د. أحمد نزال/ لبنان/ أستاذ في الجامعة اللبنانية- كلية الآداب
د. أحمد نزال/ لبنان/ أستاذ في الجامعة اللبنانية- كلية الآداب
يُصدِّرُ الشاعرُ العراقيُّ مالك مسلماوي ديوانَه: “مثلث الهذيان” (الصادر عن المركز الثقافي للطباعة والنشر في طبعته الأولى عام 2016م) بمقدّمة نقديّة يبيّن فيها نهجه “الشعري” الذي سنوضحه ونعلّق عليه في ما يأتي.
منذ الغلاف، يشي الشاعر بأنّ نصوص الديوان هي نصوصٌ مرتجلة، ثم يوضح في المقدمة أنّ كلمة “ارتجال” ليست دقيقة ومطابقة (ص. 5)، وأنّها تعني التلقائية عنده، تلقائية الشكل شريطة الابتكار والدهشة…
وفي المقدمة نفسها، وقبل الغوص في النصوص، يرى الشاعر أنّ الشعر، بعد أن يعتبره “ضروريًّا”، هو نصٌّ متحررٌ، ويعني التحرّر من الشكل، وهو رؤيا لا تخضع لأي نظام، ويقصد النظام اللغوي، لأنّ الشعر، وفق مفهومه، لا ينبغي أن يسير على الطرق السالكة، يراه نهرًا قادرًا على شق مجراه بنفسه… ثم يراه مغامرة في الفكرة والصورة واللغة، قد تفضي إلى إنتاج إبداعي جديد، وهذه المغامرة تنسجم مع التلقائية التي يتحدث عنها.
والشعر، كذلك، حالة من هذيان الوجود للإمساك باللحظات الهاربة عبر اللذة والألم (ص. 6)، ويصل الشاعر إلى وصف الشعر بأنّه “جنون اللغة”، إذ يريد للنص الشعري أن ينأى عن اللغة العاقلة، ويسأل، ثم يجيب… ويرى أن للشعر عقله الخاص وقلبه الخاص ولسانه الخاص، ويخلص الشاعر إلى تحديد المحنة التي يعانيها هذا الفن، وهي أنّنا، اليوم، نغتال الشعر، وأنّ ما يكتب اليوم ليس شعرًا، بل شيء يشبه الشعر. ويستطرد صاحب الديوان في كلمته الأخيرة إلى تعريف نصوصه المرتجلة بالقول: “نصوصٌ مرتجلةٌ تسعى للخروج من هذه المحنة” (ص. 7).
إذًا، وبعد هذا العرض، يضعنا الشاعر أم “قوالب جاهزة” حول مفهومه للشعر، وهي نفسها التي ينبغي أن نقاضي الشاعر عليها في هذه النصوص “المرتجلة”.
ندخل فضاء النصوص، التي عمد الشاعر إلى إفراغها من عناوين، على الرغم من أهمية هذه الأخيرة، بوصفها نصًّا أوّل، يقدّم من خلاله إشارات دالة على مضمون النص. إلا أننا نعثر على عنوان واحد لهذه النصوص هو: “حب جكاير علكـ” (ص. 9)، أورده الشاعر باللغة العراقيّة المحكيّة، التي يفهمها المواطن العراقي، ومن أتاحَتْ له الفرصة الاطلاع على هذه اللغة. ويعني هذا العنوان في كلماته الثلاث: الأولى “البزر” الذي يقضمه الناس، والثانية هو “السيجارة” التي لا تفارق شفاه الناس، والثالثة “العلكة” أيضًا. في هذا العنوان، لا يبذل القارئ جهدًا ليتبيّن أنّ هذه الكلمات الثلاث يردّدها أصحاب البسطات والباعة الجوّالين في الشوارع العراقية، وهي معروفة عند العراقيين، وهذا يشير إلى سعي الشعب إلى اللهو والعبث بالزمن بدلاً من صناعته، ويسخر الشاعر عندما يرى أنّ هذه الكلمات الثلاث أصبحت نشيدًا وطنيًّا يحفظه الناس (ص. 19).
في رحاب النصوص في الديوان، والتي تُعدُّ نقطة انطلاق المحاكمة، نعثر على كمٍّ من الأمور التي لم يُشِرْ إليها الشاعر في مقدمته، وهذا يقودنا إلى طرح العديد من الأسئلة على الشاعر، منتظرين إجابات…
وإنْ كنّا لا نريد أن نناقش في الشكل الشعري الذي يعتبره الشاعر الممرَّ الإلزاميَّ إلى التغيير، لأنّنا نعتبر أنّ الزمن هو الحكم على كل شكل شعري طارئ، فإنْ كان جديرًا بالحياة، كان له ذلك، وإنْ لم يكنْ جديرًا بها، ذهبَتْ ريحُهُ بمرور الزمن…
وهنا لا بدّ أن نسأل: هل يفهم الشاعر حريّة النص على أنّها “إسقاط” كلمات أجنبية على النص الشعري (w.c ص.16- under geound ص.26)، أو إسقاط كلمات ذات دلالات ساخرة ومضحكة (هه هه هااااي ص. 16)، أو في إثقال النص ببعض المفردات العاميّة التي يصعب فهمها على المتلقي غير العراقي (فوكه = فاكهة ص. 12- البيكـ = الكأس ص. 16…)، وهل هكذا يكون الشعر فوق نظام اللغة؟!
الأمكنة الناطقة:
على أنّنا نعثر في هذا الديوان حضورًا لأمكنة في لبنان وسوريا والعراق وغيرها، وهذا يدلّل على معرفة الشاعر بهذه الأمكنة أو مشاركته فيها من نحوٍ أوّلٍ، ومن نحوٍ ثانٍ تشير إلى وجود متلقٍّ عام لنصوص الشاعر، يدعوه ذلك إلى الحديث بلغة واحدة مشتركة بين هؤلاء المتلقين، لا إلى متلقٍّ فحسب. وتظهر هنا ثورة الشاعر على بعض الأمكنة التي توحي بانتماءات سياسية ودينية معينة…
الكتابة الإيروتيكية:
وإنْ يكن الشاعر العراقي صاحب الديوان يفخر بصداقته مع الشاعر اللبناني عصام عياد، الذي يرى أنّ مهمّة الشاعر هي طرق باب المغاير في المعنى والمبنى، وأنّ غايته مقاربة نقديّة لإشكالاتنا المتعدِّدة في الفكر والاجتماع والسياسة. أي التغيير في الشكل والمضمون، في المعنى والمبنى. فهل يمكن القول إنّ قصائد “مالك مسلماوي” هي قصائد تغييريّة؟ فإنْ صحَّ ذلك فما هي ملامح هذه التغييريّة؟؟؟ إلا أنّنا نجد أنَّ هذا “الطرق” وتلك “المقاربة” لا تعدو كونها بنية سطحيّة اتخذَتْ من تغيير الشكل مِتراسًا لها، ولمَّا تزلْ واقفةً خلفَه. وفي ثنايا النصوص تبرز المفردات التي تدلِّل على هذا النوع من الكتابة، يمكن لقارئ الديوان الوقوف على المعاني التي حملتها!
ولا يبتعد الشاعر عن أمور السياسة، وتبدو ثورته على ميثاق الوحدة الاتحادية بين مصر وسوريا والعراق الذي أعلن عام 1963م، حيث يتحدث عن العلم العراقي، الذي تتوسَّط البياضَ فيه ثلاثُ نجماتٍ خضرٍ لكل واحدة منها خمس شعب (في الحرب الباردة/ تدثرنا بعلم من ثلاث نجوم… ص. 48)، على أنّ هذا الإعلان لم تُكتبْ له الحياة بعد وفاة الرئيس السابق عبد السلام عارف عام 1966م، واستمر العلم العراقي على شكله حتى أزيلت النجوم عام 2008م بقرار من مجلس النواب العراقي، مرورًا بعام 1986م، حيث اعتبرَتْ هذه النجوم الثلاث مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية.
في نهاية المطاف، وفي عجالة من هذه “المحاكمة” نرى أنّ رؤية الشاعر نفسه إلى الشعر تتأرجح في خط بياني متقلّب، بين ما رأيناه في المقدمة، وظننا أنّه سيثلج قلوبنا، وبين ما وجدناه في ثنايا النصوص في ديوان غابت عنه الصور، وغاب معها الجمال، وهذا يناقض ما أشار إليه الشاعر في مقدمته (الشعر ابن الجمال ص. 7)، وغُيِّبَتْ وظيفته التاريخيّة والمعرفيّة في آن، وبقي رهن الشاعر نفسه الذي تنطوي نصوصه على قوالبَ جاهزةٍ لا تتعدّى الشكل، ولا يبرز فيها المضمون مدافعًا عما وضعه الشاعر نصب عينيه، فلا حالة قلق بين المعنى واللامعنى، ولا حالة مشتركة بين الوعي واللاوعي. إنّها نصوصٌ مرتجلةٌ بكل ما للكلمة من معنى.