أبجد

بودلير عربياً أو حميد لحمداني في الترجمة التحليلية

بودلير عربياً  أو حميد لحمداني في الترجمة التحليلية
بودلير عربياً أو حميد لحمداني في الترجمة التحليلية بودلير عربياً أو حميد لحمداني في الترجمة التحليلية

منتظر الحسني

 

( لا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة ، في وزْن علمه في نفسِ المعرفة ، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها ، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية )  الجاحظ

ترجمة النصوص الأدبية مهمة عسيرة ، لا ينهض بعبئها إلّا من حسنت مغامرته في سُبل القول ، وصلُب عودُهُ في اللغتين ، مع دراية ومران يُمكنانه من اعتلاء ناصية هذه المخاطرة ، وتزداد المهمة عسراً مع ترجمة الشعر خشية تقطع أوصاله وذهاب وزنه كما نبَّهَ الى ذلك الجاحظ .

وتتجدد المشكلة مع كل نصٍ إبداعي يُشرع في ترجمته إلى لغة أخرى ، ولاسيما نصّ  ثري من نحو نتاج الشاعر الفرنسي شارل بودلير ، إذْ أعاد الدكتور حميد لحمداني طرح مشكلة ترجمة الشعر من خلال كتابه (الترجمة التحليلية الأدبية) متخذاً من قصائد بودلير أنموذجه ، فبودلير (الشاعر والعبقرية) ، قد أثار حركة ترجمة واسعة تخطَّت جغرافية اللغات بالرغم من قلة نتاجه الشعري ، فدخل العربية بنسخ مختلفة تنازعته ترجمات عربية عدةقاربتها في جانب وشطَّت في آخر .

وفي هذا المضمار لم يكتفِ لحمداني بعرض هذا الشتات من الترجمات التي جسّت شعر بودلير عربياً وإنماتجاوز ذلك إلى تقديم دراسة نقدية حول هذه الترجمات ؛ إذْ صدرت هذه الدراسة عن ثروة معجمية في اللغتين العربية والفرنسية ورصيد مكَّنهُ من تخطي الحرفي وصولاً إلى الأدبي والوقوف عند نظرية الترجمة في جانبها الإبداعي والجمالي ؛ ومن ثمَّ لم ينحسر فعل الترجمة لديه بما عُرف من دراسات وترجمات توقفت عند تخوم النص  لتقديمه غُفلاً بلا إشارة مرجعية إلى آلية الترجمة وكيفيتها وسبب الاختيار وعوامل الإقصاء التي مارسها المُترجم وهو يشرع في تقديم نصّه أو خلق نص لم يكن موجوداً في اللغة المُترجَم إليها (اللغة الهدف) .

وبهذه الاشتراطات نفذ الحمداني إلى موضوع ترجمة شعر بودلير عربياً ، متناولاً المحاولات التي سبقتهُ ليعقد معها حواراً يمتدُّ عبر مادة الكتاب التي جاءت في خمسة أقسام ، اتبع فيها المؤلف ما ألزم به نفسه من منهجية جديدة قوامها الأخذ بما قبل النص وما بعده ومواكبة تاريخية انتقاله ، وفقاً لمحددات ثقافية ، من لغة الأصل الى اللغة المُترجم إليها .

وهذا ما قاده إلى الحديث عن خصوصيات الترجمة الأدبية متمثلة في غرابة التركيب اللغوي ، وخرق المألوف ، وتكسير السنن بوصفها من سمات التركيب الشعري ، وكذلك صعوبة ترجمة الصور الشعرية من لغة إلى أخرى ؛ بسبب من العبقريات الخاصة بكل لغة وما يعود إلى البنيات الثقافية والأعراف والعادات ، ويرتبط بذلك تعذر النقل الموسيقي وصعوبة تحقيق طرفي المعادلة ؛ فالجري خلف تحقق الأوزان وصبّها في قالب شعري معين يقود تلقائياً إلى التضحية بكثير من العناصر الدلالية ، وإذا ما تمَّ الحرص على هذه العناصر فإن ، في المقابل ، الجانب الموسيقي يتعرَّض إلى الهدر .

وفي ظل تلك المعوّقات ينحو الكتاب صوب منهجية جديدة لممارسة ترجمة الشعر من الناحية المعرفية ؛ منطلقاً من نماذج شعرية لبودلير والموازنة بينها ومناقشة الاختيارات الماثلة فيها وتسويغ توافقها أو عدمه مع النصوص الأصلية بالاتكاء على معايير نحوية وسياقية ومعرفية وثقافية ، متجاوزاً ما قام به سعيد علوش في كتابه (شعرية الترجمات المغربية للأدبيات الفرنسية) ومشدداً على أهمية المبادرة الإبداعية في فعل الترجمة ، وقد كرَّس لذلك بدائل من الترجمة الإبداعية سار عليها في أقسام الكتاب جميعها ، وهذا ما مهَّد لحضور الترجمة التحليلية في حقل ممارسة الترجمات العربية .

ويرى لحمداني أنَّ الإلمام بجوانب الترجمة الإبداعية لابدَّ أن يصدر ، في أحد شقيه ، عن اطلاع ومعرفة بمسار الحياة والإبداع للشاعر المراد ترجمة نصوصه ؛ لذلك ألفيناه يعقد مدخل كتابه لعرض حياة بودلير ومسار الإبداع لديه ممّا سيكون واضحاً في ترجمة النصوص في متن الكتاب .

أمّا القسم الأوّل من الكتاب ، فيتناول طبيعة الترجمة الأدبية (تطبيقات حول شعر بودلير) ، إذ قام هذا القسم على نموذجين من ترجمة مصطفى القصري وخليل الخوري لقصيدة بودلير (غزلية حزينة) من ديوان (أزهار الشّر) ، بعدها قدّم لحمداني نموذجه الثالث المقترَح، مُعلِّلاً الاختلاف والاختيار ، وأردف ذلك بتناول الترجمة بوصفها قراءةً إبداعية (نحو ممارسة ترجمة تحليلية) وهو القسم الثاني ، وفيها يتمُّ تمييز المترجم المبدع من غيره ، هذا المترجم الذي يخلص لعبقرية لغتين مناط عملية الترجمة .

ومن ترجمة القصري مقطع  بعنوان (نشيد حزين) :

استقامتك لا تهمني ،

كوني جميلة وكوني حزينة وكفى ،

فإنَّ الدموع تزيد في بهجة المُحيَّا

كما يزيّن النهر منظر الطبيعة .

وكما تزيد العاصفة في بهجة الزهور .

وترجمة خليل الخوري للمقطع نفسه بعنوان (غزلية شجية) :

بماذا يهمني أن تكوني عاقلة ؟

كوني جميلة ! وكوني حزينة ! فالدموع

تضيف إلى الطلعة سحراً ،

كالنهر إلى الطبيعة ؛

العاصفة تجدد شباب الزهور .

ويقترح حميد لحمداني بديلاً للترجمتين :

لستُ أبالي أن تكوني رزينة ،

فكوني جميلة ، وكوني حزينة !

فالدموع تُضفي سحراً على المُحيَّا ،

مثلما بالنهر وجه الطبيعة يُسحر ،

فالأزهار ، بالعاصفة ، إلى شبابها تعود .

وفي الترجمة الأدبية المقارنة ، وهو القسم الثالث من الكتاب ، سلطت الدراسة الضوء على قصيدة (إلى التي فرحتها زائدة عن الحد) لبودلير التي تصور طبيعة نظرة الشاعر إلى المرأة ، ويمثل هذا القسم اعادة تأمل في النص الأصلي مع الافادة من الترجمتين السابقتين ، فتقوم دراسته هنا على الاهتمام بتحليل النص ومناقشة بعض الاختيارات وتقديم البديل للترجمتين السابقتين ، وصولاً إلىالقسم الرابع من الكتاب وفيه تمّ التركيز على (ترجمة شعر بودلير بين الابداع والنقد) ليخلص المؤلف إلى القسم الأخير الذي قدَّم فيه تصحيحا لمسار شعر بودلير ورحلته عبر ترجماته إلى العربية مع وضع أسس عملية وفنية لممارسة الترجمة الأدبية .

Your Page Title