أثير – تاريخ عمان
إعداد : نصر البوسعيدي
منذ القدم وبعد عهد الخليفة عثمان بن عفان وصراع الأمة الإسلامية على كرسي الخلافة، اعتزل أهل عمان الفتنة بعد أن سقطت خلافة سيدنا علي بن أبي طالب نهائيا بمقتله وذهبت للدولة الأموية التي غيرت من النهج الراشدي بالانتخاب إلى الحكم عن طريق الوراثة.
لذلك كانت معارضة أهل عمان السياسية للدولة الأموية والعباسية فيما بعد تكمن في رفضهم للنهج الجديد والوراثي لحكم الدولة الإسلامية، فتفرد أهل عمان بنهجهم الخاص في الحكم فكان نظام الإمامة الذي يصل فيه ملك عمان بالانتخاب عن طريق أهل الحل والعقد علماء الفقه والشريعة من كانت مكانتهم كبيرة جدا ولهم الحق في انتخاب إمام عمان أو خلعه بالنيابة عن الشعب الذي يجب عليه الامتثال لما يقرره العلماء للصالح العام، وهذا هو نهج الديمقراطية العمانية آنذاك والذي تم فيه انتخاب أول إمام لعمان وهو الجلندى بن مسعود بن جيفر بن الجلندى أحد أبناء الجلندى بن المستكبر في سنة 132هـ والذي مات شهيدا بعدما قتلته جيوش السفاح العباسي حينما قدموا للاعتداء على عمان.
واستمر العمانيون في نهج استقلالهم وحروبهم ضد أي معتدٍ نتيجة إيمانهم المطلق في أن الحكم الإسلامي يجب أن يتم بالطريقة المشابهة للخلفاء الراشدين وعلى النهج الرباني ( وأمرهم شورى بينهم )، وهذا بالتالي تبعه استمرار انتخاب الأئمة الذين يحكمون عمان.
لذلك وحينما انتخب العلماء الإمام العادل الصلت بن مالك الخروصي في عام 237هـ بعد وفاة الإمام المهنا بن جيفر اليحمدي ليحكم عمان فقد أحسنوا اختياره، فالإمام الصلت كان نزيها وعادلا وشهما وناصرا لكل مظلوم يصل له خبره ويكفي أن نعلم بأنه بعث بجيوشه إلى سقطرى لنجدتها بعد رسالة الزهراء السوقطرية له تطلب منه النجدة من جور النصارى الذين اغتالوا واليه العماني في الجزيرة وعاثوا فيها فسادا، فطهرها وأعاد الحق لأهلها وصان شرف وكرامة نسائها.
الجدير بالذكر أن إمامة الصلت بن مالك الخروصي استمرت لـ 35 عاما كانت جميعها سنوات رخاء وعز وعدل، وكان جل العمانيين يدينون له بالولاء شكرا لما قدمه للبلاد بعدله وتوفيقه في جميع مدن وسواحل عمان الممتدة إلى البحرين.
لكن الفتنة أبت إلا أن تعكر صفو كل هذا الرخاء، ونتيجة بعض الآراء الشخصية التي تبناها الشيخ القاضي موسى بن موسى الأزكوي الذي قرر عزل الإمام الصلت عن حكم عمان عام 279هـ، وترشيح راشد بن النظر كبديل له حصل ما لم يكن بالحسبان، فهذا التوجه من قبل موسى بن موسى الذي يمثل المعارضة ضد استمراية حكم الإمام الصلت بعذر كبر سنه قد لاقى استحسان البعض ورفض الآخرين بكل قوة لولائهم المطلق لإمامهم، لتتشكل قوى المعارضة سريعا وينقسم أهل الحل والعقد إلى فئتين للصراع على السلطة فالشيخ موسى الأزكوي ومن معه سائرون لعزل الإمام ، وأصحاب الصلت في نزوى يترقبون المشهد الذي سيتسبب في الأخير بكارثة الحرب الأهلية والخيانة لصالح الدولة العباسية التي راح ضحيتها آلاف الأبرياء من العمانيين.
هذا المشهد الخطير في تاريخ عمان كانت وقائعه في نزوى مركز الحكم آنذاك، والبداية مثلما أسلفنا حينما زحفت المعارضة بقيادة موسى بن موسى متوجهة إلى نزوى وحينما وصلوا إلى منطقة فرق، علم الإمام الصلت بأن القوم لا سبيل لهم إلا الإطاحة بحكمه رغبة في تنفيذ ما قرره زعيمهم الأزكوي، ولأن الإمام يعلم تماما بأن له المناصرين كذلك من عامة الشعب، خشي عليهم من الفتنة وهدر الدماء إن نشب هذا الصراع، فقرر قراره الذي لم يكن يتوقعه حتى معارضيه بأن يعتزل الحكم بهدوء ويترك السلطة لخصومه وكأنه يقدم استقالته من الاستمرار في حكم عمان بتسليمه لخاتم الملك ومفاتيح خزانة بيت مال المسلمين للمعارضة وشيخها موسى بن موسى الذي كان سبب شرارة هذا الانقسام رغم محاولات الإمام كثيرا بالتحاور معه وتجنيب الأمة شر هذا الخلاف ثم اتخاذه قرار الاعتزال درءا للفتنة مثلما ذكرنا سابقا.
كان الموقف مهيبا وصادما لأتباع الإمام وهم يرون حاكمهم وبعد كبر سنه وخدمته لعمان 35 عاما يسير حزينا مكسورا تاركا حصن الملك وكل شيء وراء ظهره ومتوجها إلى بيت أحد أبنائه في إحدى حارات نزوى القديمة ليعيش مبتعدا عن كل ما يحدث.
وقد كتب هذا الإمام بحسرة في رسالة مهمة حفظتها كتب التاريخ لأحد أتباعه واسمه مالك بن الجمهور بن سجنه لما حدث له حينما أرسل الأخير يستفسر من الإمام عن الأمر ولماذا قرر الاعتزال وتسليم الأمر للمعارضة، وإليكم مختصرًا من نصها كما ورد في تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان لنعايش كوقتها ما حدث بلسان وقلم الإمام الصلت بن مالك الخروصي وهي كالتالي:
” وذكرت الذي كان في قضاء الله وقدره من سير هذا الرجل ابن موسى ومن كان معه، وقصدهم في ذلك لما أراد الله حتى اعتزلت، وبلغك من نهب بيت مال المسلمين وجعلوه دولا، وكل ما وصفت من ذلك فقد فهمته عنك إن شاء الله، واعلم يا أخي أن هذه الدولة قد كان لها رجال لهم حلوم راجحة عالمة، وقلوب سليمة، وكانوا على أمر واحد يطأ الآخر أثر الأول، وقد كانت بينهم الأعتاب فلم يبلغ بهم الأمر إلى مثل هذه الغاية، فلم يزالوا على ذلك حتى مضوا فانقرضوا رحمة الله عليهم، ثم خلفنا نحن وأنتم من بعدهم، وبليت بهذا الأمر من غير محبة مني فيه، ولا طلب له ، إلا أن طلب ذلك من طلب إلي من أفاضل المسلمين، وأهل الفقه في الدين، ورغبت في طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحق.
ورجوت نصرة المسلمين لي على ذلك، فكان يومئذ من قد عرفت من أشياخ المسلمين، فقمت بهذا الأمر ما شاء الله والمسلمون لي أعوان، ونحن وهم على أمر جامع إلى أن ذهب أهل الفضل وأهل العدل ومن يحب الحق، ونشأ اليوم شباب وناس ظهرت رغبتهم في الدنيا وطلبوا الرياسة فيها، وكان موسى هذا يصل إلينا ويقول إنه يأتي بنصح، ويكاتب الناس ويؤلب على الدولة، ومرة يظهر الشتم لأهل الدولة، ومره يطلب خلاف ذلك، فلم تزل الأيام ترقى به وهو يدعو الناس إنما يطلب الصلاح وإظهار الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطلب إلينا مطالب لا أراها ولا أعرفها من الحق ولا مقاربة إلى ذلك، وأنا أدعوه إلى كتاب الله وسنة نبيه وآثار أئمة المسلمين ولما يجتمع عليه رأي المسلمين، فيقول ويرسل إلي أنا لا أنظر إلى قول فلان، ولا أرضى إلا أن تنزل إلى قولي ورأي!
فلم أر ذلك من الحق، ثم حشد وسار إلينا بمن أجابه وكتب إلى من شاء الله من المسلمين حضر من حضر، وزحف القوم إلينا، وتقارب بعضهم من بعض، فأمرت الشراة ومن كان على هذا الفيئ بالشخوص ومنع العسكر، وأن يجاهدوا على الدولة فكره، فأمرتهم بالتقدم فتأخروا ولم يصلوا، فكتبت إلى عمر بن محمد القاضي بالخروج إلي وخرجت إليه فلم يخرج وصرت أنا في حد من عرفت من الضعف، وخفت أن يصل القوم ويدخلوا العسكر وتلقاهم الرجال فتقع الحرب وتسفك الدماء، وأنا في البيت بلا حجة ولا أمر يكون في إظهار الأمر، فخفت سفك دماء الناس، فرأيت أن تحولت إلى منزل ولدي، بلا ترك للإمامة ولا بخلع لها، ولا لما طوقني الله من هذه الأمانة، فأمرت بحفظ مال المسلمين، وحفظ السجنين، وأمرت بذلك عزان بن تميم، فلما بلغ القوم ذلك دخلوا، وزعم موسى أنه قد عقد للإمام برأيه وكسروا بيت مال المسلمين ونهبوه وأذهبوه، وأطمعوا في هذه الدولة عدوها، وفعلوا ما لا يرضى الله به، وما اختلعت وما تبرأت ….”.
وأما قائد المعارضة موسى بن موسى فقد كتب كذلك رسائله لبعض أتباعه وحفظتها بعض المصادر التاريخية يشير فيها إلى ما حدث، فقد كتب لأهل سلوت هذه الرسالة :
” إن الله وله الحمد قد أخذ على القوام بأمره ميثاقا بلغنا إلى ذلك وأطاقنا، ولا عذر لنا عند الله إلا بإبلاغ العذر فيما ألزمنا وطوقنا، ونرجو أن يشهد الله لنا إنا لم نقم في شيء مما قمنا فيه لطلب فتنة ولا لإحنة، فأما الصلت بن مالك فصار إلى حد الزمانة – عاهة ومرض مزمن – ، وتغير العقل في بعض الأوقات، وشهد عندنا بذلك عدول من الناس بما استحللنا من أمره ما استحللنا، وخرجنا للنظر منا ومن المسلمين، وإقامة الحجة في أمره، فاعتزل بأمره وأرسل إلينا من يثق به أن ينظر للمسلمين، وكتب إلى عزان بن تميم بخطه يذكر اعتزاله ويستحثنا على التعجيل، فلما صح عندي أنه قد برئ واعتزل اتفق المسلمون هنالك على ما كانوا اتفقوا عليه، فهذا أمر الصلت بن مالك وليس عندي فيه شك ولا ريب”.
ومن هنا نرى بأن الصلت بن مالك الخروصي فضل عدم الخوض في العراك مع المعارضة بترك كرسي السلطة، ورغم كل محاولاته إلا أن الفتنة وقعت بعد مدة وابتليت عمان بالحرب الأهلية والخيانة التي أتت بعامل العباسيين محمد بن نور( بور ) لغزو عمان وقتل أهلها بمذابح لا تقل عن مصيبة القتل التي حدثت للعمانيين في حربهم الأهلية وللأسف.
المرجع :
– عمان عبر التاريخ، الشيخ سالم بن حمود السيابي، الطبعة الخامسة 2014م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان.
– تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ، الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي ، مكتبة الإمام نور الدين السالمي ، 2000م – سلطنة عمان
المرجع :
الصورة : لقبر الإمام الصلت بن مالك (من شبكة المعلومات العالمية)
الصورة :