أبجد

إطلالة على المشهد النقدي في عُمان

إطلالة على المشهد النقدي في عُمان
إطلالة على المشهد النقدي في عُمان إطلالة على المشهد النقدي في عُمان

د. سالم بن سعيد العريمي

إن القراءة النقدية أمر ضروري، وتحتمه الغاية التي تكمن في طبيعة الأدب، وتجعله أمرا مهما؛ كونه يسير بالأدب نحو الوجهة الصحيحة، ولأن القيمة الفينة من الأدب كانت حاضرة، وما زالت، في ماهية العمل الفنية، ولذا لم يستطع الأدباء بشكل عام أن يفارقوا هذا القيمة الخلقية، والأدبية، والفنية، وربما الاجتماعية والسياسية عند طرْقِهم أبوابَ العملية الإبداعية، فكان القصد القيَمي واضحا في مجمل الأدب الإنساني.

ولذا فإن مسألة تقويم هذا الأدب ، ومحاولة وضعه على محك نقدي بات أمرا منتهيا، ومحاولة إعطاء أي أدب فسحة معينة من الاعتناء، وإظهار الجماليات المختلفة في النص الأدبي صار أمرا ذا أهمية بالغة، يصعب التحول منها، لأن المسألة تنبثق من التوالد المعرفي الذي ينتج عن علم واحد، لكي يجد بعد حقبة من الزمن أنه قد أحاط بهذا العلم علومٌ أخرى، هي بمثابة البناء الذي يكتمل برفقة علمية ومعرفية أخرى.

إن كثرة النصوص الأدبية، وتنوعها في كل العصور ، قد حتّم وجود نص آخر يقوم على النص السابق، وحديث تالٍ يأتي من وراء النص البادئ ليحاوره، أو يستجلي إشاراته، ويوضّح دلالاته، ويزيل الفجوة بين قائله ومتلقيه، ويزيح الهوة بين الأديب والقارئ.

والبدايات النقدية في عمان يسيرة جداً، وربما كانت ساذجة وسطحية، ولا يمكن العودة ببداياتها أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وهو زمن قليل جدا، مقارنة بالعلمية النقدية في الوطن العربي؛ ناهيك عن الحركة النقدية عند الغرب.

إن الموروث الشعري في تعاطيه كعملية خلق مميزة ، كانت ـ وما تزال ـ  تمر بمراحل تقليدية كسماع الشعر بصيغة  جماعية، وتَلَقٍّ منتجٍ للنص، برغم أن التقليد الشعري العماني يمنح النص الأدبي شيئاً من المشاركة الن%T9دية ال%D(اهرة، والتي تتصل باللفظة اللغوية، والخطأ النحوي، واللمحة البلاغية، واللفتة العروضية، والاتساق في البناء الشعري المرتبط بالقديم، ومدى المحافظة على عمود الشعر، وعدم الحيود عنه.

والمطّلعُ على الأدب العماني ـ الشعر منه خاصة ـ يلاحظ هذا الإرث الضخم الذي تمتلئ به العصور الأدبية منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث، وبغض النظر عن مدى قوته أو ضعفه أو كثافته، فإننا لا نجد ما يواكب هذا الأدب من الدراسة والبحث، وربما التقويم الذي هو من الحق المشروع للأدب، والذي لا يتأتى إلاّ من خلال المتابعة النقدية المتمثلة في الدراسة المتخصصة، أو حتى الإشارات العابرة التي نجدها في مظّان الأدب، أو تلك التي كانت محورا للمجالس الأدبية حين كان الشعر حاضرا بقوة في الذاكرة الأدبية العمانية، ولها طقوس أدبية معينة، تناقش الشعر بإنشاده وتقييمه الوقتي، في بساطة اللفظة اللغوية، والنحوية واللفتة العروضية، ولعل هذا الطريقة حفظت الإرث الشعري، ومكنته من الاستمرار في ثوبه القديم ، لكون الذين كانوا محورا في ذلك الطقس الشعري هم من الذين تحكمهم ثقافة أحادية الرؤية، ولم تتثاقف بسبب الظروف المكانية مع غيرها من التيارات الأدبية والثقافية المختلفة؛ لتخلق نوعاً من التوازن النقدي المنتج الذي من شأنه أن يرتقى بالأدب ، ويرتفع بالعملية الإبداعية.

لم تسجل لنا كتب الأدب شيئا من النقد الشعري بحيث يمكن النظر إلى  الكيفية التي كانت تحافظ على المنظور الشعري التقليدي، لكن من المؤكد أن النماذج الشعرية القديمة للشعراء السابقين سواء أكانوا جاهليين أم إسلاميين على اختلاف عصورهم  كانت حاضرة أمامهم، وماثلة في طريقهم الإبداعي يقتدون بها، ويحذون حذوها.

بيد أنه نُقل لنا أن هناك مجالساً أدبية جعلت القصيدة الشعرية العمانية مجالاً لحديثها، وأخذت من حيزها المعرفي مجالاً، ومن مناقشاتها المتعددة حول تفاصيل العملية الإبداعية ـ برغم بساطتها ـ جزءا أثيراً في توجيه القصيدة نحو الأفضل، ربما على الأقل من ناحية التقاليد المعروفة آنذاك.

هذه المجالس الشعرية لا تعدو كونها مَنْشطا أدبيا لتلقي الجديد الشعري لدى الأدباء، لكنها كانت في حقيقتها تؤطر القصيدة بأطرها القديمة التي لا يمكن تجاوزها إلاّ في القليل النادر؛ مما جعل بنيتها محافظة جدا على تفاصيلها، كما أن المناقشات الأدبية لا تعدو كونها لفتة عروضية، أو لفظة لغوية، أو صورة سهلة التناول، أو معنى جديد أو مأخوذ مستلب، مع طريقة مميزة في الإنشاد تحافظ على النسق العروضي من التجاوز( )

جهد الصحافة وبواكير النقد

يمكن عزو البدايات النقدية في عمان للجهد الصحفي الذي بذله بعض أبنائها محاولة منهم في إثراء الجانب الصحفي بالأدب العماني، وإظهار المكنون الإبداعي الكبير لدى شعرائها، والتعريف بالأدب من خلال المقالات الأدبية التي أظهرتها الصحف، ومحاولة توجيه مسارها بصورة تضمن لها التطور والاستفادة من التجارب الفنية الأخرى الموجود في الخليج والوطن العربي بشكل عام.

يقول الدكتور عبد الرحيم كافود:”والنقد نشأته غالباً ما يكون مرتبطا بالصحافة، بل إنه في منطقة الخليج لم يعرف إلاّ بها، وعن طريقها؛ حيث لم تصل إلينا نصوص نقدية إلاّ من الصحافة عند بداية نشأة النقد في المنطقة، وظل النقد في أغلب حالاته مرتبطاً بالصحافة حتى وقتنا الحاضر.”( ) وربما يكون حال الصحافة العمانية أقل بكثير مما هي عليه في الخليج العربي.

والبدايات الصحفية العمانية كانت مرتبطة بالمهجر الجنوبي زنجبار مثل مجلة (النجاح)  وصحيفة (الفلق) ولعلها كانت معنية بتقديم الأدب ضمن إطار عربي استنهاضي فرضته الظروف آنذاك . وربما انحصر دورها ـ كغيرها من الصحف في تقديم الإبداع الشعري دون تحليل أو دراسة ؛ إذ ربما لم تكن معنية بهذا وقتها. وإن كان المتابِعُ للنماذج الشعرية يرى دقة الاختيار ، وقصديّته الظاهرة ، والمنحى الخطابي المرتفع في هذه الاختيارات. ( )

وظهرت مجلات أخرى كان اهتمامها أدبيا مثل مجلة (الغدير 1977ـ 1984) وقد أصدرها الأستاذ أحمد الفلاحي وكانت هذه المجلة أكثر حضوراً من الناحية الأدبية من سابقاتها ، وأوقع أثراً في الساحة الأدبية العمانية ، وتناولت في إصداراتها النواحي  الإبداعية المختلفة من الشعر والقصة والدراسة الأدبية والمقالة النقدية، وكان لهذا الحضور الأدبي المكثف في هذه المجلة دور كبير في تحريك الراكد الثقافي في عمان.

وهناك مجلة أخرى أصدرها الأديب سالم الغيلاني ومعه الشاعر سعيد الصقلاوي واسمها (السراج) وعنيت بالثقافة بصورة عامة ، وتأصيل الأدب والفكر واستقطبت كثيراً من المفكرين العرب وتوقفت فترة من الزمن، ثم عاودت الصدور ثانية مواصلة الهدف الذي صدرت من أجله .

وتجيء مجلة (نزوى) والتي أصدرها الأديب سيف الرحبي كواحدة من أهم المجلات التي تعنى بالجانب الأدبي والنقدي ، و” تطمح مجلة “نزوى” إلى توضيحها وبلورتها عبر محاولة نشرها “للقديم ” المضيء في تراثنا العماني والعربي و”الحديث” الجدي الباحث عن صورته وملامحه وسط تراكمات الوعي  والملابسات والتعبيرات المختلفة التي يمور جميعها عالمنا المعاصر” ( )

وتتفاوت العملية النقدية في كثافتها وقوتها وأصالتها في هذه المجلات؛ ربما للطبيعة الصحفية التي تعنى في المقام الأول بالتعريف السهل للعمل الأدبي وكاتبه، ولمراعاة القاريء الذي يكون منصرفاً ـ غالباً ـ لمعرفة ما هو مهتمٌّ به ، والمتسم بالوضوح والسهولة.

ونظرا لطبيعة الإصدار الصحفي، والوقت الزمني المحدد له فقد كانت الاهتمامات تتباين في الصحف والمجلات، فالصحف الأسبوعية واليومية عادةً ما يكون اهتمامها موجها صوب المقالات السريعة والمقتضبة، بينما حظيت الدوريات والمجلات بالمعالجة النقدية الأرحب، مع الاهتمام بالقضايا التي تعنى بالجانب الأدبي والفني والتي تتسم بشيء من التخصص والعمق.

وضمن هذا الإطار الصحفي يدخل ذلك الجهد المميز الذي بذله عبدالله الطائي( ) (1973) في التعريف بالأدب العماني خاصة والخليجي عامة، وتظافرت لديه ظروف متعددة مكّنته من الإسهام بشكل فاعل ومؤثر في إثراء العملية النقدية.

وكان للطائي في اختياراته الشعرية الكثيرة التي عرّف بها شعراءه، ووطأ بها إظهاراً للمقدرة الشعرية ملكة نقدية صافية، وواعية في الوقت ذاته، وتعبّرُ عن الروح النقدية المرتفعة لديه.

ويمكن القول أنَّ الطائي بمقالات الصحفية، وأحاديثه الإذاعية ـ والتي تحولت إلى كتب بعد ذلك ـ قد مهَّد للحركة النقدية في عمان والخليج العربي بشكل فاعل ومؤثر، وبالرغم أنها لم تكتمل، ولم تنضج فنياً، ولم تتخذ مساراً نقدياً محترفاً، إلاّ أنها كانت بداية قوية مقارنة بالوقت الذي قيلت فيه، وأيضاً بالمحاولات النقدية التي جاءت بعده.

نقد الاختيارات الشعرية

يمكن أن نشير هنا إلى ناقدين آخرين يمكن الاقتراب عن كثب لجهدهما النقدي من خلال اختياراتهما الشعرية وهما الخصيبي( ) والصقلاوي( ).

لقد كان الخصيبي في طبقاته الشعرية واضحا في نهجه النقدي ـ برغم قدم تناوله، وتلادة طريقته ـ فلم يحد عنه ، والتزم بهذا النهج في كتابه كله، وقدّم الكتابُ روحاً شعرية ممتدة ممزوجة بوهج القديم وعبق الماضي النقدي المتمثل في الطبقات، مع درجة من الوعي الشعري والثقافة النقدية الأصيلة قوامها البلاغة والبديع والمعيار الخلقي، وغاب عن الكتاب الوعي الدقيق بالجانب الفني المتمثل في اللغة والصورة والإيقاع الشعري فلم تحظى هذا الأبعاد بمساحة كافية من نقد الطبقات ، وكان الهم منصرفا نحو التقسيم الشعري في كل طبقة، والمعايير التي ترجح طبقة دون أخرى، ويمتزج هذا بالمصطلح النقدي بوعي قد يتعارض مع الوعي النقدي الحديث في كثير من معطياته.

أما الصقلاوي فقد غلب الجانب الموضوعي على اختياراته، وتراجع الجانب الفني، والإشارة إلى قضاياه المختلفة، وظلت الموضوعات القديمة هي السائدة والرائجة، فالغزل والمديح والرثاء والأغراض الشعرية التقليدية كانت حاضرة بقوة، كما نلحظ الإشارة إلى القيمة الشعرية المتسقة مع هذه الأغراض فهناك المعارضات الشعرية، والنسيب المتسم بالمعاني التراثية، والتناص اليسير الظاهر، والإشادة بالقيمة الإيقاعية في لفتات نقدية سريعة وعابرة.

 كما أن المنهج الذي سار عليه في كتابه من إخراج الشعراء الأحياء من دائرة تراجمه قد حرمه كناقد من الاستفادة بالموضوعات الجديدة عن الشعراء الجدد، بالأساليب الشعرية الحديثة لديهم، كما فعل عبدالله الطائي في مقالاته وأحاديثه الصحفية، فقد اتسعت لديه دائرة القيم النقدية وأدواتها لكون المادة الشعرية كانت أكثر ثراءً، وتنوعاً، وجدة، وهو الذي لم يشأ الصقلاوي أن يضمنه كتابه، ربما ابتعاداً عن الحرج الأدبي؛ خاصة وأن كثيرا من الشعراء وقتذاك كانوا أترابه وأصدقاءه، وبرغم ذلك فإن كتابه يبقى واحداً من الكتب المرجعية في التعرف على الشعر العماني وأعلامه، وقضاياه المختلفة.

النقد الأكاديمي وفعاليته النقدية

النقد الأكاديمي هو النقد الأكثر ظهورا في الساحة النقدية، والأوسع حركة وحيوية برغم ما تطوله من الانتقادات من الخارج كالجفاف الذي تتسم به مناهجه وآلياته، والجمود في المحيط العلمي، والاضطراب في المقاييس النقدية وتداخلها، والتعالي على ما يدور في الساحة النقدية، وعدم القدرة على مواكبة النواحي الإبداعية، والانكفاء على الداخل العلمي، والمشاركة المتكلفة في النقد، برغم هذا كله فإن النقد الأكاديمي سواء أكان في الكتب التي أصدرها النقاد، أم البحوث المحكمة التي يحتّمها العمل الجامعي، أم الأبحاث والدراسات والأطروحات العلمية يبقى له الدور أكثر حضوراً وفعالية لما يتميز به من ضوابط علمية رصينة، وأسس نقدية تتسم بالمنهجية والموضوعية، ولما يحمل في طياته من رؤى واضحة، واستيعاب نقدي في جانبيه التنظيري والتطبيقي.

وبين أيدينا دراسات نقدية عن قام بها أكاديميون يتمثلون المناهج المختلفة للنقد في إطارها العلمي ويسيرون على رؤى نقدية مقننة وواعية، وتبتعد عن السطحية وسرعة التجاوز للمنتج الأدبي وتتعامل مع النص بموضوعية وتؤدة وأناة تؤثر حتما في النتائج التي تخرج بها عادة مثل هذه الدراسات.

وسنمثل بدراسات قام بها أساتذة وطلبة أكاديميون، سنعرض من خلالها على المنجز النقدي ورؤاه المختلفة.

  1. أجود ما تحظى به دراسة( ) علي عبد الخالق كونها باكورة الدراسات النقدية عن الشعر في عمان تكتسب الدراسة أهميتها من كونها أولى الدراسات الأكاديمية والمنهجية والشاملة عن الشعر العماني وخصائصه وسماته، استوعبت الدراسة جلَّ الأدب العماني خلال عصوره المختلفة، وكشفت عن جوانبه المشرقة، وأزاحت كثيراً من الركام المعرفي عنه، وأوضحت أيضاً المثالب التي وقع فيها الشعراء، وقيّمت أعمالها بطريقة موضوعية إلى حد ما، على الرغم من الفوات الكثير لعدد كثير من القضايا الفنية في ثنايا الدراسة فإنها توصلت إلى كثير من الأحكام النقدية الفاحصة والدقيقة التي ترفع من قيمتها الأدبية والنقدية.

ومما يؤخذ على الدراسة أن التقسيم التاريخي في تطور الشعر لم يكن ملائماً أو منسجماً مع طبيعة الشعر العماني حيث تتداخل الخصائص الفنية والقيم المختلفة للشعر من عصر إلى آخر بحيث لا يخرج عن الإطار الزمني الذي لا يرتضي قيماً متباينة بين عصر وآخر.

 وكان للإشارات المجتزأة، والأحكام النقدية السريعة دور في الخروج بأحكام نقدية خاطئة في عدد من القضايا النقدية، وضع الفرضيات النقدية مسبقاً، ومن ثمَّ التدليل عليها بشواهد واستشهادات لا تمثل الحالة الشعرية عند كثير من الشعراء،  حرمت المساحةُ الزمنية الطويلة، والكم الهائل من التراث الشعري على مرَّ  العصور الدراسية من التركيز والعمق، وأغفلت كثيراً من الأدب العماني لم تطله دائرة النقد فكان أن نال القصور النقدي أدباً شعريا كثيراً،  وكان الاحتفاء النقدي من قبل الناقد لعدد من القضايا الفنية قد ضيق عليه المساحة الموضوعية التي يجب أن يتحلى الناقد عادة في مثل هذه المواقف، ويبقى للدراسة أهميتها من حيث اهتمامُها بالأدب العماني، وإضاءتها لجوانبه المختلفة للقارئ العربي عن خصائص هذا الأدب وسماته.

  1. منذ أول مطالعة لكتاب ( )عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام) يمكنك ملاحظة الروح النقدية لديه في نظرته لكثير من القضايا الشعرية في الأدب العماني بصورة عامة، وللشعر بصورة خاصة، ولعل أهم ما يميز الناقد هو صراحته، ووضوح الجانب الفكري والنقدي لديه، ويبث نقده أثناء تحليله للشعر دون مواربة أو مجاملة، ويمكن الخروج بملامح عدة للناقد كالوضوح الشديد في طريقته في النقد، فمعظم القضايا الشعرية والمفاهيم النقدية واضحة، وتصوره لها يأتي من الثقافة التي اكتسبها، فضلا عن الصراحة الجلية في نقده، ولم يدخل في دهاليز المجاملات التي تفسد النواحي النقدية، ولم يتردد في قول الحق وإن كانت من منظوره النقدي الخاص الذي ربما لا يوافقه فيه الآخرون. ويتميز أبو همام بثقافة نقدية ولغوية، وهو أمر يظهر للرائي من القراءة الأولى للكتاب، وهو يترسم في ذلك خطى الكبار من النقاد، ويتأثر بهم خاصة العقاد، فهو شديد الملاحظة، كثير الموازنة، يعطي الرأي النقدي ويدلل عليه، ويدافع عنه بقوة.

ومما يؤخذ عليه افتقاده للمرونة النقدية، فهو كثيراً ما يختلف مع غيره دون أن ينظر إلى كون الجانب الآخر يحمل شيئا من الحق أم لا، ولذا فلم يتورع عن ذكر الهنات والنقائص لدى الشعراء، فضلاً عن كثرة نقوله واستشهاداته النقدية خاصة من العقاد، وتطبيقها في الموازنة النقدية في القضايا الشعرية العمانية، ناهيك عن اهتمامه الملحوظ بالقضايا الشكلية خاصة الإيقاعية منها، ويزري بكثير من المحاولات التجديدية حتى في قصيدة التفعيلة، مما جعله يغفل كثيراً من النواحي الموضوعية لدى الشعراء.

ويحمد لأبي همام أنه من أوائل النقاد في السلطنة الذين وضعوا لبنة الصراحة في النقد، ووطأوا لجانب الموضوعية في التناول النقدي في كثير من القضايا الفنية والموضوعية في الشعر العماني.

  1. يحاول سعد دعبيس في كتابه( ) في إطار نفسي وموضوعي أن يتلمس الجانب الجمالي في الشعر العماني، ويمنحها بعداً فنياً يصبُّ في صالح الشعر في كثير من الأحيان، دون إغفال للنواحي الجمالية واللغوية وربما العروضية، وبرغم أنها وقفات سريعة، وتفتقد الشمولية في النظرة النقدية، إلاّ أنها تعين القارئ في فهم النص الشعري أحيانا، ونجد في ثنايا حديث الناقد محاولة لاستخدام المنهج النفسي لكن على استحياء حيث تسيطر عليه منهجية النقد الاجتماعي والأخلاقي بصورة واضحة، حين يؤكد على الجانب القيمي للأدب، وضرورته في الأخذ بيد المجتمع نحو الرقي الأخلاقي، والتهذيب الفعلي؛ سعياً للوصول إلى غاية تعيد للمجتمع كينونته الحقيقية من خلال استخدام الأدب في سياقاته الصحيحة.

لقد حظيت الجوانب الموضوعية التي ترتبط بالجانب الوطني والقومي احتفاء من قبل الناقد، فلم يزل يلح بالبحث عنها لدى الشعراء، فالتجاوب الروحي والشعري مع الوطن وقضاياه والتفاعل مع آماله وآلامه هو ما يميز شاعر عن آخر لدى الناقد هنا.

  1. يعد أحمد درويش أحد النقاد الأكاديميين الذين كان لهم نشاط بارز في عمان خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، وفي كتابه عن الأدب العماني( ) تتداخل المناهج لديه بشكل كبير، وتتقاطع عنده بصورة واضحة، مع التركيز على النقد التاريخي في مناطق كثيرة من قراءاته، ويستعين بالمنهج الاجتماعي كثيراً في تفسيره لأثر البيئة المحيطة على الشعر، ويحوّل الناقد وظيفته التي يقصد بها كشف مكنونات الشعر والولوج إلى عالمه لبيان نقاط الجمال والقوة أو حتى الضعف إلى مناقشات تاريخية هي أقرب إلى وظيفة المؤرخ منها إلى الناقد، وكان لجهده النقدي دور كبير في متابعة الحركة الشعرية في عمان خلال العصور المختلفة، وأعطى تفسيرات أدبية وتاريخية ونقدية قيمة إلى حد ما تتركز حول قضايا ومفاهيم أدبية مختلفة.

ويجيد أحمد درويش المنهج التحليلي، ربما بصورة أفضل من المناهج الأخرى، لكنه لا يستخدمه كثيراً، وأصدق مثال على ذلك أنه في ثنايا كتابه لم يتعرض لهذا الجانب التحليلي اللغوي والفني والتصويري إلاّ في حديثه عن بعض قصائد الشاعر أبي مسلم الرواحي، وفي حديثه حين حلل قصيدة عبدالله الخليلي (المسيح والخائن) بشكل مكثف ومكتمل.

ويصدر أحمد درويش أحيانا أحكاماً نقدية لا تنسجم مع الواقع الشعري والأدبي الذي يدرسه، وكانت كثيراً ما تصدم المتابعين والدارسين؛ بسبب مجافاتها للحقيقة ومجاوزتها حد الاعتدال في إصدار الأحكام النقدية،  ونظراً لجهده النقدي الكبير، ومتابعاته الثقافية المختلفة في عمان وحضوره الأدبي المكثف – الذي لا يمكن إنكاره – كانت له جملة من الآراء في كثير من القضايا قلما يجد الدارس فسحة من بحثه دون التعرض لها ومناقشتها، فعلى سبيل المثال تعرضنا لحديثه في مسألة المهجر الجنوبي والشمالي بالنسبة لشعراء عمان ويقصد بالشمالي البصرة والكوفة لأمثال ابن دريد والخليل بن أحمد والمبرد وغيرهما، ويقصد بالجنوبي زنجبار وجنوب أفريقيا لمثل أبي مسلم الرواحي وغيره ممن استوطنوا تلك البلاد، ولا يمكن بحال من الأحوال وصف تلك البلاد بأنها مهجر حيث لا نجد في شعر الشعراء تمثّلاً واضحا لتلك البيئة، ولم يثبت تأثر الشعراء بهذه الأرض الجديدة!. وفي حديثه عن الشاعر ابن دريد أعطاه مهمة نقل لغة الجنوب العربي إلى الشمال العربي( )، وفي حقيقة الأمر تلك اللغة التي يذكرها أحمد درويش لا تعدو كونها ألفاظاً متفرقة اختصت بها بيئة معينة لا يمكن إعطاؤها صفة اللغة الخاصة، ناهيك عما ذكره من تلك الروح الجماعية في التأليف الشعري، أو ما أسماه شعراء التحفة، أو روح الشعر القوية في عمان إبان الضعف الشعري في الأدب العربي،  فضلا عما ذكره الناقد عن مسألة الدور الذي قام عبد الله الخليلي في تطور الشعر في عمان من خلال تجربته (على ركاب الجمهور 1988) – غير الناجحة أصلا – في ولوج عالم التفعيلة، وهي في الحقيقة أبعد ما تكون عن روح التطور.

لكن يبقى أحمد درويش واحداً من النقاد الأكاديميين الذي اتصلوا بالشعر العماني وتواصلوا مع شعرائه وأدبائه، وحاول أن يضع بصمة نقدية له من خلال جهده النقدي الذي تركه في معظم الأجناس الأدبية المختلفة من مصادر الأدب والنقد والنتاج الشعري، وحتى القصة والرواية.

  1. وفي دارسات الطلبة الأكاديميين يمكن الاستشهاد ببعض ما قام به الباحثون في بداية درسهم النقدي، ويمكن التمثيل بالباحث محسن الكندي في كتابه( ) ويأخذ الكتاب أهميته من كونه باكورة الدراسات النقدية في جامعة السلطان قابوس ويحسب له من الناحية النقدية بصورة عامة هو تتبعه الجيد للنتاج الشعري العماني، متمثلاً في هذا البحث، وغيره من البحوث الأكاديمية، أو تلك التي ترتبط بالندوات والمؤتمرات، أو حتى في نقده الصحفي أحياناً، فضلاً عن دراسته عن الطائي في كونها تتّسمُ بالجهد الأكاديمي المنظم، والحرص الشديد على تتبع الدقائق المكونة للنص الشعري، والتفاصيل المختلفة في البناء الفني للقصيدة، مع عرض نقدي واضح ومفصل لها، ولربما شابته شائبة السطحية، وعدم الدقة في إصدار الأحكام النقدية، ناهيك عن تأثره بالدرس الأكاديمي النقدي في تحليل القصيدة، والنقد المصاحب لها، وربما التأثر بالأساتذة في الجامعة، وهذا ظاهر في كثير من القضايا التي درسها، أبرزها الهم الوطني لدى الطائي وطريقته في عرضه، فقد كان يتناص مع مشرفه في كتابه عن الشعر العماني، فضلاً عن تناصه الشديد مع نقاد آخرين في أحكامه النقدية، ناهيك عن اللغة النقدية الحرفية المستخدمة في دراساته وبحوثه( ). بيد أن ذلك لا يبخسه حقه في حرصه النقدي، ومتابعته الجيدة للأدب العماني، وتوثيقه الرصين لكثير من القضايا الأدبية والشعرية في عمان.
  2. تعد دراسة( ) شبر الموسوي تعد هذه الدراسة من الدراسات المهمة عن الشعر العماني، وترجع أهميتها لكونها من أوائل الدراسات الأكاديمية التي حاولت استيعاب الشعر العماني بالدرس والتحليل، ولكون الدارس عمانيا على غير عادة الدارسين الذي كان أكثرهم وافدين، ربما لوضع عمان العلمي والبحثي الذي ما زال في بداياته.

  • وفي دارسات الطلبة الأكاديميين يمكن الاستشهاد ببعض ما قام به الباحثون في بداية درسهم النقدي، ويمكن التمثيل بالباحث محسن الكندي في كتابه( ) ويأخذ الكتاب أهميته من كونه باكورة الدراسات النقدية في جامعة السلطان قابوس ويحسب له من الناحية النقدية بصورة عامة هو تتبعه الجيد للنتاج الشعري العماني، متمثلاً في هذا البحث، وغيره من البحوث الأكاديمية، أو تلك التي ترتبط بالندوات والمؤتمرات، أو حتى في نقده الصحفي أحياناً، فضلاً عن دراسته عن الطائي في كونها تتّسمُ بالجهد الأكاديمي المنظم، والحرص الشديد على تتبع الدقائق المكونة للنص الشعري، والتفاصيل المختلفة في البناء الفني للقصيدة، مع عرض نقدي واضح ومفصل لها، ولربما شابته شائبة السطحية، وعدم الدقة في إصدار الأحكام النقدية، ناهيك عن تأثره بالدرس الأكاديمي النقدي في تحليل القصيدة، والنقد المصاحب لها، وربما التأثر بالأساتذة في الجامعة، وهذا ظاهر في كثير من القضايا التي درسها، أبرزها الهم الوطني لدى الطائي وطريقته في عرضه، فقد كان يتناص مع مشرفه في كتابه عن الشعر العماني، فضلاً عن تناصه الشديد مع نقاد آخرين في أحكامه النقدية، ناهيك عن اللغة النقدية الحرفية المستخدمة في دراساته وبحوثه( ). بيد أن ذلك لا يبخسه حقه في حرصه النقدي، ومتابعته الجيدة للأدب العماني، وتوثيقه الرصين لكثير من القضايا الأدبية والشعرية في عمان.
  • تعد دراسة( ) شبر الموسوي تعد هذه الدراسة من الدراسات المهمة عن الشعر العماني، وترجع أهميتها لكونها من أوائل الدراسات الأكاديمية التي حاولت استيعاب الشعر العماني بالدرس والتحليل، ولكون الدارس عمانيا على غير عادة الدارسين الذي كان أكثرهم وافدين، ربما لوضع عمان العلمي والبحثي الذي ما زال في بداياته.
  • ما يحاوله الباحثُ في هذه الدراسة هو أسئلة وضعها في مقدمة دراسته ليجيب من خلالها على أنواع الاتجاهات الشعرية والفنية التي يمكن استنباطها من واقع التجربة العمانية المعاصرة، ومقارنتها بالاتجاهات الشعرية في العالم العربي، خاصة الاتجاه الرومانسي منها، وما الذي حققته التجربة العمانية من تميّز في اتجاهاته الفنية؟ ( ) وكانت في ذهنه صورة عن الاتجاه الرومانسي بكل مقوماته عند أصحابه الذين بدأوا به، ثم أسقطها على من وجد في شعره مثل هذه المقومات حتى وإن لم يكن رومانسيا حقيقياً، وبالتالي فإن هذا الإسقاط غير الدقيق قد يؤدي إلى ارتباك الحكم النقدي، واضطرابه، ومجاوزته الحد الذي وضع لأجله.

    بيد إننا بدأنا نرى في الدرس النقدي بعض المصطلحات التي فرضها الواقع النقدي في الجانب الفني أشار الموسوي إلى بدء ظهور بعض التقنيات الحديثة في القصيدة كاستدعاء التراث، ووجود الرمز، واستخدام الأسطورة، والتكرار والإيقاع وأثره على الأسلوب الشعري، ودلل عليها بأشعار مختلفة لشعراء هذا الاتجاه، وبرغم أهمية هذا التطور في الدرس النقدي إلا أنه لم يمنحه الجهد المكثف والدقيق مما يضيء النص الشعري.

    1. وفي ذات السياق الأكاديمي تعد دراسة( ) المحروقي واحدة من الدراسات المهمة في الدرس النقدي في عمان، ومما يحسب للباحث في دراسته عن أبي مسلم البهلاني رصانته البحثية، وربما كانت الدراسة الأكاديمية كفيلة بمنح الباحث هذه الصفة كونه بين أساتذة مختصين، يتتلمذ عليهم، وينهل منهم، ويصغي لملاحظاتهم النقدية والبحثية، وتتميز بالموضوعية وهي تتجلي في كثير من الأحكام النقدية، والاستنتاجات المختلفة حسب المعطيات التي درسها في بحثه، فضلا عن إفادته من المناهج الحديثة، مقارنة بالدراسات التي قبلها، وتوظيفها في إضاءة النص الشعري لدى أبي مسلم، ويتجلى هذا في الدراسة الفنية بصورة أكبر ويحمد للناقد التوازن الموضوعي والفني في فصول الدراسة، مما منحه نوعاً من الأريحية النقدية في الحركة بين مفاصلها، والتعرض لأكثر القضايا أهمية في شعر أبي مسلم، سواء أكانت موضوعية أم فنية، ولكن يؤخذ عليه احتفاؤه النقدي الواضح بالشاعر، فبرغم الموضوعية التي تتحلى بها الدراسة فإنه أحيانا يلتمس بعض العذر الفني في هنات وقع بها الشاعر ومحاولة تبريرها نقدياً، كمسألة النفس الطويل، ومسألة تناص المعارضات لديه، وغلب على الدراسة الجانب الموضوعي إذ تستغرق الدراسة التاريخية والموضوعية أكثر من ثلثي الدراسة مما أضرَّ بالجانب الفني بعض الشيء، ولا أدل على ذلك أن فصل الصورة لدى الشاعر – برغم أهميته – هو أقل الفصول وأخصرها، لكنها تبقى دراسة مهمة في رصد الحركة الشعرية الحديثة في جانبيها الفني والموضوعي في عمان ممثلة في شاعرها الأخص أبي مسلم البهلاني، وهي دليل واضح على جدة الدراسة الأكاديمية وتقنيتها البحثية الجيدة، والتزامها النقدي والموضوعي.

    الفعاليات الثقافية ودورها النقدي

    هذا جانب نقدي فرضته الحالة الثقافية والأدبية، وكان نوعاً من الا¬حتفاء والتكريم لكثير من الأدباء والعلماء، وأنتجت هذه الفعاليات حصيلة نقدية لا بأس بها، تتسم بالحضور، والحيوية، والوصول إلى قطاع كبير من المثقفين والمهتمين، وبرغم أن القائمين على هذه الندوات والأمسيات الثقافية، والأعمال المرافقة للمهرجانات الشعرية، والمسابقات الأدبية، لم يكونوا يخططون إلى تأصيل عملية نقدية، هدفها توجيه الحالة الشعرية والإبداعية، ولم يكن في غايتهم الوصول إلى حالة شعرية يستشرفها الناقدون للأدب العماني، وإنما الاحتفاء بالأدباء، ومحاولة رد بعض الجميل الأدبي – على الأقل – هو المحرك الأساسي لهذه الندوات.

    على أنه يمكن لنا أن نجمع مادة علمية، ورصيدا نقديا قيما من خلال هذا الحضور الحيوي للن%QFوات والمؤتمرات التي تولت المؤسسات الثقافية إقامتها على فترات متباعدة، وشارك بها كثير من الأكاديميين المختصين، يتفاوتون في العملية النقدية، وَفق الرصيد العلمي لديهم، والمعايير النقدية الت%(A يستخدمونها في عرضهم للنتاج الأدبي العماني.

    صحيح أن الفعاليات كانت سريعة، وتتناول جوانب جزئية، يتحكم في موضوعاتها عادة القائمون على إقامة مثل هذه الندوات، وربما نقصهم الاستيعاب النقدي المنسجم مع كل حالة أدبية؛ مما أفقدهم إضاءة كثير من الجوانب لدى هؤلاء الأدباء، وانتصار الإيجابيات على الحالة السلبية، إذ قلما نجد نقداً حقيقيا فاحصاً يتوغل إلى ماهية العمل الأدبي، دون أن نرى الكمية الهائلة من التكريم، وطغيان حالة الاحتفاء على العملية النقدية.

    المناهج النقدية وتطبيقاتها

    1. يقوم المنهج التاريخي على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي إليه الأدب، ويتخذ منها وسيلة لفهم الأدب وتفسيره، واستجلاء خصائصه، كما يعنى بدراسة العوامل المؤثرة في الأدب، ولذا فإنه – بعرف أهله وخاصته – لازم لفهم النصوص الأدبية، فلو تقدم أديب عصره فناً وإبداعاً أو تأخر عنه لا يعدُّ أديباً حقيقياً لأنه تجاوز عصره، وتجاوز العوامل المختلفة التي هي سبب كبير في تهيئته فنياً، وخلق الروح المبدعة لديه.

    والمنهج التاريخي في النقد يقصد منه النص في ذاته، ولكنه يلجأ إلى العصر ونظمه السائدة في فهم النص الأدبي، واستجلاء كوامنه المختلفة من خلال القراءة الخارجية للعصر وظروفه المختلفة.

    والدارس للحركة النقدية في عمان سيجد أثر هذا المنهج في العملية النقدية، واستفحاله في الدراسات النقدية الأكاديمية وغيرها، ولعل وجود نقاد كانوا على قناعة بأن النقد التاريخي هو النقد القادر على فهم النص ضمن تلك المنهجية والأدوات التي يتبنّاها وأنه الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في القراءة الصحيحة للولوج إلى عالم النص الشعري من خلال ما يرافقه من عوامل تصنع القيمة الفنية والموضوعية، حتى ولو كان ذلك خارج السياق النصي- هو الذي جعل هذا الاتجاه يحظى بحظوة نقدية كبيرة.

    وحتى النقاد الذين انتهجوا نهجاً صحفياً وهم يعرِّفون بالأدب العماني، بياناً لقيمته، وتأريخاً له فإنهم استلهموا طرائق نقدية تتمثّلُ هذا المنهج التاريخي؛ ولذا يمكن القول: إن هذا المنهج في الدارسات الأدبية قد استحوذ على كثير من النتاج النقدي في عمان، خاصة في البدايات النقدية، واستخدموا أدواته بحرفية عالية، وتقنية كبيرة، ولعل ذلك يرجع أيضا إلى أن الجهد النقدي الذي يتوجه إلى خارج النص يبدو أكبر مساحة، وأشمل رؤية – على الأقل في ظن أصحابه – ويمنح الناقد أبعاداً أوسع في الحركة التفسيرية لأي نص أدبي خلافاً للمناهج النصية التي تظل الحركة فيها مقتصرة على النص ذاته.

    ويمكن القول أيضا إن معظم الدارسين الذي تناولوا الشعر العماني بالنقد والتحليل استفادوا بصورة كبيرة وأحياناً متفاوتة من المنهج التاريخي، وتبناه النقاد الأكاديميون في دراساتهم عن الشعر العماني، وقام طلبتهم بانتهاج النهج ذاته في بحوثهم وأطروحاتهم، على الأقل في الأقسام الأولى من تلك الدراسات، التي عادة ما تتحدث عن البيئة الشعرية التي ظهر فيها الشاعر والعوامل السياسية والثقافية والاجتماعية، وحتى حين وقفت أقلامهم النقدية عند الجانب الموضوعي والقيم الفنية المختلفة كان هذا الوقوف النقدي يتكئ على أرضية تاريخية المنهج في رؤاها وآلياتها.

    من أهم من تناول الشعر العماني بالنقد وفق المنهج التاريخي علي عبد الخالق، وأحمد درويش، وسعد دعبيس، وأبو همام، وشكري بركات، ومحمد أبو حجام، وعبد الله الطائي وسعيد الصقلاوي، ومحسن الكندي، ومحمد المحروقي، وسعيدة خاطر، وغيرهم كثير.

     ولقد بحثت الدراسات النقدية التاريخية عن المصادر الشعرية في العصور الأدبية المختلفة، وشرحت الجهود التي استقصت النصوص الشعرية العمانية في مصادرها ومظانها، وواجهت فقراً في المصادر خلال العصر الجاهلي والإسلامي، ولم تتكون صورة واضحة للشعر العماني إلا من خلال قصائد وأبيات متفرقة حفظتها المصادر العربية والعمانية، وتم تقسيم العصور الأدبية حسب التاريخ السياسي العماني، ومن ثم مقارنته بالعصور الأدبية العربية، ووافقت في بعضها نضجا لغوياً وشعريا لم يكن موجودا لدى عصور الضعف العربية، فكان هناك نوع من الاحتفاء المبالغ فيه لدى كثير من النقاد بقوة القيم الشعرية خاصة في عصر النباهنة.

    وكان للبيئة الخارجية بجميع صورها أثر كبير في تفسير العملية الشعرية، وفق المنهج التاريخي، واستغل النقاد الذين درسوا الشعر العماني جميع مظاهر البيئة، وجعلوها في كثير الأحيان مفتاحاً للولوج إلى النص الأدبي، ومنحوها مساحة كبيرة من النقد، مما جعل التفسير الخارجي للنص طاغياً، وربما حرم النص ذاته من أن يعبر عن نفسه، ويظهر مكنوناته الفنية، ويكشف عن روحه الحقيقية التي لا يمكن أن تظهر إلاّ من النص ذاته, وليس عبر قنوات أخرى، حتى ولو كانت تأثير البيئة في العملية الشعرية كبيراً وواسعاً.

    1. ظهرت بوادر المنهج الأسلوبي في النقد الشعري في عمان منذ بداية الدراسات الأكاديمية تقريباً، خاصة التي تلك ظهرت في التسعينيات من القرن الماضي، وتناولت هذه الدراسات كثيراً من القضايا المهمة في الشعر العماني، واستخدمت آليات الأسلوب، في أكثر مستوياته النقدية، خاصة في ما يرتبط باللغة، والصورة الفينة، والإيقاع.

    اتسمت الدراسات النقدية التي تمثل البدايات في عمان باستخدامها للمنهج الأسلوبي وفق المفهوم البسيط لهذا المنهج، فكانت بعض الدراسات تأخذ الجانب اللغوي، وبعضها الجانب الإيقاعي، وبعضها الجانب البلاغي، وكان يرافق هذه الجوانب عادة الأسلوب الإحصائي الذي ربما يكون عاملا مشتركا في كثير من الدراسات النقدية.

    ولدينا دراستان الأولى: بعنوان ( البنى الأسلوبية في النص الشعري) للباحث راشد بن حمد الحسيني، والأخرى: بعنوان ( حفر في مخيلة الذئب، دراسة للصورة الفنية عند سيف الرحبي)، للباحث حميد الحجري،

    دراسة الحسني تعتبر هذه الدراسة هي الوحيدة التي اتخذت المنهج الأسلوب بشكل صريح، فكانت غايته كما يقول:” إقامة جسر من التواصل بين التراث البلاغي، والمنهج الأسلوبي، وتجاوز القراءة الوصفية التقليدية للنص الشعري”( )

    ركزت الأولى على الجوانب الفنية في النص الشعري، ولم تحد عنه، والتزمت بالمنهج الذي ارتسمته الدراسة في معظم جوانبها، فجاءت منظمة ورتيبة، وممتثلة للتقسيم الأسلوبي الشكلي، مع ربط هذا التقسيم بالأمثلة والشواهد المنسجمة معه، والتزمت الدراسة في كثير من تفاصيلها بالنهج البلاغي، وحاولت أن تضع لها أطراً جديدة في سياقها الأسلوبي، وإن ظلت البلاغة القديمة بهيمنة مصطلحاتها، وقوة تقسيماتها ماثلة في الدراسة، وقد كشفت الدراسة عن جوانب مختلفة من القيم الشعرية لشعراء الدولة البوسعيدية، وأزاحت الستار عن النصوص الشعرية لهم، ودراستها في ظل المنهج الأسلوبي، كانت الدراسة مجرد وسيلة في تحليل الأمثلة والشواهد الشعرية في إطار الدراسة، ولم ترقَ إلى أن تكون نقدا خالصاً، ولم تستطع أن تقوّم جمالية النص، وقيمته الفنية، وثقلت الدراسة بالإحصائيات الرياضية، والرسوم البيانية، والأشكال التوضيحية في معظم فقراتها، وبدلاً من أن تدخل في عمق النص الشعري؛ لتستخرج ملامحه الفنية الجمالية انشغلت بالإحصاء الذي أحالها إلى الجفاف والجمود، وأمات فيها الجانب الإبداعي، ونقل الأدب إلى لغة غير لغته.

    وتأتي دراسة الحجري كإحدى الدراسات الأكاديمية الرصينة في بحثها وأسلوبها وتقانتها، وقدرتها على رصد  الصورة وتجلياتها في النص الأدبي عند سيف الرحبي، واتخذت الدراسة المنهج الوصفي التعبيري كأحد آليات المنهج الأسلوبي، وهو ما يسمى بالأسلوبية التعبيرية في أغلب مناطق البحث، ساعده على ذلك كثافة الصورة عند الرحبي وعمقها وبُعد إيحاءاتها، مما منح الباحث حرية الحركة في بحثه وملامسة التجربة الشعرية لدى سيف بشيء من التفصيل والدقة.

    لقد استعان الحجري بالإحصاء كإحدى آليات المنهج الأسلوبي الشهيرة، وحصر جميع الصور لدى سيف في دواوينه الستة التي جعلها الباحث منطلقا لدراسته، ومادة لبحثه، واستعان بالجداول التوضيحية، والرسوم البيانية، ورصد النسبة المئوية لجميع أنماط الصورة، وجعلها أساساً للحكم على كثير من القيم الشعرية عند الرحبي، برغم ما في هذه الآلية الإحصائية من جمود نقدي، وجفاف بحثي، وفقدان للمرونة العلمية في النقد، والانشغال الكثير بهذا الإحصاءات والرسوم البيانية عن أصل المادة البحثية، وكان للبناء الأسلوبي والبلاغي دور في توضيح التقنية الخاصة بالصورة عند سيف، ورصد البنية التركيبية والنحوية وأثرها في نجاح الصورة، فضلاً عن استعانة الباحث بالأسلوبية السيميائية في جانبها الدلالي في رصد المعجم الشعري عن الرحبي، وتسجيل القيمة الدلالية لهذا المعجم، والتركيز على إيحاءاته المختلفة.

    تداخلت المناهج النقدية وآلياتها المختلفة في دراسته بقصد أو بغير قصد، ولعل ذلك يعود إلى نظرة كثيرة من الباحثين إلى الاستفادة من التقنية النقدية المختلفة رغبة في خدمة النص الشعري، وكشف رؤاه، واستجلاء مكنوناته، ولم يلتفت الباحث إلى كثير من القضايا والإشكالات الفنية والموضوعية كقصيدة النثر لدى سيف برغم أهميتها، وخطورتها في تكوينه الشعري، وقضية الصدام الفكري والحياتي والأدبي لدى سيف، بل تعامل الناقد مع سيف بلغة الوصف والتحليل مشفوعة بلغة الاحتفاء، ولذا قلما تجده يظهر الجوانب السلبية وغير المضيئة في لغته وشعره.

    1. يعد المنهج الموضوعي من المناهج النقدية الهامة في التعامل مع النص الشعري، ويهدف إلى استقراء الموضوعات الأساسية الواعية واللاواعية في العمل الأدبي، وتحديد أبعادها الدلالية المختلفة.

    وتأتي دراسة ضياء خضير (وردة الشعر وخنجر الأجداد 2006) لتمثل هذا المنهج في معظم تجلياته النقدية، التي ينتهجها النقد الموضوعاتي، من المهاد الفكري والفلسفي، والعلاقة بين الذات والعالم، والاستعانة بالتحليل النفسي الذي يضيء الحالة الشعرية للنص ولذات المبدع، فضلاً عن الاتكاء على الخيال والحلم لتوضيح المناطق المفصلية وربما غير المفصلية في النص الأدبي.

    ومما يحسب للناقد تلك الثقافة النقدية فهو يتكئ على ثقافة نقدية عميقة، وطاقة معرفية ظاهرة ربما تعود إلى رافد فلسفي فهو يقترب جدا من النقاد الموضوعاتيين الذين يحاولون ربط الحياة في جانبها الوجودي بالشعري، ولذا فإن الاهتمام بالتفاصيل والتحليل الدقيق والمتأني لم يكن أمراً ذا بال لديه، إلاّ إذا كان هذا التحليل يُعينه على الولوج إلى ذهن الشاعر ليستخرج مكنوناته التي أراد أن يبثها في النص، وللناقد قدرة موضوعية قلما تظهر عند الكثيرين إلاّ أنها عند ضياء تظهر سريعا ولأول وهلة يمكن للقاريء أن يلاحظ ذلك، ولعل الثقافة النقدية كانت سلوكاً لديه ولدى مجايليه من النقاد، وربما النشأة الأدبية ساعدت على وجود هذا الحس النقدي الموضوعي لديه، فضلا عن قدرته على ولوج النص لاستكناه دقائقه، واستكشاف تفاصيله، وتلمُّس بنية النص الأسلوبية والبنيوية والنفسية أحياناً، مع وضعها في إطارها الذي يتناسب والنص المنقود، ويحمد له أيضا قدرته على الاختزال النقدي فعادة ما يقدم لشاعر بتوطئة نقدية مختصرة أو يختم بها تحليله تستوعب النواحي الإبداعية لديه، فيضع القارئ في رؤية نقدية مختزلة تعينه على فهم الحالة الإبداعية للشاعر منذ أول وهلة.

    لكن  يؤخذ على الناقد قلة النواحي التحليلية خاصة في النص الشعري، ولعل التفاته للنواحي الفكرية والمعرفية، ورغبته الملحَّة على سبر أغوار الوعي الشعري صرفه عن الولوج لتفاصيل النص الشعري ودقائقه، بيد أن هذا يظهر فقط في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، بينما نرى الجانب التحليلي في قصيدة النثر أكثر رحابة، ويأخذ حيزاً أكبر من مشروعه حول النقد للشعر العماني.

    ويمكن للمتابع أن يلحظ تلك الصرامة النقدية ونقصد بها هنا المقياس الشعري الصارم الذي جعله معياراً للقصيدة الشعرية؛ مما حدا بالناقد أن يرفض الكثير من النتاج الشعري لدى الشعراء العمانيين، وربما تعامل معه بطريقة تقلّلُ من شأنه، بل نستطيع القول إن هذا المقياس هو الذي هيأه نقدياً لأن يقبل بقصيدة النثر ويمنحها هذه الحفاوة التي استغرقت جهده النقدي المكثف، وربما القبول بها على ما بها من هنات ونقائص قد أشار هو بنفسه إليها في كثير من المواضع.

    ويبقى ضياء خضير ناقداً أصيلاً يملك أدواته النقدية ويحسن توظيفها، فضلا عن كونه من أكثر النقاد الأكاديميين متابعة للنتاج الشعري والنثري في السلطنة.

    1. يبدو المنهج البنيوي في الدراسات النقدية العمانية أقل حضوراً وفعالية من المناهج الأخرى، ولعل هذا له أسبابه، حيث إن البنيوية في وقت ظهورها في الغرب، كانت الدراسات النقدية في عمان ما زالت في طور نشأتها، ولم يكن هناك من يؤازر العملية النقدية بالتنظير والممارسة النقدية،

    وسنشير إلى دراستين ربما جاءتا متأخرتين نسبيا عن الدرس البنيوي العربي وهما دراسة الناقد عيسى السليماني( )، وقد تميزت بالرصانة البحثية, والتقانة النقدية، في منهجها، وأسلوبها، والتزامها بأطر البحث العامة، كما حاول الباحث أن يخفف من حدة الالتزام بالمنهج البنيوي، فكان البحث عن الصورة الكلية، والرؤية العامة المتفقة مع الروح الثقافية والاجتماعية نوعا من الإفادة من المنهج البنيوي التوليدي، في بعض تقنياته كرؤية العالم والنظرية الكلية للصورة، تجنبا للسلبية التي يتسم بها المنهج البنيوي الشكلي.

    يملك الباحث رؤية نقدية فاحصة، ولغة تستطيع أن تتجاوب مع التحليل والتفسير النقدي للعمل الفني، بيد أن الالتزام بتقنيات المنهج البنيوي والحرص على تمثل مصطلحاته المختلفة والاستضاءة بها في بحثه، جعل الباحث يتحرك في إطار ضيق أفقده المنهجية التي اتخذها منطلقا لدراسته إذ حصره المنهج البنيوي في إطار ضيق جدا، لعدم قدرته على التجاوب معه كمنهج يفي بحاجات النص الأدبي وأبعاده المختلفة.

    أما دراسة الناقد هشام مصطفى( ) فبرغم صراحة الباحث بأنها دراسة بنيوية فإنها تبدو أقل من سابقتها في ترسمها للمنهج البنيوي في أدواته النقدية، وتطبيقاته المنهجية، وسياقاته المختلفة، وإن كانت قد حظيت بشيء من الحيوية في الطرح، والمرونة في التحليل، والابتعاد عن الجمود الذي يصيب عادة الالتزام الدقيق بحرفية النظام النقدي في أي منهج قرائي يهدف إلى كشف الجوانب الفنية، والتعرف على القيم الجمالية في النص الشعري، ووقف الباحث عند النظام النصي، وشبكة العلاقات القائمة في النص الشعري، وهدف إلى التعرف على بنية النص مقصورا لذاته في أغلب الأحيان دون الاستعانة بما هو خارج عنه، كما حاول أن يعطي للمعنى الشعري، والبعد الدلالي قدراً كبيرا من دراسته، فهماً وتفسيراً، ليس كما يفعل البنيويون التوليديون، بل بما يتواءم مع رؤية الباحث، ورغبته في إثراء النص الشعري.

    بيد أن الباحث أغرق الباحث في قبول المستويات الصرفية والصوتية والدلالية، وأبعادها، ومنحها احتفاء كبيراً عند الشاعر، مما أفقدته كثيراً من الموضوعية النقدية، في إصدار الأحكام المختلفة، ولعل هذا أحد مثالب المنهج البنيوي وتطبيقاته النصية.

    لقد جاء الدرس البنيوي لدينا متأخرا جدا مقارنة بالدرس البنيوي الغربي وحتى العربي، ولذا فإن وقعه النقدي على القارئ بعد الانحسار الذي شهده في أوساط الواقع الثقافي كان ظاهرا، وربما صدق عليها قول محمد عبد المطلب بأن البنيوية ” قد جمعت أوراقها، كما جمعتها المناهج التقليدية السابقة، واحتلت مكاناً لها في الذاكرة النقدية كغيرها من المناهج، لكنها – بلا شك – فتحت الوعي النقدي على أفق الحداثة”( ).

    وأخيرا ففي هذه العجالة السريعة كانت هناك ملامح عامة للنقد الشعري في دراسات تم اختيارها بطريقة ربما كانت غير دقيقة، وحسب حضورها النقدي، وهي تبين الملامح الكلية دون اعتناء بالتفاصيل، فكانت أمثلة ربما عبرت عن النشاط النقدي لدينا، بيد أن هناك دراسات أخرى لا تقل عما ورد في هذه الصفحات من أمثلة من ناحية القوة البحثية والتمثل المختلف للمناهج النقدية، ولكنها حاولت جاهدة أن تستوعب  طرائقها، وترصد حركتها في فهم النص، ومدى النجاح الذي حققته في تطبيقاتها النقدية.

    لقد كان الأدب عبر عصوره المختلفة ممتدا ومتنوعا، ومتباين الاتجاهات والأجناس، يمثل القديم فيه حيزا كبيرا، والحاجة إلى نقده وتشريحه وإضاءته أمر في غاية الأهمية، ويحتاج إلى نشاط نقدي مكثف يتسم بالدقة والحضور والمتابعة الجيدة والتوجيه الصحيح لوجهته الإبداعية.

    وحين بدأت بواكير النقد لدينا كانت أمام نقادنا مناهج مختلفة المشارب، متعددة الرؤى، وبدأ النقد يترسّمها في تطبيقاته المختلفة، ولم تكن الرؤية النقدية أحيانا واضحة المعالم، فجاءت كثير من الدراسات وفق تبعية منهجية غير واعية، وتطبيقات نقدية غير مكتملة، وتوظيف للمصطلح يجانب البحث النقدي الدقيق، ويذهب بالنص بعيدا عن غايته التي أرادها له الأديب، وربما أرهقت النص بما ليس فيه، وأنطقته بما لم يقله، وربما كانت القراءة بسبب هذا مستلبة، فضلا عن كون هذه المناهج وفدت إلينا متأخرة، فكنا كمن يدور في فلك نقدي تجاوزه الآخرون بأمد طويل.

    لكن الساحة النقدية لا تعدم وجود نقاد يمتلكون الأدوات النقدية، والذكاء البحثي، والوعي القرائي والرؤية الواضحة، والاستيعاب الفكري للعملية النقدية وتطبيقاتها، وهم يحتاجون في المقابل ظروفا مهيأة لدراسة النص، وتشجيعا يدفع بالنقد نحو العمل الجاد والمثابر، ووقتا كافيا يهب النص مندوحة من القراءة المتأنية، ويبتعد بها عن السرعة في تناول النصوص، كما أنهم يحتاجون إلى مناقشة واعية للتجارب النقدية وتقويمها، وتنمية منظمة للروح الناقدة من خلال التلاقح النقدي والمثاقفة الفكرية، وأخيرا فإننا لا نستطيع أن نقول إن واقعنا النقدي كان مشرقا، ولا مستقبلنا سيكون حالكا، ولكنّ السماءَ تُرجّى حين تحتجبُ

    Your Page Title