفين من زرع الخراب والفوضى في البلاد والعبث بمؤسسات الدولة التونسية ، والتشكيك حتّى في الانجازات التي حقّقها التونسيين في العقود الستّة التي تلت الاستقلال ..

سمحت لي تلك الرجّة أن أتعمّق من جديد في التاريخ التونسي المعاصر والقديم ، لأبيّن أنّ الفساد والمحسوبيّة والاستبداد لا يختصّ به نظام بن علي وبورقيبة ، بل نجد سمات لكلّ ما ذكرت في عهد البايات وفي عهود أخرى غابرة، وقد قارنت في

 ” أشواك وياسمين ” بين ثورة العربان التي وقعت سنة 1864 وبين الانتفاضة التي وقعت في نفس المنطقة ، أي في الوسط التونسي نهاية 2010 ، كما رويت سيرتيْ فاسديْن نهبا خزينة المملكة التونسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني بذلك محمود بن عيّاد ومصطفى بن اسماعيل الذي مهّد لاحتلال تونس من قبل فرنسا سنة 1881، كما تعرّضت إلى طغيان مراد الثالث ” مراد بوبالة ” كما سمّاه المؤرّخون والذي كان يخرج للناس رافعا سيفه وهو يصرخ ” سيفي عطشان للدم “، كما تطرّقت إلى تفاصيل بعض الفتن التي عصفت بالبلاد التونسية خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر مفردا فصلا لغزوة الهلاليين الذين ما يزالون إلى اليوم يتّصفون بالتخريب والفوضى والعنف ، وهذا ما عشناه ونعيشه في تونس على مدى الخمس سنوات الأخيرة…، وقد عمدت إلى اختيار لغة مناسبة لكلّ فصل من فصول الرواية ، فمثلا اعتمدت لغة قريبة من أحمد بن أبي الضياف في كتابه ” إتحاف أهل الزمان” لكتابة الفصول المتعلّقة بثورة العربان أو بفساد مصطفى بن اسماعيل.. وأترك للقرّاء اكتشاف طقوس الرواية وتفاصيلها …..

 

* ختاما لهذا الحوار الذي أردتُه جردا سريعا لمسيرة حافلة بالمثابرة والعناد والمغامرة، نودّ أن نعرف آخر ما يحدث في ورشة حسونة المصباحي..

 

ــ خلال إقامتي في لوس أنجلس رسخ إيماني بأنّ السينما أضحت الفنّ الأكثر انتشارا في العالم، تسمح للروائيّ بالوصول إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء، هذا الأمر دفعني إلى كتابة سيناريو يتناول سيرة مصطفى بن اسماعيل الذي بدأ حياته مشرّدا في شوارع العاصمة ثمّ بسبب علاقة ” خاصة ” بالصادق باي ارتقى سلم السلطة إلى أن أمسى وزيرا أكبر…، سيرته شبيهة بسير شخصيات شكسبير، وقد سمحت لي هذه التجربة بامتلاك أدوات كتابة السيناريو ، وأفكّر في كتابة سيناريوهات أخرى انطلاقا من من بعض مجاميعي القصصية ورواياتي ، وبذلك أكون قد فتحت أفقا جديدا في مسيرتي الأدبيّة …..

 

Your Page Title