أثير – تاريخ عمان
في فرجة سعادة السلطان على ميناء ليفربول:
أرسل والي مدينة ليفربول غدوة نهار الثلاثاء يطلب إلى سعادة السلطان أن يشرف دار الولاية حتى يسير في صحبته إلى مرفأ السفن، ويفرّجه على ميناء المدينة، وعلى ما فيها من البواخر، والسفن المصطفة فيها على مسافة ستة أميال، وهي لا جرم أعظم ميناء وأكبرها في الدنيا، فأجابه السيد بكل سرور، وركب مركبته، وخرج في رجاله إلى دار الولاية.
وعند وصوله خرج إلى لقائه والي البلد وأعوانه وساروا به إلى ساحل البحر، وتقاطر الشعب هناك لمشاهدته سعادته وإكرامه، وكان الوالي قد أمر أن يهيئوا باخرة جميلة ليسير فيها سعادته، ويتفرّج على الميناء، وفيما هم سائرون جرى حادث مكرب في البحر كدر صفاء كأس سعادته ومن كان معه، وذلك أن باخرة عظيمة كانت خارجة من الميناء تريد الذهاب إلى نيويورك، وكانت سفينة صغيرة مشحونة بالسكر فيها خمسة رجال، وامرأتان، فصدمت الباخرة تلك السفينة صدمة مهولة أغرقتها في قعر اللجة بطرفة عين، فبادر الناس إلى نجاة أولئك السبعة أنفار وأخرجوهم أحياء، وغرقت السفينة برمّتها مع ما كان فيها من السكر وتعطلت الباخرة الكبيرة من شدة الصدمة، ورجعت إلى الميناء لإصلاح ما ترك عليها من الكسر .
وفي مساء ذلك النهار اتخذ والي المدينة مأدبة شائقة لسعادة السلطان حضرها كثيرون من أعيان البلد وأكابرها وفي ما هم على سفرة الطعام نهض والي البلد وطلب إلى المدعوين أن يشربوا كأس الهناء بسر سعادة ضيفهم الجليل سلطان زنجبار، وقال:
” قد حق على أهل العالم المتمدن أن يرفعوا مقام هذا السلطان النبيل ويشكروه على ما خول البشرية من الحرية، والفلاح، وعلى اتفاقه مع دولة بريطانيا على إبطال تجارة الرقيق في أفريقية، وأنتم تعرفون حق المعرفة أيها السادات الخسائر المالية التي حاقت بدولته من جراء ذلك والمشقات التي عاناها في الانتصار على المصاعب التي نشأت في ملكه بسبب ذلك، وهذا الفعل الحميد خلد ذكر سعادته في تاريخ الأمم المتمدّنة.
ولا يخافكم أيها السادة كم وكم من الملايين من الليرات الذهبية أنفقت دولتنا البريطانية على تحرير الرقيق، وإبطال تجارتهم من العالم، وكم من السنين، والأعوام صرفنا في ذلك حتى بلغنا المراد، أما سعادة السيد برغش، فتحمّل هذه الخسائر هو وحده، ونجح في نوال المرغوب في وقت قصير، وصار له علينا في هذا الأمر فضل عظيم، وقد صمّم ،بعونه تعالى، على صرف الهمة إلى استئصال هذه التجارة الذميمة تماما من بلاده، وقد أحطتم علما أيها السادات بما في مملكة ضيفنا الجليل من الغنى، والمحاصيل، والمعادن، والخضار الدائم، وبساتين النارنج ( برتقال)، وغيرها من الكنوز المدفونة في تربة تلك البلاد السعيدة، وأنتم تعلمون علم اليقين إنّ اخراج هذه الكنوز الثمينة من قلب الأرض يحتاج إلى مبالغ وافرة من النقود، وقد سمعتم مرارا عديدة من فم سعادته أنه يرغب من صميم قلبه في أن يرى شعب هذه المملكة البريطانية مشمّرا عن ساعد الهمة، والجد مقبلا على بلاده، وساعيا في توسيع نطاق الفلاحة، والزراعة، والتجارة، والمعارف إلى غير ذلك، وأنا لي ثقة أكيدة في أهل ليفربول المشهورين بعلو الهمة، والإقدام، وفتح أبوب التجارة في الدنيا بأسرها أن يغتنموا هذه الفرصة النادرة، ويفتحوا أبوابا، واسعة للتجارة في زنجبار”.
وفي أثناء ذلك نهض السيد برغش، وتلا خطبة فصيحة بالعربية شكر فيها والي ليفربول مكارمه العميمة وعلى ضيافته المنيفة فقال:
“أيها الوالي الأفخم كرنل ستابل، وأنتم أيها السادات والسيدات المصونات قد رأيت في مدينتكم المحروسة أمورا ملأت قلبي حبورا وأيقنت منها شدة سروركم القلبي بزيارتي بلادكم السعيدة، ولكن لو تمكنتم من فتح باب قلبي لرأيتموه يفيض سرورا بمشاهدتكم مما يعجز عن وصفه اللسان فمالي سوى أن أشكر لكم هذا الإكرام العظيم الذي أسديتموه إليّ بلطف لا مزيد عليه، ولا غرور يحق بأن تفتخروا ببلادكم السعيدة وتتباهوا بعوائدكم الحميدة، فيا ليتني كنت في منزلة تحاكي منزلتكم الرفيعة حتى كنت أباريكم في الافتخار بمملكتي، ولكن شتان ما بين الثريا، والثرى فإن مجد بلادكم خلقه التمدن وقد نشأ في حضن المعارف وبلغ أشده في تقاريع الدهور والإعصار.
وأما زنجبار فقد ولّت في حضن الخشونة، وما زالت في مهد الطفولة، وكمّ الأيام، والأعوام يقتضي لها أن تشب وتكبر ولكن كيف تشب وتكبر وليس لها من لبان المعارف قطرة؟ وكيف تتقوى وتعتز وليس لها من قوت التمدن شذرة؟ لكن إن احتضنتها بريطانيا احتضان الأم لولدها وأرضعتها لبان المعارف والتمدن والفلاح شبت على طبع أمها وحذت حذوها ورقيت أوج المعالي وجلست عن يمين ربيبتها واستوت على عرش العز والأمجاد.
وقد سررت بما رأيت في مدينتكم هذه من العمران وتمام الحرية، ولكن ما بلغتم هذه الدرجة الرفيعة من الفلاح حتى تجشمتم عرق العمل قربه وتجرعتم غصص المصاعب شربة بعد شربة، وأما أنا فقد خضت بحر الأخطار وحدي وعاركت الدهر بساعدي وزندي وأنا أضعف منكم بالمال والرجال وإنما اعتصمت بالقدرة العليا وقلت : “فإذا عزمت فتوكل على الله ” وبعونه تعالى تجرأت على إلغاء تجارة أنشأتها الأمة وأثبتتها السنة ومن له إلمام في كنة ذلك أدرك حق الأدراك ما دون استئصالها من المصاعب والأخطار والخسائر ولكن قد زالت الآن بحوله تعالى أكبر هذه المصاعب وما عدت أشتهي على الله شيئا سوى أن يديم لي وداد الدولة البريطانية ما حييت وأن يوطد دعائم هذه الصلات الحبية على أسس الخلوص والاستقامة ، وأما ما أسديتموه إلى هذه الليلة من العز والإكرام فقد انطبع في عقلي وقلبي طبعا لا يمحيه كرور الزمان ولا تدرس آثاره من نفسي آفة النسيان فاقبلي أيتها الأمة البريطانية العزيزة عربون ودادي وشكري.
” فلأشكرنك ما حييت وإن أمت فلتشكرنك أعظمي من قبرها ”
فلما ختم السيد خطابه هذا هتف الحاضرون بأعلى صوتهم وقالوا: ” حبذا حبذا سيد الفصحاء سلطان زنجبار “، ثم رفعوا أقداحهم ورشفوا عقارها بسر سعادته.
أما السيد، أعزّه الل،ه لم يلمس الخمر، ولكن مراعاة لمسايرة الحاضرين صب ماء زلالا في كأس ورفعها في فمه وقال: ” إني أشرب بسرّكم أيها السادات كأسا من الماء القراح الخالص عنوانا لخلوص ودادي لكم”.
ثم ختمت الوليمة ونهض السيد وتوادع الحاضرون، ورجع في رجاله إلى منزله بالسلامة.
في سفر السلطان إلى مانشستر:
لبث السيد برغش في ليفربول ثلاثة أيام، ثم خرج منها إلى مانشستر يريد الفرجة على ما فيها من معامل القطن، والغزل، والخام، والجوخ إلى غير ذلك، وكان وصوله إليها بسكة الحديدي نهار الجمعة 9 جولاي (تموز) (4 جمادي الثانية 1292هـ) صباحا.
وخرج أهل المدينة إلى لقائه، وقابلوه بمزيد من الترحاب، كما قابلوا شاه العجم يوم زار مدينتهم، وقدم والي المدينة وأعوانه لملاقاة سعادته ورحبوا بتشريفه لمدينتهم، وكان عمدة مانشستر قد هيأ مركبة ملوكية تجرها أربعة رؤوس خيل مطهمة، فركبها بصحبة والي المدينة، وسار جوزيف هيرون، وكاتم سره مستر بيرش قاصدين الدار المعدة لسعادته.
ولما وصل السيد لداره صرخ الشعب بأصوات الحبور والترحيب: أهل وسهلا بسعادة سلطان زنجبار … فدخل السيد الدار واستراح 20 دقيقه ومن ثم خرج مع والي المدينة وساروا به أولا إلى معمل القطن، وكانت الأزقة مملوءة بالناس، وهم مسرورون بمشاهدة سعادته ويكشفون قلانسهم عن رؤوسهم، وكان السلطان يردّ عليهم السلام تارة بانحناء رأسه، وأخرى بحركة يده.
ولما وصولوا لمعمل القطن خرج ليستقبله مستر ريشارد هورث صاحب المعمل، ثم دخلوا بالسلطان إلى أماكن التشغيل، وفرجوه على طريقة صناعة القطن.
ثم ساروا بسعادته من هناك إلى دار التحف وكان والي سالفرد يشرح لسعادة السلطان عما كان في تلك الدار من التحف النفيس، وما زالوا حتى حانت ساعة الغداء، فخرجوا من هناك، وساروا إلى دار التجارة، ولما وصل السلطان إلى دار التجارة وصعد الدرج رأى جمعا غفيرا من الرجال، والنساء، والأولاد قد اجتمعوا إلى ساحة دار التجارة يريدون مشاهدته وهم يصرخون صراخا عاليا استرحابا بسعادته، ولما دخلها السلطان أعجب بارتفاعها، ونقوشها، وبعد أن قضى الفرجة رجع إلى منزله وشعب المدينة يحبذونه على الطريق .
في تشريف السلطان برغش لدار الولاية بمانشستر:
أرسل والي مانشستر يرجو سعادة السلطان أن يشرف دار الولاية فأجابه السيد وركب مركبته وسار في رجاله إلى دار الولاية ..
وكانت العمدة قد صرفت عنان العناية إلى تزين دار الولاية زينة تليق بملك جليل وفرشوا أرضها بطنافس قرمزية وأوراق الغار وأصناف الزهور الجميلة.
فلما وصل السيد إلى دار الولاية برفقة العساكر الخيالة رأى الناس مزدحمين عليها ازدحاما غريبا وقطعوا الطريق على مرور مركبته ومركبات رجاله، فمسّت الحاجة لحضور الشرطة وحراس المدينة لمنع الناس من الازدحام، وكان الشعب لا ينفك من الصياح والتحبيذ لسعادته إلى أن هطل مطر غزير ملأ أفواههم بماء الغمام وسد حناجرهم عن الصياح، وبلّ ثيابهم حتى اضطروا إلى الفرار.
وحينما وصل السلطان إلى دار الولاية، ودخل قاعة الاستقبال نهض الجميع في سلامه، ورحبوا بقدومه، وأما السيدات اللاتي كن حاضرات فسلمن عليه بنشر مناديلهن البيضاء وتحريكها بأيديهن علامة السرور المألوفة عند نساء الإنكليز، وأما سار جوزف هيرون، فلما رأى ما فعلته النساء من نشر مناديلهن قال : ” إن سعادة السلطان قد سر بتحريك مناديل السيدات علامة السلام عليه ولكن عندي أنه يفضل أن يسمعهن يسلمن عليه بأصواتهن العذبة أكثر من تحريك مناديلهن الصامتة” ،، فصرخت السيدات حينئذ بأصوات رخيمة : ” حبذا حبذا سلطان زنجبار “.
وحينما جلس الجميع نهض والي المدينة وقال لسعادة السلطان:
” قد قر قرار أعيان المدينة وأكابرها أن يعرضوا على سعادتك خطاب التهنئة رسميا في هذا المحفل”، فقال السلطان : حبا وكرامة ..
فنهض سار جوزف هيرون وتلا خطاب التهنئة هذا ملخّصه:
” إلى سعادة السيد برغش بن سعيد سلطان زنجبار وما يليها من أصل البر، أدام الله مجده، وإقباله، آمين .
أما بعد فنحن والي مانشستر وأعيانها وأكابرها نتشرف بتقديم التهاني الرسمية لسعادتك، ونرحّب قلبيا بتشريفك مدينتنا، ونحن بالأصالة عن أنفسنا، وبالوكالة عن عموم شعب هذه الحاضرة نعرض على سعادتك ما نشعر به من السرور والفرح بمشاهدة سلطان جليل مثلك كوننا واثقين غاية الثقة أن زيارتك هذه لنا تكون باعثا على توطيد صلات الوداد بيننا أشد توطيدا وسببا لخير بلادنا وبلادك سوية، ولنا أمل بأن يتسع نطاق التجارة فيها، وتكثر أسباب الحضارة، والعمران في ظل ظليل سعادتك وهمتك العالية، وترى بعينك نجاح المملكة، وعزّها، وأنت رافل في ثوب السعادة والإقبال آمين”.
ثم نهض مستر براونينك وتلا خطابا عن لسان مجلس تجارة مدينة مانشستر قال فيه:
” أما بعد، فنحن رؤساء مجلس التجارة نترحب بقدوم سعادتك إلى هذه المدينة مركز تجارة العالم في الأصناف القطنية، وقد علمنا أن والدك المغفور له سلطان زنجبار كان صاحب أراض واسعة مخصبة يعتني بحراثتها، وفلاحتها، ويستغل محاصيلها ويبعث بها إلى أوربا، ومل كان يحجر الأموال الداخلة إلى ملكه.
ويسرنا أن نرى الولد سر أبيه ويحذو حذوه في هذه الشمائل الحميدة، وقد صرنا في غاية الامتنان لسعادتك لأجل ما وعدت به أمتنا البريطانية، ولا شك أنك تفي بوعدك الصادق، وتبطل تجارة الرقيق تاما، وتعضد التجار في بلادك على فتح أبواب جديدة للأشغال والأرباح والمعامل التي عليها مدار عز المملكة وجاهها وقوتها، واتساع دار الأشغال يفتح سبيلا للأهالي أن يوظفوا في دوائر مختلفة ويفتح باب الرزق في وجوههم وتسعد أحوالهم وتقوى عزائمهم على المحاماة عن الوطن والملك.
ولنا ثقة تامة بأن زيارة سعادتك هذه البلاد تكون باعثا على توثيق عروة الحب والوداد بين دولتي بريطانيا وزنجبار وتكونان مثل أختين متحابتين تعضد كبراهما الصغرى في جميع الملمات، فنسأل الله أن يستجيب دعاءنا هذا ويسبغ على سعادتك وعلى ملكك وشعبك فيض الخيرات والبركات والإقبال آمين “.
ولما فرغ الخطيب من كلامه أوعز السلطان إلى الفقيه جرجس باجر بأن يشكر لهم جميعا ويعد الحاضرين بأن السلطان لن يقصر في شيء من كل ما وعد به، ويؤمل أمة الإنكليز أيضا أن لا تخرم وعدها مع دولة زنجبار، وكما أن أمة الإنكليز ترحّب اليوم بقدوم سعادته إلى بلادها هكذا سوف يرحب السلطان بقدوم تجار الإنكليز إلى بلاده متى شرفوها وحملوا كنوز تجارتهم وأموالهم النفيسة، فصرخ الجميع بصوت الحبور وقالوا: حبذا حبذا ..
ثم نهض السلطان وصافح الوالي وباقي رجال العمدة وعاد إلى منزله سالما.
*المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة مسقط.