خميس قلم
اللغة بما تشتمل عليه من أصواتٍ و مفرداتٍ و تراكيبَ و أساليب ومجازات هي المادة الخامُ لصناعة الشعر، والشعر جهاز تتطلب معالجته أدوات تعبيرية، و أدوات التعبير الشعريّة لا حصر لها؛ فهي متكاثرة بمقدار تعقيد ذلك الجهاز، و كلّما كان المهندس اللغوي/ الشاعر ماهراً في جعل كلّ أداة تتصل بمفصل دلالي مناسب؛ كان البناء الشعري ناجزاً على أكمل صورة..
ومنذ العصر الأول للشعر العربي ( العصر الجاهلي ) نرصد سعي الشعراء إلى تنويع أدوات التعبير الشعري فمثلاً إذا ما قارنّا بين طرفة والنابغة في وصف الناقة.
نجد أنّ طرفة يعبّر – في ثلاثين بيتاً – عن نشاط ناقته و همتها في السير و مأمن ركوبها و قوتها واكتناز لحمها و… باختصار يعبّر عن صفاتها المادّية و المعنوية بتشبيهات صريحة:
وإني لأمضي الهمّ عند احتضاره
بعوجاء مرقالٍ تروح و تغتدي
أمون كألوح الإران نصأتها
على لاحبٍ كأنها ظهر برجد
جمالية وجناء تردي كأنها
سفنجة تبري لأزعر أربد
حتى قوله:
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها و أفتدي
في حين يبرز النابغة صفات ناقته بواسطة سرده لقصة تمثيلية ( يمثل فيها قوة الناقة بشكيمة ثور وحشي، يطارده كلبان من كلاب الصيد وما إن يحدث تشابك بين الكلاب و الفريسة؛ حتى يطعن الثور أحد الكلبين في خاصرته، ويهرب الكلب الآخر..
كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا
يوم الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
حتى قوله:
فتلك تبلغني النعمان إن له
فضلا على الناس في الأدنى و في البعد
وفي نفس معلقة النابغة تطالعنا كذلك قصة ( زرقاء اليمامة ) كأداة تعبيرية ترمي لدلالة الدقة و الفطنة و الإنصاف في الحكم..
ومن فتاة النابغة إلى فتاة محمود درويش ( البنت الصرخة ) تمثيلاً للقصة كأداة من أدوات التعبير الشعري، فدرويش يتوسل بقصة فتاة مغمورة ليعبر عن مأساة الشعب الفلسطيني، وعن الضحايا الأبرياء الذين تتسلى آلة الغطرسة الإسرائيلية بصيدهم، ولا يتبقى منهم سوى الأخبار الإعلامية العابرة..
” على شاطئ البحر بنت. وللبنت أهل
و للأهل بيت. و للبيت نافذتان وباب…”
القصيدة كلّها عبارة عن مشهد سينمائي يحكي قصة البنت التي ما هي إلا رمز للضحايا الأبرياء الذين لا تكاد صرختهم تصل لأذن الإعلام حتى تتبدد في وادي الحياة..
وقبل أن أنتقل إلى لب الموضوع و الحديث عن أدوات التعبير الشعري التي تمثلها سميح القاسم في جانب من تجربته الغزيرة، أوّد أن أشير إلى توظيف الفنون البصرية ومنها السينما كأداة من أدوات التعبير الشعري، وسأضرب مثال ذلك بمقطع ( الإصحاح الثاني ) لقصيدة أمل دنقل ( سفر الخروج – أغنية الكعكة الحجرية ) والمقطع عبارة عن مشاهد تحكي اعتقال أحد المتجمهرين على الكعكة الحجرية و التحقيق معه فتعذيبه حتى يعترف تتداخل مع تلك المشاهد لقطات تصوّر أم الشاب المعتقل وهي تنتظره في المنزل بينما هو في التحقيق..
دقت الساعة المتعبة
رفعت أمه الطيبة
عينها..
( دفعته كعوب البنادق في المركبة )
دقت الساعة المتعبة
نهضت نسقت مكتبه
( صفعته يد
أدخلته يد الله في التجربة )
دقت الساعة المتعبة
جلست أمه، رتقت جوربه
( وخزته عيون المحقق
حتى تفجر من جلده الدم و الأجوبة )
نحن إذن بإزاء زمن واحد و مكانين.. مكان يمثل منزلا وادعا لأم تنتظر ابنها، و مكان متوتر و محتشد بالأصوات.. استطاع الشاعر بفضل توظيفه لأداة التصوير السينمائي أن يجمع بين المكانين.
و من أبرز أدوات التعبير الشعرية:
– السرد ( القصة )
– التصوير السينمائي
– الحوار ( السيناريو )
– الرمز ( الأسطوري – التاريخي – الثقافي )
– التناص
– التكرار ( التخلّي 458 جـ1 )
– الحذف
– أدوات التعبير الشكلية
– أدوات متصلة بالشكل:
يؤثث سميح القاسم بعض نصوصه ببهرجة شكلية ليبرز مهارته اللغوية و قدرته على القول الشعري فهو في نص ( برق الأبجدية رعد السكون/ ديوان ملك أتلانتس ) يتعمد أن يكتب مقاطع شعرية مرتبة على حروف الهجاء من الألف إلى الياء..
ش: شارعا شارعا تمحي المدن الغائمة
سفنا
فوق أدمعها عائمة
ص: صار ما صار
كي لا يكون الذي ينبغي أن يكون
كيف حال الجنون؟
و في نصوص أخرى يلفت انتباه القارئ و يشده إلى نصه من خلال العناوين الغامضة، حروف مقطعة و أرقام مبهمة يتجلّى ذلك في ديوان ” لا أستأذن أحداً 1988 “: أ- د – 9، ن – 24 ، س – ل – 3 ، ل – غ – م، ك – ب – ح، ر- د- م… وهذه التقطيعات الحرفية تذكرنا بمطالع بعض سور القرآن: حم، عسق، ألم.. غموض تلك الحروف والأرقام يفتح أبواباً واسعةً للتأويل.
كذلك يتبدّى توظيف الأداة التعبيرية الشكلية في تنويع استخداماته للضمائر انظر قصيدة ( ملك أتلانتس )..
و ( ملك أتلانتس ) حقل خصب وظف فيه الشاعر أدوات تعبير شعرية عديدة..
– الرمز: منها ما هو أسطوري كاستخدام الأرباب اليونانيين رموزاً للزعماء و المتسلطين، في ( ملك أتلانتس ) يوظف الشاعر ( بوسيدون ) إله البحارالإغريقية:
” يا أيها الملك المقيم و أيها الملك الشريد
بوسيدون يعلم ما تريد و ما يريد
و أقول لي.. لتقول لك
بوسيدون يطلق شهوة الإعصار لكن الطريق على جبال الموج يبلغ منزلك..”
ربما يكون الشاعر قد وفق في توظيف ( بوسيدون ) في هذا النص لملاءمته مع المناخ المائي/ الحقل الدلالي للقصيدة لكن بشكل عام استخدام الرموز الأسطورية مرهقة للقارئ العربي على اعتبار خلو ذهنه منها؛ وعدم اتصالها بالثقافة العربية.. لذلك يفضل كثير من الشعراء استخدام الرموز التاريخية العربية كبديل لها، وذلك ما اشتغل عليه سميح القاسم كذلك منها: المؤذن بلال، و صقر قريش، وعن أيوب وهو رمز لصبر الشعب الفلسطيني و تطلعه للشفاء من آفة الاحتلال:
” هذي المدينة نحن بعض بيوتها كيف انتهينا وهي فينا تبدأ
هذي المدينة من أحال زهورها وحلا و راح بوحلها يتوضأ
يا صبر أيوب استعرتك حقبة فمتى يعود دمي و لحمي يبرأ “
أما شخصية صقر قريش فهي رمز للاغتراب و للحنين إلى الوطن يعنون الشاعر قصيدتين باسم ” صقر قريش ” في ديوانين مختلفين
وإذا قارنا بين النصين: نجد أن النص الأول في ديوان ( دمي على كفي 1976 ) طافح بمشاعر الحنين:
” ونفسي يا ذوي القربى
ينازعها- و إن شيّدت ملك الله في الغربة –
ينازعها حنين السفر للأوبة “
أمّا النص الآخر في ديوان ( قرآن الموت و الياسمين 19 ) فيؤكد على قيمة الثبات في الأرض و الوفاء لها:
” أقسمت أمتي أنها منحتني الأمان
أقسمت أمتي
ثم كان
أنها قتلت زوجتي
و أنا أقطع النهر
لا سيف.. لا حول.. لا صولجان
خبري يا رفوف الرؤى القانية
خبري أمتي
أمتي الخاطية
أنني لم أبع زوجتي
لم أبعها.. بأندلس ثانية.. “
فصقر قريش رمز للمواطن الوفي لترابه و الزوجة رمز للأرض و العرض التي لا يقبل أن يتخلى عنها مهما كان المقابل..
نجد تكرار ذلك المعنى النبيل في نص ( إليك هناك حيث تموت ) و النص عبارة عن رسائل متبادلة بين لاجئ يعيش في بيروت في رخاء و دعة وبين مواطن من عرب 48 يعيش في قلب الاحتلال.. يطلب اللاجئ من صديقه بعد أن يصف له مباهج الحياة يطلبه أن يخرج بدوره من البلد المحتل ليجرب رخاء المنفى:
” لماذا أنت لا تأتي إلى بيروت
وتترك جرحك الممقوت
وتهجر وجهك المغموس في الوحل
وتنسى عيشة الذل … “
فيأتيه الرد صارخا كعاصفة:
” أخي الغالي
إليك هناك في بيروت
إليك هناك حيث تموت
كزنبقة بلا جذر
كنهر ضيع المنبع
كأغنية بلا مطلع
كعاصفة بلا عمر
…
إليك هناك يا جرحي و يا عاري
و يا ساكب ماء الوجه في ناري
إليك إليك من قلبي المقاوم جائعا عاري
تحياتي و أشواقي
ولعنة بيتك الباقي “
ذلك الصوت الغاضب هو صوت الأرض التي ترى في الهروب عنها عاراً، وانبتاتاً كزنبقة بلا جذر، حتى أنّ البيت يلعن صاحبه الذي تخلى عنه .. نلفت الانتباه هنا أن الشاعر جعل من فن الرسائل أداة من أدوات التعبير الشعري…
– الحوار: ( داخلي- خارجي، ضمني، مخصص )
يقول أنطوان شلحت: ” يعتبر سميح القاسم رائد هذا الأسلوب في الشعر الفلسطيني وخصوصاً في قصائده الحواريّة في مجموعاته ( دخان البراكين )، ( دمي على كفّي )، ( الموت الكبير ). و ينكشف ذلك من خلال عناوين بعض النصوص: ( حواريّة العار )، و ( حوارية السنبلة و شوكة القندول ) وهي مشهد رمزي مسرحي قصير جداً، ثمّ ( حوارية مع الوطن 64 جـ2 ) و ( حوارية مع رجل يكرهني )337جـ1 وهذا النص الشعري عبارة عن حوار مكثف بين طرفين، الطرف الأول يمثل الآخر/ العدو الصهيوني، والطرف الثاني يمثل المقاوم الفلسطيني:
– الدرب طويل
– لن أتعب
– ياهوذا باعك
– لن أصلب
– أجدادي احترقوا في ( أشفتس )
– قلبي معهم.. فانزع من جلدي الأسلاك
أشفتس هو المعتقل النازي الذي كان اليهود يحرقون فيه؛ مما يوضح أن الطرف الأول يهودي؛ يحمل غلا تاريخيا.. الحوارية كذلك تتضمن توظيف لرمز تاريخي هو يهوذا الإسخريوطيالذي خان المسيح…
– التناص: الاتكاء في التعبير الشعري على نص سابق
أمثلة ذلك: التناص مع المقدس” وما قتلوه و ما صلبوه ولكن شبه لهم “
” إلهي إلهي لماذا قتلتني “
” مزامير 5-6-67 ” ( مزمور للزجّال التافه )
” لأن الفتى بذرة دحرجتها العواصف بين رمال الصحارى بلا مطر أو غمام
سوى ما تبخر بين الدخول وحومل عصر الكلام “
نخلص: إن هاجس التنويع في أدوات التعبير الشعريةهاجس قديم متجدد، و إن توافد الفنون على الشعر واستثماره لها دليل على سعة أفق الشعر المستوعب لتلكالفنون كالموسيقا و الفن التشكيلي و المسرح و السينما وإنّ أدوات التعبير الشعري عديدة قابلة للابتكار.