رصد – أثير
أكد الصحفي الدكتور مجدي العفيفي أن السلطنة تشكل أحدث تجربة عربية إنسانية بحاضرها وحضارتها مع نهاية القرن العشرين، في مضمار صناعة الدول وصياغة خطابها السياسي العام، منذ بداية نهضتها الحديثة عام ١٩٧٠ لتكون تجربة ذات مفردات عصرية جديدة، ورؤيا متجددة تتناغم مع مستجدات المجتمع، ورؤية معاصرة تجادل بالحسنى احتواءات العصر عبر 47 عامًا هي عمر نهضة عمان الحديثة التي تحتفل بها هذه الأيام.
وقال الدكتور مجدي العفيفي في مقاله الذي رصدته “أثير” من صحيفة الأهرام المصرية، “إنه من حقنا القومي أن نفرح بكل تجربة تضيف وتضفي على المنظومة العربية التي تتعرض للابتزاز والاهتزاز بفعل مؤثرات خارجية أكثر منها تأثيرات داخلية.. ومن حقنا العربي أن نفرح ونعتز، في زمن عز فيه الاعتزاز، وصار الاهتزاز الحضاري عنوانًا كبيرًا في صحيفة وجودنا وتواجدنا، وكفانا التوهان في عصر الاستعارة.. ومن حقنا الإنساني، أن نفرح بصوت الذات، وأن نطرح سوط جلد هذه الذات، وأن نفسح الطريق لكل من يحلق بالرؤية، ويحدق بالرؤيا بين المعنى والمبنى، ويحقق بين اللحظة الماضية والراهنة والقادمة.
وأوضح العفيفي : تجربتي الصحفية والإنسانية في سلطنة عمان التي استمرت ٢٦ عامًا (١٩٨٤- ٢٠١٠) تؤكد أن الخليج ليس فقط آبار نفط، وأن تجليات الروح الإنسانية هي الأقوى أثرًا، والأبقى عمرًا، وأن صوت الحضارة في المنطقة أصدق وأنباء، وأنه الشوق الممتد لهذا الحاضر المستمر في تأكيد الذات، والمستمد من منظومة القيم والتحولات، وأن الجغرافيا تتوارى في مرجعيتها إلا قليلا، ساعة أن ترتحل في الجذور، فيتجلى التشكيل التاريخي الواحد، الذي يكشف عن التناغم في عبقرية المكان، على تجليات (الآني) وتحسبه لمتغيرات (الآتي).
وأضاف الدكتور ” أغوتني عُمان.. غواية استغرقت 26 عامًا ولم تزل، ولم أزل في حالة الغواية والإغواء.. أغوتني بحاضرها وحضارتها.. فبادلتها الغواية بالقلم والصحافة.. أغوتني بالألفة والاحتواء.. فتداولت معها العطاء والانتماء.. أغوتني بالجمال الحضاري والأناقة الحاضرة، فلبثت فيها أغلى وأعز سنوات العمر، وكان مبدأ الرغبة أقوى من مبدأ الواقع نعم.. أغوتني عمان، وكانت الغواية سبيل الهداية وخيوط الاهتداء إلى محاولة الإحاطة بشخصيتها التي جادلت الزمن، وحاورتها الأيام.
وأردف الصحفي مجدي العفيفي ” ولأن المقدمات السليمة تؤدي إلى نتائج سليمة، فإن البداية التي كانت متجهة إلي العمق، إذ قدمت عمان في صيغتها الجديدة إلى العالم، فتقدمت في صورة جديدة وجريئة، فلا هي بالتقليدية، ولاهي بالتي تخطف الأبصار فجأة ثم تنطفئ، فاستقبلها العالم كما ينبغي أن يكون الاستقبال لشخصية تستند إلى جدار حضاري لاينقض، ولا ينبغي له.. وهذا البعد الحضاري والتنويري لم يجعل عمان تحبس ذاتها في غرفة القديم، وفي نفس الوقت، لا تتأرجح في شارع العصر الحديث، إنما تقيم التوازنات في ممارساتها، وتلتزم التوازيات في مساراتها، وشهد العالم لسلطنة عمان بأنها عضو فعال في الأسرة الدولية، على مختلف الأصعدة، تأخذ وتعطي، وتتبادل الحوار المتحضر، تتحرك وتحرك، وتمارس دورها التاريخي في منطقة جغرافية ذات طبيعة خاصة، مقدر عليها الحركة الدائبة، ومطلوب منها اليقظة التي لاتعترف بالغفلة.. لذا تتحاور سلطنة عمان بأكثر من وسيلة وبأكثر من طريقة، مع الذات ومع الآخرين ومع العالم، حوارات حاضرة وحضارية، متواصلة ومتسلسلة ومتزامنة في تشكيل سياسي نابع من الذات والأرض والتاريخ والجغرافيا، كعوامل حاكمة في التطور الإنساني، كل أولئك في منظومة ذات مرجعية عرفية ومعرفية وأخلاقية وجمالية.
وذكر في مقاله: وهي في كل ذلك لم تستنسخ تجارب أخرى.. لماذا؟ لأن رؤية الخطاب العماني تتكشف بمجموعة من الثوابت، وأخرى من المتغيرات، تنضوي تحت القيم الإنسانية الكبرى، الحق والخير والجمال، الأمر الذي يشكل مهادًا فكريًا، وأرضية معرفية، تمتد عليها دوائر التكوين، في منظومة إنسانية، تتشابك خيوطها، وتتداخل خطوطها.. وأينما وجهت وجهك- مثلا – في مسقط، كمدينة تتكرر في كل المدن، وأرسلت البصر هنا وهناك، ستناظر عيونك جملة تحسها وتستشعرها، وتظل تتهامس بها أنت في عاصمة عصرية أصيلة.. بكل الظلال التي تلقيها هذه العبارة المتجسدة في تشكيلات حاضرة متنوعة، وأشكال حضارية متباينة، فإذا كنت تبحث عن المدينة (المودرن)، فإنها مثل كل المدن في الدنيا، فيها كل ما يجعل العالم بين يديك، وعند أطراف أصابعك.
وأكمل الصحفي مقاله بقوله: ربما تبدو الدهشة من كون هذه المدن بردائها الحديث، قد اختصرت الزمن في غضون سنوات معدودات، لتلتحم من جديد بسفينة التقدم وركب التطور، وتلتئم جراحها، وهي التي نزفت طويلا، لكنها تجاوزت هذه النظرة لتستقر على شاطىء العطاء.. أما إذا كنت تؤثرالخصوصية، وتريد التميز في البحث عن شخصية المدن، فاذهب إلى المسافة المتحركة في كل مدينة بين الحاضر والحضارة، فيمكنك أن تتسمع صوت التاريخ بنفسك، ويحدثك هو عن نفسه، مثلما يحاورك الحاضر وتتبادل معه الحوار الحي، فيها التاريخ المنظور وسطوره التي تمد الحاضر بقوة تدفع إلى الغد، فيها الحضارة التي تتحدث عن نفسها بشواهدها ومشاهدها، فيها السياسة التي هي فن تحريك الجبال، إحساس يسري فيك، بأن هذه المدن، جادلها التاريخ أكثر من أية حاضرة أخرى في الزمن القديم، وحاورتها الأيام أكثر من أي مدن معاصرة على شاطىء الخليج، واتخذت منها الأحداث مسرحًا أكثر من أي مسرح آخر في اكتشاف معادن الشعوب.
ولم يهمل الكاتب معدن الإنسان العُماني عندما خصه في مقاله قائلا: أشهد أن الناس في عمان طيبون هادئون، لا يغلقون أنفسهم في غرفة القديم، ولا يهرولون في شارع العصر الحديث، وآية واقعيتهم هو السلطان قابوس بن سعيد، فهو صاحب رسالة لا صاحب سلطة، حمل الرسالة قبل سبعة وأربعين عامًا ولا يزال يطورها ويجددها ويتفحص محتواها تناغمًا مع المعادلة الصعبة الذي يسعى إلى تحقيقها بإقامة الميزان بالقسط، رجل عماني الهوية، عربي النظرة، إنساني الرؤية، بكل ذلك صاغ دولة في بضع سنين، وأعاد صياغة شعب في برهة من الزمن، وأخرج أمة من رقدة العدم، فأطلقها حاضرًا مضفرًا بحضارة حية.
وختم الصحفي الدكتور مجدي العفيفي مقاله عن السلطنة قائلا: ” إن شهادتي عنها ليست مجروحة؛ لأنها قائمة على مشاهدات عينية وفؤادية، مشتركها هو الإنسان بمكوناته الأصيلة، والمجتمع بتناسجه الدقيق، والدولة بثوابتها ومتغيراتها، وكل ذلك وأكثر إنما يشير إلى أن سلطنة عمان هي مستقبل منطقة الخليج: أمنًا واستقرارًا وعطاءً وازدهارًا وأنا على ذلكم من الشاهدين..