أثير – المكرم د. إسماعيل الأغبري
أثير – المكرم د. إسماعيل الأغبري

رغم دخول الأمم القرن الحادي والعشرين، ومع تغير أنماط الحياة وتسارع وتيرة تقدم العالم في مختلف جوانب الحياة وبلوغها غزو الفضاء، وتمكن الأمم اليوم من صناعات كثيرة واكتشافات كبيرة في علوم الذرة والطب والكيمياء وسائر المجالات، إلا أن هذه الأمم والدول تأبى إلا الحفاظ على الموروث العتيق بات سمة من سماتها.
تتسابق الدول المتقدمة والنامية في أرشفة تراثها وموروثها وتعمل على صيانة ما ظفرت به وترميمه مخافة عودي الزمن عليه.
وتعمل الدول على تتبع هذه المواريث فتطلبها إن كانت خارج الأرض بسبب نقل الاستعمار لها أو تعرّضها للبيع أو السرقات وقت الأزمات.
تعمد الدول إلى سباق محموم لتسجيل مواريثها المادية وغير المادية في المنظمات الدولية.
وتعمد الدول المتقدمة والنامية إلى سن تشريعات وقوانين تجرم إتلاف تراثها أو بيعه أو تهريبه أو إخراجه خارج البلاد.
كما تعمد دول إلى إنتاج دراما أو أفلام أو مسلسلات تعرض شخصيات تراثية لها دورها في مراحل سابقة كما تخصص حصصا في مؤسساتها العلمية ما قبل الدبلوم وما بعده في الجامعات والكليات والمعاهد ليتعلم الجيل والناشئة أبناء البلاد والمقيمون التراث والحضارة رغم أنه صار ماضيا.
يا ترى ما حاجتنا وما حاجة هذه الأمم والدول خاصة التي بلغت شأنا علميا وصناعيا إلى موروث قديم؟، ما هي دواعي تداعي الأمم لهذا الماضي وقد بلغت في التقدم العلمي والصناعي والتقني عنان السماء؟
ما هو سر تدافع الأمم إلى الهيئات والمنظمات الدولية لحفظ التراث وتسجيله؟ ولماذا تعمد الدول لإنشاء مؤسسات تعنى بالتراث والحضارة والثقافة؟
لماذا تلجأ الأمم إلى تحقيق مخطوطات وطباعة القديم من المواريث؟ ما هو الداعي إلى المتاحف والمعارض التي تعرض سيوفا تجاوزها الزمن أو خناجر أصابها الصدأ؟
لماذا لا زالت لندن تصر على عدم المساس بالمباني القديمة؟لماذا متحف اللوفر بباريس؟ لماذا لوحة الموناليزا؟
لماذا الإصرار على حضارة بلاد الرافدين ومتابعة من يهرب قطعة بالية تراثية؟ لماذا لا يسمح بهدم حارات قديمة؟
ما هي حاجة الدول وقد امتلكت أسباب التفوق العلمي إلى نوع من الهندم القديم أو حتى عملة معدنية أو قطعة نحاسية إلى غير ذلك من المخلفات؟
ما حاجة الدول إلى إهرامات وقد بلغت العمارات ناطحات سحاب وما حاجة أسبانيا والبرتغال إلى آثار غرناطة وقرطبة ومباني إشبيلية وغيرها وقد أتت عليها عوادي الزمن؟
لماذا تصر الصين على تسويق سور الصين العظيم وهي التي تنمو اقتصاديا بوتيرة تزعج الغرب وأمريكا؟
إذا كانت بعض الشعوب حتى الساعة تعتني بشجرة العائلة وامتداد الجدود لتبين أصالة المحتد وامتداد النسب القبلي، فإن الأمم والدول معنية ببيان نسبها المعرفي والتراثي، مثبتة بذلك أنها شجرة عميقة الجذور وأنها دولة أصيلة.
العراق مثلا أرض الرافدين وبلاد بابل وكلدان وآشور ورغم تقدمها العلمي في عهد صدام حسين لكنها شديدة الصلة بذلك الميراث.
مصر لا زالت تتبع آثارها الفرعونية والإسلامية لتبين أنها دولة قائمة من آلاف السنين.
بريطانيا رغم أنها تقلصت كثيرا لكنها لم تزل مهابة الجانب بين دول كثيرة مع أنها لم تعد المملكة التي لا تغيب عنها الشمس.
الماضي بالنسبة للدول يعني الوقود المحرك لها نحو بلوغ قمتها وهي لا تريد من أجيالها لا يعرفون من هم؟ أو يمشون الهوينا انهزامية منهم إذا رأوا عند غيرهم الجديد أبراجا عالية وناطحات سحاب كادت تلامس السماء.
من خلال المواريث يمكن تحليل سلوكيات الشعوب لماذا هي مسالمة ولماذا لا تتخبط مع غيرها؟
من خلال المواريث يمكن الجواب على سؤال من أنتم من أنتم؟, وماذا قدمت بلادكم للإنسانية؟
من خلال المواريث يمكن تحفيز الشعب لمزيد العمل والتأكيد له أنك تختلف عن غيرك سياسة وسلوكا لأن موروثا حضاريا ورصيدا ثقافيا عز مثيله.
تلك المواريث التي قد يزهد فيها الناس لا تقدر بثمن عند من يدرس علم الآثار، فمن خلالها يمكن قراءة ما مرت به البلاد وكيفية تطور الحياة وكيف كان يعيش الناس.
تلك المواريث الثقافية تكشف لنا عن حقبة زمنية انبنت عليها حقب أخرى، القلاع والحصون والأسوار تدل على عزيمة الدول في البناء والتشييد وابتكار أساليب الدفاع عن الدولة والذب عن الأمة.
الأفلاج والعيون تدل على إرادة الدول والشعوب في الحياة، إذ يتم حفر الأفلاج ولم تكن هناك أدوات شق قوية ولا كهرباء ولا أوكسجين.
الحارات القديمة ذات أربع أبواب ومداخل وعند كل باب مصب لصب الزيت المغلي وبالقرب منها ثقوب مراقبة ثم برج عالي وبداخلها آبار وسوق ومسجد وسبلة، إن ذلك يكشف عن حالة أمنية مرت بها بلدان.
إن المخطوطات والمراسلات تنم عن المستوى العلمي لتلك الدول، لذلك تسعى الدول لتحقيق ذلك وحفط ما تيسر كما تكشف عن الخطوط المستخدمة وعن المواضيع العلمية الرائجة آنذاك.
إن الدول والشعوب تتسابق في حفظ المواريث لتبين أنها ها هنا منذ القدم وأنها تساهم منذ الأزل في البناء الحضاري.
تعمد تلك الدول للحفاظ على تلك الثروة المعنوية والمادية لبيان أصالتها فهي ليست على قارعة الطريق ولم تكن يوما على الهامش أو مجرد رقم في عالم الدول.
إن الاهتمام بالموروث يجيب عن سؤال يتردد، يا ترى لماذا بعض الساسة مميزون بسلوكهم السياسي الحضاري؟ ولماذا يحجمون عن كل فتنة ولا يتدخلون سلبا في شأن الدول؟
الجواب لأن لهم مواريث فكرية سار عليها الساسة من قبلهم وسار عليها الشعب من قبل ومن بعد.
إن دولا تأبى أن تذوب في دول لأن موروثها الحضاري وعمقها الوجودي يمنعها من ذلك، وإن ساسة دول لا يتخبطون في سياستهم لأنهم ليسوا جديدين على السياسة، بل ورثوا مجدها وانتقل إليهم شأنها كابر عن كابر بالإضافة إلى مؤهلاتهم الشخصية.
خلاصة القول: تراثك عنوانك وهل من عاقل يفرط في عنوان بيته أو ينساه؟ إن نسيانه يعني التيه وما أصعبه.
مواريثك تعني جواب لسؤال من أنت من أنت؟ فأنت في الطب راشد بن عميرة، وأنت في الفلك عمر بن مسعود المنذري، وأنت في علم البحار أسد البحار أحمد بن ماجد، وأنت في الهندسة مبدع القلاع والحصون والأبراج والأفلاج، وأنت في العسكرية المهلب بن أبي صفرة، وأنت في اللغة الخليل بن أحمد والمبرد وابن دريد، وأنت في الشعر الستالي وابن شيخان والنبهاني والحبسي والغشري وأبي مسلم البهلاني، وأنت في السياسة الجلندى بن مسعود والوارث بن كعب وناصر بن مرشد وأحمد بن سعيد والسلطان قابوس.
لا تهدم بيتا تراثيا ولا تتلف مخطوطا أو كتابا قديما ولا تبع موروثك إلا لمؤسسة رسمية في بلادك ولا تهرب منه شيئا.
تراثك تحفظه بمسلسل من حلقات عدة تعرضه شاشتك خلال رمضان وغيره عن شخصية من شخصيات بلادك كالمهلب، أو الخليل أو أحمد بن سعيد.
تراثك تحفظه بمطبوعاتك ونشره وتعريفه وعرضه،
وموروثك تحفظه بمنهجك الدراسي ووسيلة إعلامك.
موروثك تصونه من خلال ترميمه حسب الإمكانيات ومن خلال تسجيله في المنظمات الأممية وهو قائم بحمد الله.
إياك أن تدخل العقائد في المواريث فتحكم على نوع من الفنون حرام فتتلفه وتحكم على موروث حلال فتحفطه، فأنت مع المواريث ولست في مقام حلال وحرام، فالمواريث يتم حفظها ولو كانت فنونا في معتقدك لا تتفق معها فمن حقها العناية بها.
عليك أن تقرأ في مواريثك ورحلة منك في حارة قديمة، خير من رحلة في مجمع تجاري، وإطلالة منك على أم الفلج تكتشف من خلالها عظمة جدك وسلفك وزيارتك قلعة وحصنا سياحة في بلادك خير كثير.