أدي ولد آدب
فِي زَمَنِ ثوْرَة الأزْرَار، ورَقْمَنَةِ المعرفة، ما أزال أسْتشعرُ وحْشةَ الكُتُبِ الوَرَقِيةِ، أمَامَ وسائط المعْرفة الالكترونية.. فأشاركُها إحْساسَها بالضيْم، مُكْبِرًا- في الوَقْتِ نفْسِه- إصْرارَ دُورِ النشْر على مُواصَلة إنْتاجها.. رغْم كلِّ المُعَوِّقات.. فأنا أعْشَقُ الكِتابَ، مَلْمَسًا، ورائحةً، وألوانًا، ولِذاكرتي خبْرةٌ طوبوغرافية في مظَنَّاتِ المَباحِثِ، داخلَ صفَحاته، حتى أنني عندما أنامُ عليْه مُرْهَقًا، وأنَا أعالجُ فيه إشكاليةً مَا، يبْقَى دِمَاغِي، سَهْرانَ، يُواصِلُ مُعَالجَتَها، وحينَما يَسْتخْلِصُ النتيجةَ، اسْتيْقِظُ، وأمُدُّ يَدِي وأدَوِّنُ الفِكْرَةَ، ولو كنْتُ مُغَمَضَ العيْنَيْن، لأصطبح بها منتشيا.
ونظرًا لِخُصوصيةِ طقوسي مع الكُتبِ، فإني لا أرَى عناوينها كما تراها عيونُ كثيرٍ من زُوَّار معارضها، بل تتفاعَلُ في ذهْني، وتخْرُجُ – من رمْزيتها -إلى عالم التشيُّئ.. فأتصوَّرُها، وهي في عالمها القبْلي، في سَديمِها الهُلامي، تتشكَّلُ في أذْهان مُبْدِعِيها شيْئا فشيْئا، وتتقمَّصُ الأصْواتَ والحروفَ، لتبْنِي -من سَلاسِلها المَنْطقية، ودَوَالِّها البيانية- كيانَها الجديد، عبْر سيْرورة تخلُّقها التي لا تنْتهي بمُجَرَّد اتخاذها شكْلَ كتابٍ.. بل تواصِلُ تمَدُّدَها الوُجودي، وحِوارَها الفِكْري، وتفاعُلَها الرُّوحي، مع مَنْ يَقتنُونها، وحتَّى معَ المُتسكِّعينَ هناك، حيث تُعْتبر مُجرَّدُ قراءة العناوين، والسياحة فيها، هي الأخرى، معْرضا ذِهْنيا مُوازيا، يعيدُ المارُّون العابرون بناءها، في وعْيهم، وحتى في لا وعْيهم، إذ أن “الكتابَ يُقْرَأُ منْ عنْوانه”، كما يقالُ.
وحين تتنقلُ ببَصَرِكَ من عنوان، إلى عنوان، تبدأ بَصِيرتُك.. في ترْكيب تصَوُّرٍ مَعْرفِيٍّ حوْلَ الموْضوعات المَعْرُوضَة، حيث تنْطرِحُ عليْكَ مُباشرة تلك الأسئلة والإشكالات التي راودتْ ذهْنَ المؤلف أو المُبْدع، في وقت الإعداد والإنجاز، وتنْطلقُ “مُحَرِّكاتُ البَحْثِ” في ذِهْنية المُتَلَقِّي تسْتحْضِرُ أجْوِبَتَها المُفْتَرَضَةَ.. وتُجَمِّعُ أشْتاتها.. وهكذا تَتسابِقُ البَصيرَةُ والبَصَرُ في إعادة تأليف تلك العناوين الكثيرة، ولوفي ثَوَانٍ، حسَبَ سُرْعَةِ الزمن النفْسي، الرُّوحِي، وآلِيَّتِه المُرَكَّبَة المُعَقَّدَة، غير القابِلَةِ للقياس العادي، ومن هُنَا تتحَوَّلُ منْ مُسْتَطْلِعٍ عادٍ.. لعَناوين رُفوفِ تلك المَعَارِض…إلى مُعيدٍ لتأليفِ كلِّ معْروضاتها، التي تجُوسُ خِلالها، في دقائق طَوافِك المُتَنَاهَبَة بين ذاتِك المُسْتَعْرِضَةِ من جِهَةٍ، وبيْن العارض، والمَعْرُوض، من جهة أخرى.
ذلك ما أعيشُه شخْصيا، حتى أنني لو اقْتَنَيْتُ كتابا.. وانْخرطْتُ في قراءته.. فإنني لا أدْخلُ إلى سراديب عالَمِه الداخلي، وأنا خاليّ الذهْن، صفْحَةً بيْضاءَ.. أنتظرُ منه- بشكْلٍ سلبي- أنْ يُقدِّمَ لي كل ما يُريدُ هو، وإنما أتلمَّسُ مفاتيحَه.. مُدَجَّجًا.. بـ “أفقٍ انتظارٍ”.. مزْرُوعٍ بتصوراتي القبْلية، التي كوَّنْتُها من قراءتي.. الخاطفة.. المُختزلة.. لتداعياتِ العنوان.. باحثا عن نقاط الاتلاف والاختلاف.. بين ما أريدُ.. وما يُريدُ.. من ذلك العنوان.. الذي يُمَثِّلُ عَقْدًا ضِمْنيا.. بين القارئ والكاتب والمَقْرُوءِ.. مُسْتَمْتِعًا بلعْبَةِ إشْبَاعِ التوَقُّع حِينا، وإخْلافِه تارةً أخْرى، حسب آلياتِ التلقِّي الفعَّال.
ومن هُنا غالبًا ما أحْضرُ الجَلساتِ النقاشية للكتب، بهذه الذهْنية، فأصْدَم عندما أراها تشْويشًا.. لمَنُطوقِ العنْوان، وتخْريبًا لمَفْهومه، أكْثرَ منْها تجْذيرًا وتعْميقا لدلالته، لأنني أعتبرُ- جازما- أنَّ أيَّ عنْوانٍ، لا يُناسِبُ متُنَه، هو مِثْل رأس حُطَّ عَلى جَسَدٍ غيْر جَسَده، وعلى ضوْء ذلك، كثيرا ما أعْتمدُ آليةً للقراءة، أسَمِّيها: “جَدَلَ المَتْنِ و العنْوان”، أقيسُ بها مَدَى مِصْداقيةِ العنْوَنَةِ، حسب تجَلِّياتِ بنْيَتِها في نسِيجِ المَتْن.
إنَّني بهذه الرُّؤيَةِ التفاعُلُية مع عناوين الكتب، أهربُ منْ بَهارج البَصَر، إلى اسْتِكْناهِ البَصيرةِ، من اسْتعْراضِ الأشباح، إلى اسْتِجْلاء الأرواح، من هيْمَنَةِ التبرُّج المادي للسِّلَعِ التجارية، إلى التمَلِّي بالمُتَعِ الذِّهْنِيةِ.. اللامحدودة!