عن البراء.. والبراءة!
سعدية مفرح
هل تعرفين البراء أشرف؟ باغتتني زميلة مصرية بهذا السؤال بعد “الألو” وقبل التحية، ولأن الاسم بدا غريبا بالنسبة لي، سكت قليلا لأتذكر إن كنت أعرفه أم لا، لكنها لم تنتظرني، فأردفت بصوت ثقيل تخيلته مبللا بالدموع: مات أمس وهو لم يكد يصل الثلاثين من عمره!
وكأن خبراً كهذا هو ما ينقصني بالضبط لأبدأ ليلتي بعد أن أمضيت نهاري كله بين أخبار الموت المعتادة هذه الأيام على شواطئ اللجوء العربي في كل مكان!
مضت الزميلة بعد شهقتي المواسية لحزنها الذي وصل عبر الهاتف من القاهرة الى الكويت، تصف لي كيف كان الصحفي المصري الشاب البراء أشرف مشروع أديب حقيقي لو أن القدر أمهله ليكتب ما كان يحلم به، وليحلم بالمزيد من الكتابة، وليتجاوز ما تركه من مقالات متناثرة في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية ومدونته الخاصة نحو نص إبداعي في فضاء أحلامه الإبداعية المنتظرة!
كانت الزميلة تحكي عنه كما لو أنه ولدها أو شقيقها الصغير، فينكسر قلبها كلما نطقت باسمه مصحوبا بواحدة من صفاته الحميمة والتي لا تعبر عنها إلا العامية المصرية الأليفة؛ “دا كان زي النسمة، دا يا قلب أمه ابن موت من يومه، دا يا عيني عليه مش بيشبه حد من جيله…”، ومضت بين دمعة وأخرى ترسم ملامح البراء ملاكاً هبط من السماء ليعمل في شارع الصحافة!
لا أتذكر أنني كنت قد قرأت حرفاً واحداً لهذا الملاك الصغير، ولم أسمع باسمه حتى قبل أن تنطق به زميلتي المفجوعة بخبر رحيله! لكنني لم أنم في تلك الليلة التي بدأت بالمكالمة الحزينة تفكرا بكل شيء وتأملا بخبر موت شاب لا أعرفه حيث يمكنني الوقوف بحياد على ذلك الخيط الرفيع ما بين الموت والحياة في تلك الحالة المحددة.
هل نستطيع فعلاً أن نقف ذلك الموقف، نحن المنتمين بوجودنا كله إلى الحياة حتى تحين لحظة الرحيل فننقلب إلى الطرف الآخر بلا حول منا ولنا ولا قرار ولا اختيار ولا حتى معرفة مسبقة؟ نوهم أنفسنا بالحياد المستعار لتمضي الحياة ونمضي معها وحسب!
صباح اليوم التالي كان وجه البراء ذي السحنة الطفولية والبدانة الظاهرة يطالعني في كل المواقع الإلكترونية التي اعتدت أن أبدأ بها يومي لملاحقة آخر الأخبار ضمن متطلبات وظيفتي الصحفية!
صوت الزميلة الحزين، والذي منعني من النوم الليلة البارحة، دفعني لأن أستجيب لفضولي، وأحاول اكتشاف سر هذا الشاب الذي أجمع كل من كتب عنه في ما قرأته على فرادته في الكتابة والصحافة والثورية والنبل أيضا. أستطيع التمييز بسهولة بين مجاملات الرفقة والزمالة في حضرة الموت ورهبته الأولى، وبين الأسى الحقيقي الكامن وراء عبارات العزاء والنعي.. وكانت الغلبة في قراءاتي للأسى الحقيقي الذي تسرب إلى روحي تدريجياً، فلم تكد تمضي ساعة أو ساعتين حتى وجدتني أتحدث عن البراء أشرف لأحد الزملاء ممن لا يعرفونه حديث العارفين بحزن تجاوزت به حزن زميلتي المصرية.
في إحدى مقالاته التي نشرها أصدقاؤه وقراؤه صبيحة رحيله كتب البراء كمن يستشرف دربه القصير نحو النهاية: “أريد لو أنني أرحل عن العالم قبل الذين أحبهم، كنت محظوظًا بحيث لم أجرب فقد الأحبة كثيرًا.. أخاف هذه اللحظات.. أخافها أكثر من خوفي من رحيلي الشخصي، وأرجو، لو كان رحيلي سهلاً، سلسًا، بسرعة دون ألم يخصني أو يخص الذين سيملكون وقتًا وقلبًا للتألم على رحيلي.. أريد أن يسامحني بعض الأشخاص، ويحبني بعضهم، ويكرهني بعضهم، على أن تكون الأفعال السابقة حقيقية جدًّا لا زيف فيها ولا ادعاء”.. حسناً يا براء.. أستطيع أن أخبرك إن كنت تسمعني أنني من ذلك البعض الذي تمنيت أن يحبك. أحببتك بعد رحيلك بليلة واحدة فقط! ولحسن الحظ يستطيع الأحياء أن يحبوا الموتى بتقانة عالية!