أبجد

جمانة حداد… رحلة البحث عن الخلاص

علي نسر

علي نسر

معتمدة على أنماط نصيّة أربعة (السردي والتفسيري والبرهاني والإيعازي)، تقدّم الكاتبة والإعلامية (جمانة حدّاد) في مؤلَّفها (الجنس الثالث)- دار نوفل- جردًا لمراحل من حياتها أسهمت في بلورة شخصيتها المتمرّدة والثائرة على المألوف وكأنها على أريكة طبيب نفسي. فتحمل مشرط النقد وتعمل على استئصال العديد من أدران الحياة المتحكّمة بحركة الانسان والمؤدّية إلى شلل أية محاولة للتغيير والخروج على ما هو متوارث، من اسقاطات لا خيار لنا فيها، ليستحيل كتلة محظورة، صار الخروج عليها أو محاولة زعزعتها شبهة وتهمة.(هكذا بدأت مشواري في الحياة، مع هذا الارشيف الثقيل، وهذه الصورة النمطية… لم أقرر ولم أصنع ولم أختر بإرادتي أيًّا من خصائصي هذه… كانت بمثابة حقيبة الزامية ولدت معها، ويفترض بي أن أحملها معي أنّى ذهبتُ…ص83).

تطرق الكاتبة أبواب التابوهات( الدينية والسياسية والجنسية)، مقدّمة خطة بديلة تعمل على استبدال الثوابت بالمتغيرات، من دون الرفض المطلق للتراث، الديني خاصة، بل تحذّر من الخطابات التي تعمل على تجميده وتقوقعه في حماية صَدفة الماضي، بحجّة التقديس والحفاظ على هويّته رغم التبدّلات والتحوّلات القائمة على المعرفة والعلم والتجارب، (…تكمن المشكلة لا في الإيمان في ذاته، بل في مقاومة طبيعة هذا الايمان لكلّ تغيير أو تقدّم. إنّ هذا الجمود بحجّة القدسية هو العدوّ الأوّل والأخطر للدين.ص96).

ولكي تتجاوز الواقع والحاضر القائمين والفعليين، ترسم صورة لوعي ممكن تشكّل طريقَه شملةٌ من الأسس والأدوات، وعلى رأسها إعادة تموضع العقل كركن أساسي للتغيير، إذ يشكّل أداة التفكير المنمّطة التي تشقّ دروبها في جوّ من المحاذير والخوف من التصدّي لما أصبح باليًا من التقاليد والأعراف التي نصّبها البشر وأقنعوا بها أنفسهم والآخرين بأنها سنن سماوية وإلهية ذات سمات أسطورية وخرافية (من غير المقبول أن نخلط بين المعرفة والخرافة، وبين التجارب والتقاليد. يمكننا أن نبني تقدّمنا على أساس اكتشافات علمية أو وقائع مختبرة، ولكن ليس على أساس أساطير وميثولوجيات وأحكام مسبقة، حتى لو كان أسلافنا يؤمنون بها وأسهموا في ترسيخها..ص96)، ما جعل المرأة أكثر المتضررين والخاسرين، لذا تفرد الكاتبة جزءًا خاصًّا لها من ضمن الأجزاء التي تشكّل البنية العامة للكتاب ألا وهو الجزء المعنون بـ(المقصد) من كل قصة.. فتدعوها إلى التسلّح بالغضب والتمرّد والتحدّي لتعبر مشوار حياتها المحاط بالشوك والذئاب والعوائق الأخرى.(ستواجهين هذه الوحوش اللعينة وإن أدّى ذلك الى خسارتك كل شيء بما فيه حياتك. تستجمعين قواك وتصرخين بأعلى صوتك لا.ص184).

من هنا كانت دعوة الكاتبة واضحة إلى الترقّي نحو طبقة أعلى من الوجود الانساني، وتطلق عليه مصطلح (الانسانوية)، إذ تشكّل هذه الطبقة التطلع الأكثر رقيًّا، حيث تجاوزُ الانسان تناقضاته التي تتصارع وتسبّب له ما يشهده من ويلات وموت تحت مسمّيات مختلفة، ليعثر على حياة هانئة ولا يتوقف سعيه عند الشعور بالأمان فقط.. وفي الانسانوية حروب نبيلة تتحقق فيها معالم التحضّر والرقيّ. (الانسانوي هو الذي حارب البرد وصنع النار وحارب الخوف وتسلق الجبال وحارب الجهل ونشر المعرفة…ص50)… ومن يتعمق في سمات هذه الطبقة التي ترسمها الكاتبة، يرَ ما يمثّلها في الطرح الديني والقرآني خصوصًا، وهذا يعني أن الكاتبة رغم أهمية طرحها إلا أنها لم تأت بجديد وهي تعترف بذلك اذ ترى أنّ طرحها امتداد لطروح فلسفية قديمة. فقد ميّز القرآن نفسه بين طبقات الآدميين، وجعل البشر مختلفا عن الانسان فكرًا وليس شكلا.. فلم يجبر الملائكة على السجود الى آدم إلا بعد شرط وهو أن يصبح سويًّا (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، ولم يرسل روحه للسيدة مريم بصورة ملاك أو انسان بل بما هو أسمى،(فتمثّل لها بشرًا سويًّا)، وإذا كانت الملامة والاتهامات تصبّ على الانسان في القرآن فإننا نرى التعامل مع كلمة بشر تختلف بشكل ملحوظ. فما تطمح إليه الكاتبة قد أشارت اليه الكتب القديمة في غير مناسبة وجمهورية افلاطون خير شهيد أيضًا.. وعلى الرغم من الطرح المثالي بفنيّة ساطعة في النص، إلا أنّ الكاتبة تسقط في التناقض أحيانًا، فبرغم تركيزها على الفصل بين الدين والمتدين، إلا أنها تحمّل الدين مسؤولية الجرائم التي تقوم بها الجماعات الظلامية(ص189). وبرغم تشديدها على الاعتراف بقدرة الآخر نراها تحرم المتلقي من لذة التحليل فتحلّل عنه وكأنّها لا تعترف بقدراته الاستنتاجية أحيانًا(ص198).

هذا بالاضافة الى المسكوت عنه، والغائب يلفت النظر أكثر من الموجود، فلماذا غيّبت الكاتبة الأعمال الاجرامية الاسرائيلية عن لائحة المجرمين والظلاميين في المقدّمة؟..فإن سقطت إدانة اسرائيل سهوًا فهذه مشكلة وان عمدًا فمشكلة أكبر. فهل خرجت اسرائيل من معادلة الادانة على ما تقترفه من جرائم في فلسطين ولبنان وباقي الدول العربية؟.

Your Page Title