مرفت بنت عبد العزيز العريميّ
ظلَّ متسمرًا في مكانه يتصبب عرقًا حائرًا والأفكار في رأسه كالحروف المبعثرة لا معنى لها والكلمات جفت في حلقه أصبح يشعر بغصةٍ.. ذهب إلى رفِّ الكتب يبحث عنها فلم يجدها هناك فالكتب بدت كلها متشابهة لم يستطع أن يميز بينها، أو يقرأ حرفا منها ذهب إلى أمه فهي الوحيدة التي كانت تفهمه نظرت إليه بحب وقالت لا تخشى شيئا كل شيء على ما يرام ستجدها لا تخف لم تكن كلماتها كافية فبحث بين دفاتره فوجد عبارة كتبها أستاذه: ” ومن لا يحب صعود الجبــال يعش ابــد الدهــر بيــن الحفــــر ” ولم يستوعب المعنى فطالما غضب من هذا المعلم الذي يعاتبه لإهماله في الدروس ولولا الغِشُّ لما أنهى تعليمه. ألقى بالدفتر بعيدا واقترب أكثر من المرآة ووقف ينظر إليها طويلا علَّه يجدها قابعة في إحدى زواياها تيقن حينها أن المرأة هي السبب في اختفاء شخصيته الجميلة فما يراه أمامه ليس سوى ظل إنسان فقام بتحطيمها وحطم المرايا كافة في منزله ومنع سكان المنزل من وضع المرايا لأنها تآمرت عليه وسلبته شخصيته لم يستمع أحد إليه فهو ليس سوى ظل إنسان .. اختار أن ينزوي بعيدا في غرفته يلعن المرايا.
يقال “إن أردت أن تنتقم من عدو فدلل ابنه” وقد قيل أيضا إن من الحب ما قتل فالإفراط في الحب قد يؤدي إلى تدميرنا وتدمير من حولنا بدواعي الاهتمام والرعاية التي تدخل في حيز اللامعقول ذكرت لي إحدى معلمات رياض الأطفال عن حادثة لأم شديدة التعلق بوليدها لدرجة أنها قضت فترة أكثر من أسبوعين تشاركه مقعده بالروضة كي ترعاه وتهتم به ولا يشعر بالغربة هذا الطفل اعتاد أن تقوم أمة بكل شيء وإن رفضت يبدأ بالانزعاج والصياح حاولت إدارة الروضة إقناع الأم بأن الإفراط في الحبّ له انعكاسات سلبية على الطفل فقد يصبح شخصية أنانية أو عنيفة لا يجيد مهارات الحياة والتعامل معها ينضج كإنسان اتكالي غير مسؤول إلا أن حبّها الشديد كان أقوى من إنْ تنصتُ إلى نداءات العقل فهي تعشق ابنها الوحيد ولا ترى في الحب إلا سعادة ابنها.
التجارب الحياتية والدراسات العلمية يؤكد أن الإفراط في الحب كالحرمان منه يولد روح الأنانية والانعزالية وينمي الذاتية فيكبر الإنسان متصورا أنه محور الحياة ومركزها فإن لم يحصل على ذات الاهتمام من المجتمع يتحول إلى شخصية عدوانية نتيجة الخلل في بناء الشخصية هذا ليس كل شيء بل إن الحب المفرط يصنع من الإنسان شخصا ضعيف الشخصية سطحي لا يكترث للآخرين مهتما بمظهره وغيرها ما الشكليات التي تعكس صورته في المجتمع غير مبادر أو مجتهد وا يسعى إلى تحصيل رزقه بتفاني وجهد.
الأمر لا يؤثر فقط على الأسرة بل على المجتمع بأكمله فكثيرا ما نشاهد نماذج من البشر أو المجتمعات التي أساءت استخدام الدلال والرفاهية وعند مواجهة أول مشكلة يتذمرون ويصرخون كما اعتادوا وهم أطفال اعتقادا منهم أن الصراخ والعويل سيحل المشكلة يذكر عن رجل قد أتى مالك بن نبي يطلب النصيحة لتربية ابنته قد ولدت حديثا فسأله مالك كم عمرها فقال الرجل شهر فقال مالك فاتك القطار اعتقد الرجل أن مالك قد بالغ في ردة فعله إلا أنه وجد ما قاله مالك أنه حق فالطفلة كلما أرادت شيئا تصيح وتركض أمها لاسكاتها .
حتى في الحياة الزوجية تضيع المساحة الشخصية مع الحب المفرط فالاهتمام المفرط والتواجد الدائم سواء أكان جسديا أو بالاتصال والسؤال هذا التقارب قد يصيب الطرف الآخر بالملل و يبرد المشاعر فلا تكون للطرف الآخر مساحة كافية من الخصوصية وهذا يتنافى مع الطبيعة البشرية لأن الانسان يبحث دائما عن مساحات خاصة يعيد فيه بناء مشاعره ويرتب أفكاره.
فالحب يحرك الطاقات الإيجابية الكامنة فينا لخدمة من نحب فنسعى بكل ما مانملكه من وقت ومال في إسعادهم وتحقيق كل ما يتمنونه في لحظة أو أقل من لحظة حتى وإن كانت الأماني مستحيلة عجيب هو الحب إنه عطاء أعمى بلا حدود لا يتوقف عند نقطة واحدة ولا يرى سوى سعادة الحبيب إنها مشاعر جميلة يبحث عنها الجميع وبدونها نشعر أن شيئا ما ينقصنا إنه الشغف الذي يبحث عنه الشعراء ليتمكنوا من كتابة القصائد الغزلية فيمن يحبون.
إنّ الحياة تعلمك الحب والتجارب ترشدك إلى من يحبك. الحب طاقة إيجابية ومورد مهم يجب صيانته وترشيد استهلاكه فلماذا نحول المشاعر الجميلة التي أساسها العطاء والرعاية إلى سلاح لتدمير من نحبهم. إنّ من سوء ترشيد الحب أن نتغاضى عن السلوكيات الخاطئة للتلميذ ومنع المعلمة من توجيهه أو محاسبته، ونثني على المدرسة التي تقوم بإنجاح التلميذ البليد وترفيعه، بل ومساواته بالتلميذ المجتهد فيتخرج الأول وهو لا يفقه شيئا فاقدا القدرة على تحمل المسؤولية.
باحثة وكاتبة عمانية