تاريخ عمان

الحاكم العُماني الذي اعتذر للشعب وأعلن توبته أمام الجميع

الحاكم العُماني الذي اعتذر للشعب وأعلن توبته أمام الجميع
الحاكم العُماني الذي اعتذر للشعب وأعلن توبته أمام الجميع الحاكم العُماني الذي اعتذر للشعب وأعلن توبته أمام الجميع

أثير – تاريخ عمان
إعداد: نصر البوسعيدي


قليلة جدا هي سيرة الحكام العرب عبر التاريخ الذين يعلنون اعتذارهم لشعوبهم وتوبتهم عن الأخطاء أمام الجميع.

هناك أمثلة رائعة في تاريخ عمان تشير إلى قوة الإصلاح الذي ينادي به من يخشى على الوطن من فساد أي من كان في سدة الحكم، فالمصلحة العامة مقدمة على كل شيء، وحينما يرى ولي الأمر بأن المصلحين فعلا لا أطماع شخصية لهم ولا يبحثون عن الجاه والسلطة، ستجده خاضعا لأفكارهم الإصلاحية محبا لنصحهم متفقا مع خوفهم.

لقد كانت عمان على مر العصور مسرحا للكثير من الأحداث والنزاعات والفتن التي ضعفت من خلالها البلاد، وتشتت بين معارض ومؤيد لسلطة الإمامة بين هذا وذاك، ولن ينسى أهل عمان تلك الفتنة العظيمة التي مزقت البلاد لحروب أهلية مؤلمة حينما تم عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي بقيادة المعارضة التي يرأسها الشيخ موسى بن موسى الأزكوي.

لقد استمرت إرهاصات هذا الانقسام لمئات السنين نتج عنه الكثير من الضعف والشتات والغزوات الخارجية التي سفكت الدماء البريئة نتيجة الصراعات السياسية الطامعة لنيل السلطة.

واختصارا لكل تلك الأحداث سنتجاوزها مخافة الإطالة، لنصل إلى اتفاق أهل عمان على راشد بن علي في القرن السادس الهجري ليصبح إماما وحاكما للبلاد بعد وفاة الإمام حفص بن راشد اليحمدي، ولأن عمان انقسمت حينها بين مدرستين سياسيتين فكريتين تدعى الرستاقية والتي تنسب إلى أبي محمد عبدالله بن محمد بن بركة السليمي الأزدي البهلوي نسبة إلى بهلاء، والذي بكل شده يعارض عزل الإمام الصلت بن مالك ويبرأ من موسى بن موسى وصاحبه راشد بن النظر، والأخرى المدرسة النزوانية التي تنسب إلى أبي سعيد محمد بن سعيد بن محمد الناعبي الكدمي نسبة إلى  الحمراء الذي لا يرى وجوب البراءة من موسى بن موسى وصاحبه في قضية عزل الإمام.

نتج عن هاتين المدرستين صراعات بين أهل عمان بعضها اتخذ جانب التشدد والتزمت والتصفيات الدموية، وبعضها اتخذ جانب الصراع الفكري بين العلماء الذين أخذوا يؤلفون الكتب التي تحمل أفكارهم والرد على الجانب الآخر لإثبات صحة وجهة نظرهم دون الأخرى.

ويبدو أن الإمام راشد بن علي كان من مناصري المنهج الفقهي الفكري للمدرسة النزوانية، لكنه في الوقت نفسه عين بعض القضاة الذين يميلون لفكر المدرسة الرستاقية المتشدد على بعض المدن كالقاضي نجاد بن موسى المنحي وغيرهم، كما أنه أساء السيرة في التعامل مع بعض القضايا التي أثارت عليه العامة من الناس ، مما تسبب في أن خرج عليه أصحابه ومناصروه وأغلب العامة احتجاجا على نهج إدارته وتصرفاته ورفضهم لما يفعله بعض قضاته كالقاضي نجاد بن موسى ومنهج تشدد فكره وآرائه الفقهية بقضية عزل الإمام الصلت بن مالك، فقام الإمام راشد بالاستجابة لمطالب الناس وتصحيح المسار، وعزل القاضي نجاد بن موسى ومن معه من القضاة، وأعلن لعامة الناس اعتذاره وتوبته من الأخطاء التي ارتكبها وبراءته من بعض رجال دولته الذين أساؤوا من وجهة نظر المعارضين السيرة في الرعية وذلك يوم الإثنين 11 من ربيع الآخر سنة 472هـ، وكتب بخط يده ذلك وشهد على هذا الاعتذار القاضي أبو عبدالله محمد بن عيسى، والقاضي أبو علي الحسن بن أحمد بن نصر الهجاري، والشيخ أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي جابر وأخوه أبو جابر محمد بن عمر ، وعلي بن داود ، وعبدالله ابن إسحاق المنقالي وغيرهم من أفاضل الناس وأعيانهم وفيما يلي نصها :

” بسم الله الرحمن الرحيم ، أنا إمام المسلمين راشد بن علي … أستغفر الله، وإني تائب من جميع ذنوبي قليلها وكثيرها، وصغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها ما علمت منها وما لم أعلم كان ذلك مني على العلم أو الجهل أو الخطأ أو النسيان أو التدين أو الاستحلال أو التحري من كنت متأولا فيه أو دائنا به ومما ارتكبته وأمرت به، ومما عملته جوارحي أو تكلمت به بلساني أو اعتقدته بقلبي، وتائب إلى الله تعالى من السيرة التي سرتها بغير العدل مخالفة للحق ومن كل خطأ مني في إلزام أهل النواحي الخروج منها ومن ترك النكير على نجاد بن موسى بعد علمي بالسيرة التي سارها مخالفة للحق والعدل ومن ولايتي له على ذلك وتوليتي إياه بعد علمي بأحداثه وفعله من الجبايات التي أمرت بها، وجبيت بغير حق وأنفقت في غير أهلها ومستحقيها ومن العقوبات التي عاقبت بها وتعديت فيها غير الواجب أو أمرت بذلك من فعله، ومن إخلافي لكل وعد وعدته ولم أوف به، ورجعت عنه من كل عهد عاهدته ثم نقضته، ومن تقصيري عن القيام بما يلزمني من الحق والعدل، ودائن لله تعالى بما لزمني في الأحداث التي أحدثت في القرى على أهل القبلة من الخراب والحرق وأخذ الأموال وعقر الدواب والأحداث في تخريبها، وما جرى من العساكر التي أخرجتها، ومن كل حرب حاربتها، وسفكت الدماء فيها بأمري، وملزم نفسي بذلك وما لزمني من حق وضمان ودية وأرش وغير ذلك، فأنا دائن لله بالخروج منه، والخلاص إلى أهله ومستحقه، وقابل قول المسلمين، وراجع إلى قولهم وقابل نصيحتهم نادم على ما سلف مني في نفس أحد المسلمين أو عقوبته بغير ما يلزمه ومعتقد أني لا أرجع إلى ذنب أبدا، وإن عملت بذنب بعد هذه التوبة ولم أتب منه فهو داخل في هذه التوبة لازمة لي إلى الممات ومن كل تولية وال وليته ولم يكن لي ان أوليه، أشهد الله بذلك وكفى به شهيدا ومن حضر من المسلمين”

ولقد علق القاضي أبو عبدالله محمد بن عيسى على الإمام وتوبته فقال له مختصرا لأهم ما جاء في مجمل رده :
” سألت عن التوبة التي دعاك الجماعة إليها وإلى الكتاب الذي كتبوه لك فيها، فاعلم أني نظرت في ذلك على قدر ضعفي وقلة بصيرتي فرأيت الكتاب يشتمل على معان كثيرة يطول شرحها غير أني أذكر لك من ذلك ما يسر الله، واسأل الله التوفيق لذلك.
أما توبتك من السيرة التي سرتها بغير العدل مخالفة للحق، فان كان ذلك قد جرى منك على الاستحلال والتصويب لنفسك فلا أرى هذه التوبة تكفيك ولا تصح لك ولا يقبلها المسلمون منك حتى تفسر ذلك تفسيرا غير هذا، وتتوب منه بعينه على التفسير، وإن كان منك ذلك على التحريم والتعمد لمخالفة الحق عند فعلك فما كان فيها من تلف نفس أو مال فعليك الضمان والإخلاص من حقوق العباد في الأموال والأنفس مع التوبة، وإن كان ذلك منك جهلا بحرمته وضنا منك إنه واسع لك من غير تعمد للحرام ولا قصد منك لمخالفة الحق والاستحلال لذلك بديانة وتأويل فقد يوجد في مثل هذا أنه يخرج مخرج التحريم وقد تقدم القول في المحرم وما يلزمه من الضمان في الأموال والأنفس والخلاص من ذلك ….
وأما توبتك من كل حرب حاربتها وسفكت فيها بأمرك، فان كنت حاربت حربا بعد حرب منها ما هو بالحق ومنها ما هو بالباطل فتبت من جميع ذلك فلا يجوز لك أن تتوب من الحق وعليك التوبة من توبتك من الحق، وعليك التوبة أيضا من الحرب التي حاربتها بالباطل وإن كان على الاستحلال فقد تقدم الكلام في المستحل وإن كان على التحريم فقد تقدم أيضا الكلام في المحرم وما يلزم من ذلك من الضمان في الأموال والأنفس، وإن كنت مخطئا في جميع محاربتك من أول إلى آخر فقد أصبت في التوبة منها، أما الضمان فهو على ما تقدم به من الكلام في المستحل والمحرم … ، وقد ذكرت لك ما قد ذكرته على قدر ضعفي وقلة بصيرتي فان كان حقا فهو من الله تعالى فخذ به، وإن كان فيه مخالفة للحق فلا تأخذ به وأنا استغفر الله من كل ما خالفت فيه الحق والصواب والحمدالله رب العالمين وصلى الله على رسوله محمد النبي وآلة وسلم تسليما”.



هذه هي سيرة الإصلاح وما كان من حاكم عمان الإمام راشد بن علي والمعارضين لمسلك حكمه، وهكذا تناغم الإصلاح مع أولياء الأمور في البلاد ليصل الجميع إلى الخير الذي عم عمان وأهلها، فالمصلحة واحدة ورواد الإصلاح تبقى سيرتهم خالدة عبر التاريخ فرحم الله أمة كانت تحاول أن تصل بالبلاد إلى أفضل حال من التقدم والسلام والأمان.

المرجع : تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، الشيخ العلامة نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، الناشر مكتبة نور الدين السالمي – السيب سلطنة عمان 2000م.

Your Page Title