رثاء المكتبة
إلى المقالي سعيد عدنان
صادق الطريحي
أريد الآن أن أرثي مكتبتي ، ولكن رثاء المكتبات لا يجوز ، حتى لو احترقت المكتبة بفعل فاعل أو مجهول ، كما احترقت مكتبة الاسكندرية أو مكتبة المثنى بشارع المتنبي في بغداد ، وحتى لو سرقت المكتبة ، كما سرقت مكتبة عبد الجبار عباس في ظرف خاص ، ولا يجوز رثاء المكتبات حتى لو استباحها السيل العرم أو الغزاة الفاتحين على أنفسهم ، هكذا يقول أهل المكتبة ، وهم أعلم بفقهها ، لأن المكتبة لا تموت كما يزعمون ، وأنا أريد الآن أن أرثي مكتبتي ، لي رغبة في الرثاء، الغرض الشعري الذي اضمحل في الشعر العربي الحديث ، ولكني لا أعرف كيف أرثيها ، لقد أغرقها الماء النازل من السماء، كما أغرق الحلة وغير الحلة من مدن السواد ، وقد أحببت هذا الماء لأنه أنشودة المطر ، ومن هذه الانشودة تعلمت الإيقاع ، ولأن كل شيء حيّ من الماء ، هكذا جعله الله ، وأسماه غيثاً دلالة الخير والنماء ، وقد اختار عدد من الأصدقاء أن يكون الماء سرير موتهم الاختياري الجميل ، أما أنا فقد كتبت مياه النص الأول ، وددت أن أشرب منها ، فماذا أفعل لأقول رثاءً في مكتبتي ، وأنا لا أريد أن أتهم صديقاً لي بغرقها؟؟
من أولى رسائل المواساة التي وصلتني كانت رسالة أستاذي الدكتور سعيد عدنان ، كتب لي ما أفرحني ، وجعلني مطمئناً ، قال : (دخول الماء إلى البيت فأل حسن) رسالة تختلف عن كل الرسائل التي وصلتني ، وكأن هذه الرسالة مقالة مواساة كما كتب طه حسن مقالة في مواساة احمد حسن الزيات عندما فقد ابنه رجاء، لذلك عدلت عن رثاء المكتبة إلى ذكر الحيوات الكامنة في ورقها وأغلفتها وما كتب على صفحات بعضها من إهداء.
وكان الدكتور سعيد عدنان قد أهداني نسخة من كتابه (أدب المقالة وأدباؤها) وعليه إهداء من أجمل الإهداءات ، نجا من الغرق فيما غرق كتاب أستاذنا الطاهر (أساتذتي ومقالات أخرى) وكان المقالي المبدع سعيد عدنان قد كتب أطول فصول كتابه بعنوان الطاهر مقالياً.
أما (زوارق) الشاعر محمد كاظم فقد غرقت وتمزقت، وضاعت ألوانها وصورها الجميلة التي رسمتها الفنانة ريم وليد العسكري، ولم يشفع لها أنها قصائد كتبت إلى الأطفال لتحملهم في نهر الطفولة العذب البريء، ولم يشفع لها إني كتبت عنها بحثاً أحسبه جيداً.
ويمثل الإهداء عندي وسيلة ابتكرها القارئ الذي هو الكاتب نفسه في نظرية القراءة كي يتشبث بالبقاء والخلود ما أمكنه الدهر من حفظ الكتاب بعيداً عن الغرق والحرب والجوع .
لقد غرقت ماكوندو بعد مطر غزير استمر لمدة أربع سنوات وأحد عشر شهراً ويومين ، ولكن نسخة من مائة عام من العزلة ، في طبعة حديثة صادرة عن دار المدى ، موجودة في مكتبتي ، في الرفّ الأسفل منها ، غرقت في بضع ساعات من المطر الغزير ، أفكان لغرق ماكوندو سبب في غرق الكتاب !!!
أما البصرة التي غرس بها عبد الرحمن بن أبي بكرة أول نخلة فقد تعرضت إلى نكبات شتى ، حتى قيل في المثل (بعد خراب البصرة) ومن نكباتها قطع أعناق النخيل آناء الحرب وأطراف الجفاف ، لكني لا أعتقد إنهم استطاعوا أن يقطعوا عنق النخلة التي غرسها ابن أبي بكرة ، لأن المدينة كانت ستموت بلا شك.
ويروي محمد خضير في (بصرياثا) أن الكتاب يشيخ ويسافر في رحلة معكوسة إلى لحده ، وأن بصرياثا ستموت لو مات كتابها ، وحين تحسست كتبي التي غرقت، كان (بصرياثا) من ضمنها !!!
جاء في الميثولوجيا أن الكوارث هي جزء من غضب الآلهة على الناس ؛ لأنهم لم يفوا بعهودهم ونذورهم التي عاهدوا الله عليها ، أو لأنهم اقترفوا آثاماً كثيرة ، كما غضب الإله على طيبة في عهد أوديب ، وعندما حلت عليّ الكارثة ، وصار المطرُ مطرَ المنذرين وغرقت مكتبتي ، تيقنت أنني لم أف بعهودي التي قطعتها للمكتبة أمام الله ، وإني ارتكبت إثماً إزاء الآلهة التي ألهمت الشعر والنثر لأصدقائي الذين يحيون في المكتبة بسلام وأمان ، فيما يختصم أتباعهم خارج المكتبة.
جاء في كتاب (الذاكرة الحضارية) لـ يان أسمن (لابدّ من إيجاد الذنب والاعتراف به علناً والتكفير عنه : لذا كان لابدّ أن يبرز الذنب في مقدمة الأحداث ، وأن يصبح بهذا دافعاً ومنشطاً لعملية التذكر وموضوعاً للتناول التاريخي الذاتي ، وقد ظهرت هذه الفكرة في بلاد الرافدين أولاً ثم انتشرت بعد ذلك في بلاد الشرق الأوسط … إن المعاناة يتم تفسيرها أساساً على أنها عقاب … ومن خلال الاعتراف العام بالذنب يمكن رفع هذا العقاب)
لقد غرق هذا الكتاب مني في هذه المعاناة، وكنت قد عاهدته أن أكتب ورقة عنه، مع كتب أخرى، وأخرى غرقت في طوفان السواد المعاصر الذي صار دافعاً ومنشطاً لهذه المقالة.