عارف الساعدي
شكّل مصطلح “اللغة المنهجية” دائرة تدور حول “المناهج النصيّة” فقط، إذ كلما يرد وصف “المنهجية” ينسحب النظر إلى المناهج النصيّة، مع العلم أن مفردة “المنهجية” تشمل جميع المناهج التي اشتغلت على النص الإبداعي، ومنها المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي والواقعي…الخ، فكل ما ذكرناه هي مناهج نقدية، وإن النقاد الذين كتبوا بهذا الاتجاه هم نقاد منهجيون، وبالنتيجة فإن لغتهم النقدية خاضعة للتوصيف المنهجي، ولكن حصر مفردة “المنهجية” بنقاد الحداثة لها ما يبررها، فالمناهج السياقية أخذت حصتها من الزمن وبدأ تداولها النقدي يقل شيئاً فشيئاً، فالمنهج الاجتماعي بدأ يتقلص دوره نهائياً في العراق وبالأخص في أواسط الثمانينات، وأصبح جزءاً من الذاكرة النقدية، وحتى النصوص النقدية التي عولجت في الأطروحة دخلت ضمن “اللغة الآيديولوجية”، وليست الاجتماعية بسبب تبنيها اللغة الانفعالية الخطابية ذات الشعارات الآيديولوجية فهي ليست لغة المنهج الاجتماعي، أما المنهج النفسي فلم تظهر ملامحه في العراق في النقد بشكل واضح([1])، ماعدا محاولة الدكتور حسين سرمك الذي أصدر كتاباً عن الروائي عبد الخالق الركابي([2])، 2009. وهو دراسة نفسية، بينما بقيت المنهجية التأريخية سمة المراحل الأولى للنقدية في العراق، إذ امتازت كتابات د. يوسف عز الدين، وعبد المسيح وزير وداود سلوم بالمنحى التاريخي الذي كان جزءاً من تاريخ النقد أكثر من كونه نقداً خالصاً للمراحل التاريخية الأدبية، كما أن تعامل النقاد في تلك المرحلة لم يكن تعاملاً واعياً مع المنهج ومصطلحاته وآلياته، كما يحدث مع المناهج النصية التي نظر أصحابها للمناهج أكثر مما نظّروا ونظروا في النص الإبداعي، فالنقاد السياقيون “لم يقوموا بالتنظير للمناهج النقدية، سواء تلك المناهج التي يسيرون على هديها، أو تلك المناهج إلا في حقبة زمنية متأخرة، هي تلك الحقبة التي بدأت تناقش فيها قضايا المنهج النقدي، ولاسيما بعد إطلاع النقاد على المناهج النصيّة الجديدة التي ظهرت المناقشات بشأنها بعد منتصف الثمانينات”([3])، في حين يعترف الناقد فاضل ثامر بقوله: “لم أكن امتلك إلا فهماً أولياً لمعنى المنهج في النقد، على الرغم من أني كنت أزعم لنفسي وللآخرين بأني كنت امتلك فهماً واضحاً وعريضاً لمعنى المنهج وكنت آخذ على النقاد أو بعضهم مسألة غياب المنهج النقدي الواضح”([4])، بينما نجد لدى نقاد المناهج النصيّة موقفاً مختلفاً من حيث تبنيهم المناهج الحديثة وإدراكهم ووعيهم للمنهج ومصطلحاته ومفاهيمه، وظهرت مجموعة من الدراسات النقدية الأكاديمية بشأن المنهج النقدي نفسه، لذلك ينسحب الحديث عن “اللغة المنهجية” إلى نقاد الحداثة الذين اشتغلوا على المناهج النصية لمعاينة النصوص وتحليلها، في تحديد هذه المرحلة زمنياً يرى العديد من النقاد أن مرحلة السبعينات والثمانينات كانت الحاضنة المهمة لبروز النقد المنهجي الذي يسميه بعض النقاد بمرحلة “المثال”([5])، المثال النقدي الذي كان التحليل الفني هو المعيار في العمل النقدي، وإن تطور اللغة النقدية العربية وتحولها نحو الحداثة كان في مرحلة السبعينات، فتلك المرحلة شهدت انفتاحاً على الجديد من النظريات والمنهجيات المعاصرة الغربية وبالأخص “البنيوية”([6])، وكأي تحول معرفي في “لغة النقد الحديث” فإنه مرّ بمرحلة مهمة جداً وهي المرحلة التي أشرنا إليها في الفصل الثاني “اللغة الوسيطة”، والتي كانت جزءاً من التحولات الطبيعية للغة النقدية التي حملت علاماتها بداية الثمانينات، وكما سبقت هذه المرحلة تحولات مهمة أحدثتها الأكاديمية العراقية إذ تحولت طبيعة الدراسة في الأكاديمية من دراسة حياة الكاتب ونشأته وعصره ومصادر ثقافته إلى مرحلة الاستجابة إلى نداءات الممارسة النصية([7])، فقد ظهرت دراسات أكاديمية، وجد قسم من النقاد أنها تعالج النصوص من زوايا نظر نقدية حديثة وأن أصحابها ابتعدوا عن تقاليد البحث الأكاديمي التقليدي([8])، فيما يرى نقاد آخرون أن أغلب هذه الأعمال “تفتقر إلى مزيد من الضبط المنهجي والتدقيق الاصطلاحي…”([9])، ومن هذه الأعمال:
– نشأة القصة وتطورها، عبد الآله أحمد، 1969.
– الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية، عبد الآله أحمد، 1977.
– الأسطورة في شعر السياب، عبد الرضا علي، 1978.
– تطور الشعر العربي الحديث في العراق، علي عباس علوان، 1975.
– دير الملاك، محسن اطيمش، 1982.
وللوقوف بين الرأيين المختلفين حول الدراسات الاكاديمية نستطيع القول إن العديد من تلك الدراسات لم تكن تنظر إلى النصوص الإبداعية نظرة نقدية حديثة، كما تنظر لها الدراسات الحديثة الآن على حد قول فاضل ثامر ن ومع هذا كله إلا أن هذا الرأي يحمّل تلك الدراسات مسؤولية أكبر من طاقتها الإبداعية في ذلك الوقت فتاريخياً لم تكن المناهج الحديثة قد هيمنت على الساحة بهذا الشكل، كما أننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نصادر جهود النقاد الاكاديميين، فدراساتهم وإن كانت خالية من الضبط المنهجي والاصطلاحي كما يقول سعيد الغانمي إلا أن تلك الدراسات كانت مختلفة عن السائد النقدي فهي لم تشغف بدراسة السياق –في الغالب- وكانت الكتابة الإبداعية أو “المنهج الفني” مهيمنة على تحليلاتهم ومعالجتهم للنصوص، كما إن المنهج الفني يتمتع بهامش من حرية اللغة في الالتفات إلى المناهج السياقية -بعض الأحيان-فهو غير مغلق أو صارم كما هي الحال مع المنهج البنيوي أو الأسلوبي، لذلك تمثل تلك الدراسات مرحلة مهمة في تحول اللغة النقدية إلى اللغة المنهجية الصارمة التي ظهرت على يد مجموعة من النقاد، خرج معظمهم من الاكاديمية، فظهر “عبد الله إبراهيم، حاتم الصكر، محمد صابر عبيد، بشرى موسى صالح، صالح هويدي، سعيد الغانمي، حسن ناظم، ناظم عودة،…”، فقد تبنى معظم هؤلاء النقاد مناهج حديثة ومقاربات تختلف عن الخط الآخر من النقاد من حيث زاوية النظر “واللغة النقدية”، فالبنيوية كانت حاضرة بقوة في معالجات هؤلاء النقاد الذين نطلق عليه مصطلح “نقاد الحداثة”، وكذلك الأسلوبية ومناهج التلقي، وحين نتناول “اللغة النقدية” لدى هؤلاء النقاد فإننا سنكون إزاء لغة نقدية حديثة مختلفة تماماً عن لغة النقاد الذين اعتدنا على تناول نصوصهم النقدية في “اللغة المقالية” وحتى “الوسيطة”، فقد هيمن المنهج بمصطلحاته وإجراءاته على لغة العديد من هؤلاء النقاد وأصبح النص النقدي حافلاً بمصطلحات غربية وغريبة في الوقت نفسه، كما تميزت لغة النقد بالمراوغة التي أصبحت لازمة من أهم لوازم نقد الحداثة وما بعد الحداثة([10])، كذلك استخدم أغلب نقاد الحداثة الجداول والإحصاءات مع الرسومات البيانية التي تحيل النص الأدبي إلى جثة تجري عليها عمليات التشريح، كما أخذ النص النقدي يمارس سلطة استعلائية لتبنيه موقفاً خطابياً نابعاً من طبيعة تلك اللغة التي يصفها البعض بأنها لغة موضوعية، وصفية، و “متعالية”([11])، وعلى الرغم من الأوصاف التي توصف بها المناهج الحديثة ولغتها النقدية، إلا أن القراءة في المناهج الحديثة ابتعدت عن “كونها حكماً قضائياً صارماً أو انطباعياً مستغرقاً بالذاتية، فغدت وكأنها منهج متحرك لا يعرف السكون، بل يؤمن بالتطور والاندماج الكلي المطلق مع عملية الإبداع الشعري أو الأدبي ذاتها”([12])، وفضلاً عن ذلك فقد تركت النظرية الأدبية ومناهجها الحديثة ولغتها النقدية الحديثة وراءها تاريخاً من العلمية يطمئن إليه الناقد “فتحولت القراءة النصيّة النقدية من قراءة أفقية معيارية “سياقية” إلى قراءة عمودية متسائلة “نسقية” تحاول سبر أغوار النص، لا غير، مبتعدة عن مقارباته من خلال السياقات التي أحاطت به يوم انتاجه وبذلك أصبحت المعالم النصيّة “البنى” هي الحقل الأساسي للقراءة لكن لم يكن لهذا التغيير أن يتحقق إلا بفعل الثورة التي أحدثتها اللسانيات الحديثة وتأسيسها لأسس جديدة في طرائق التعامل مع النص فأقصت الخارج وقراءاته السياقية التاريخية، الفنية، الاجتماعية، وأخذت بالقراءة النسقية فمجدّت الداخل على الخارج”([13])، لذلك أحدثت اللغة النقدية تحولاً هائلاً في التعامل مع النص الإبداعي واختفت الذات الناقدة بعيداً وبدأ الاعتماد على أسس علمية في معاينة النصوص لا تعتمد على المشاعر والأحاسيس المبهمة لهذا حقق النقد الحداثي خطوات مهمة في استبدال السياق بالأدبية والمعيار بالوصف والمطلق بالنسبية ودعا إلى موت المؤلف وجعل من مقولة النسق مقولة مركزية في طرحه([14]).
([1]) يُنظر: اتجاهات نقد الشعر في العراق من 1958-1980، رسالة ماجستير، ثابت الآلوسي، جامعة الأزهر، القاهرة، 1982، ص2، ويُنظر: اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق، د. مرشد الزبيدي، ص34.
([2]) يُنظر: الركابي عراب اللاشعور الماكر، د. حسين سرمك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009.
([3]) يُنظر: اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق: 154.
([4]) يُنظر: نفسه، 154.
([5]) يُنظر: نقد الشعر في العراق بين التأثرية والمنهجية، د. عناد غزوان، 19، وينظر: مئة عام من الفكر النقدي، 208.
([6]) يُنظر: المفكرة النقدية، د. بشرى موسى صالح، 108.
([7]) ينظر: مئة عام من الفكر النقدي، 210، 213.
([8]) يُنظر: مدارات نقدية، فاضل ثامر، 12.
([9]) مئة عام من الفكر النقدي، 207.
([10]) يُنظر: المرايا المحدبة، 19.
([11]) يُنظر: المفكرة النقدية، 109.
([12]) مستقبل الشعر وقضايا نقدية، د, عناد غزوان، 57.
([13]) يُنظر: شبكة النبأ المعلوماتية/ مصطلحات أدبية.
([14]) يُنظر: نفسه.