هلال بن سالم الزيدي- كاتب وإعلامي عماني
شخصياً لا استطيع الاحتفاء بـ 23 يوليو المجيد أو مناسبة وطنية أخرى إلا من خلال تحسس محبة الوطن عبر أفعال رجال مبدعين أغدقوا بإحساسهم في شتى المجالات.. ومع كل عام تتشكّل لديّ صورة معبرة ينغمس في ثناياها حب الوطن فترسلني الذاكرة إلى الوهلة الأولى التي بدأت تقصي قصيدة “أنت المحبة..يا عُمان” للشاعر الراقي ذياب بن صخر العامري الذي لم ألتقيه شخصياً، ففي كل مناسبة احتفي معها وأفند بعض ما جاءت به من سبائك، وحتى لا يقع القراء في اللبس أُوضّح: بأنني لست متخصصاً في شرح القصيدة؛ وإنما أُسجل احتفائي المتجدد بها معتمداً على الاجتهاد والشعور بعظمة الصور الشعرية بين العاشق ومعشوقته، فربما أُصيب أو أُخطئ، ولا استطيع الوصول إلى معنى الشاعر، وكما قيل: “فالمعنى في بطن الكاتب”.
الشيء الأصيل يبقى ولا يتغير، فكلما صادفك موقف أو مررت بمنعطف زمني تتذكر ذلك الكيان بأصالته.. وعندما ترى متغيرات الزمان وعواصف المحن يأتي من يمنحك السلوان عبر سبك شعري لا يمكن أن يندثر فيكون بديلاً للشعور بالغربة والوحدة.. أو ربما يكون نصيراً فيُشعل لديك فتيل القومية والوطنية جراء تصرفات موحشة تتسربل إلى الواقع فتنهش كل شيء بنظرة أُحادية ومصلحة ذاتية..وبالتأكيد فإن للقصيدة كيان يجدد حبَّ الوطن في كل لحظة عندما يتقافز صدر أو عجز أو بيت منها إلى أذهاننا كلما رأينا الأوطان وهي تحتفي بذاتها ونماءها.. نعم إنه الحب الخالد والرونق الساحر الذي نقله لنا الإعلامي والشاعر ذياب بن صخر العامري عبر حالة شعورية لا يمكن أن تنشطر في حبين أو تكون تزلفا لنيل رفعة أو سمعة.. وإنما كانت وصفا لخلجات قلب كل عماني أصيل، وروحاً في كل شهيق وزفير.. وقطراً قطقطاً زلالاً ينبت القلوب القفار.. فهي الكلأ الذي ترتاض النفوس بينه، وهي الغيث للآواء والجهد محملة بالمعاني الثقال.
يتاح للعاشق ما لا يتاح لغيره إذا كان ذا قامة فكرية تقرض الشعر قرضاً، ويسمح للعاشق إعلان عشقه إذا كان منطوقه يوازي عظمة المعشوقة.. ويجاز للعاشق نبش اللغة وصياغة العقد بأغلى الأوصاف لتتوشح به الحبيبة فتتباهى بحلتها وكيانها.. فالعشق هنا انفطار القلب وذوبانه مشكلاً حباً راسخاً لا تقوى القلوب الضعيفة على تحمّله أو فهمه لأنه الوطن الذي لا يمكن أن يكون عظماً بين أنيابها أو لحماً فتنهشه سخاءً رخاءً.
مـاذا يضـيرك لـو عشقـتك مـرةً وضـمـمت قــدك بكـرةً وأصيـلا
بدا العامري ملحمته الشعرية في هذه القصيدة باستأذان لطيف؛ يستأذن معشوقته بكل أدب وسمت وإخلاص:”هل يؤذيك أو هل من ضرر أن أعشقك مرة” بما يفيد تكرار العشق وتتالي المحبة لجمال المعشوقة وتوهان العاشق في وصفها مطالباً أن يضم “قدها/قوامها” المتخم بجمال التضاريس والنتوءات ضماً عميقاً ممتداً، دون أن يقتصر الضمّ على جزء واحد منها وإنما أراد ضمّها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ولعلها إشارة إلى تناغم هذا الوطن في موضعه وموقعه والذي يجب أن يستثمر لمنفعة الإنسان، والضمّ هنا استشعار الأمانة والنزاهة التي يجب أن يتحلّى بها كل فرد وكل مسؤول، وعلى الرغم من أن “ماذا” هي استفهامية في معناها اللغوي إلا أن الشاعر أرادها جمالية تأكيدية توضح بلاغته وإبحاره الواسع في بحر اللغة وحب الوطن، وما يمكن أن يكون لهذا العشق من جدوى نافعة، ومع تلك المشاعر وانسياقها في هودج القصيدة فإنه من المؤكد بأنها لا يمكن أن تأبى أو تتمنّع لعشق أبدي يسير في مجرى العروق ويضخ أكسير الحياة إلى حيث يرقى الإنسان بوجوده شريطة أن يكون حباً صادقاً.
وسـدنت في محراب حبك خـاشـعاً أدعـو الإلـه مـرتـلاً تـرتـيــلا
للوطن محارم بنيت على الخشوع عندما يُذلل الإنسان كبرياءه فيه ويتخلص من الأنانية “ليسدن” له لأن الجميع خدم لأوطانهم، ويبتهلون لله عز وجل بتجويد وتلاوة وتأنَّق وتؤدة لا عجل فيها، والدعاء للأوطان في وضع السجود هو أفضل موضع للإجابة، وربط الحب بالمحراب دلالة على قدسية الحبيبة (الوطن)، والدعوة هنا للإنسان أن يجعل وطنه كالمحراب المقدس الذي يقود إلى التكامل والتكافل الاجتماعي، ولعل هذا الشيء يؤكد تشبيه البعض للأوطان بالمساجد من حيث حرمتها فهي ملك للجماعة وليس وقف للفرد، ومن المؤكد باأنها تأخذ حقها من الظالم حتى ولو بعد حين أو تجازي حبيبها بعيش كريم، والدعاء الذي رتله “العامري” هو المحافظة على الود بين العاشق والمعشوق وتأكيداً على الوقوف مع الوطن في وقت الرخاء ووقت الشدة، وهذا ما ينعكس على الأزمات التي تصيب الأوطان، فالجميع ملزمون بشد الأحزمة، دون التأثير على الفئات البسيطة أو الطبقات الفقيرة، وإنما على الطبقة الغنية تقديم نموذجاً وولاءً لحفظ الود الذي دعى إليه الشاعر، عندما قال :”أن يحـفــظ الـود المقـدس بيـننا.. وبـأن تـكوني الحـــب والتقبـيلا .. وبأن تـكـوني زهـرة عطـريــةً.. لا تعـرفـين إلى الــذبـول سبـيلا” كل ذلك من أجل أن تتناثر “القُبل” بإنسانيتها وعمق معانيها عبر أفعال لا أقوال، وعبر مشروعات تبني الإنسان وتمنحه حقوقه فيزداد وينمو لديه الحب المفضي إلى العطاء لتفوح مقدرات الوطن في كل شبر كزهرة عطرية لا تذبل، ونفوس لا تشقى ولا تعرى، والزهرة جسد حسّاس يحتاج إلى رعاية خاصة من أجل أن تزهر بقدر الاهتمام الإنساني لها.
وبـأن تـكـوني بلسـمــــــاً في خـــــاطري يشـفي الجـراح فلن أكـون علـيلا
وبـأن أكـون لـديك أخلـص عاشقٍ فـأردد اسمـك كـالنشـيـد جميـلا
وأرى جـمــــــــالـك صــــــــــورةً خــــــلابـةً أرنـو إليـهـــا مــــــا حييــــــت طـــــويـــــلا
عبق الزمان ورائحة الماضي ووجدانية الوطن هي البلسم الذي يضعه العماني في مقدمة حبه وتعلّقه بكل شبر من المكان والزمان، وإن صادف ذلك شظف في العيش إلا أن ” عُمان” هي الدواء الشافي الذي يضمد صروف الأزمنة، لذا على المتجردين من إنسانيتهم فهم هذا المغزى حتى لا يكونوا “علة” في جسد الوطن، وإن حدث ذلك يبقى لنا وطن يضمد العلّات التي تنساق عبر عالم متغير، ومنها تتسع منظومة الإخلاص في العشق وتكون ” عُمان ” خطاً أحمراً لا نقبل لأي فرد أن يحوله إلى نشاز، لأنها خُلقت نشيداً جميلاً تتأنق في كل حقبة زمنية ويزهو جمالها قلباً وقالباً لترنو إليها الألباب مع تعاقب الأجيال وتأخذ منها عبرة الأمان والثبات والعزة والشموخ، وبالتالي لا يمكن التساهل مع من أراد بها سوءاً أو أراد أن يستأثر بها لغرض في نفسه، وجميع الأفئدة ترنوا إليها صبابة وشوقاً واستمتاعاً وحفظاً من كل مارد.
كـم سـار ذكـرك في البرايا مشعلاً وأنـار أهلك في الدجـى قنـديــلا
ولئــــن ذوى عــــــــود الزمـــان بـأمـــــةٍ يبـقــــى زمــــــانــــــك للـــــورى أبـريــلا
وإذا ورود الشــوق ماتت حسـرةً تنـمـــو ورودك للـجـــــوى إكـليـلا
وطن نباهي به العالم في خضم الانتكاسات التي يشهدها من حروب وفقر ومجاعات وصراعات وتحزبات، لذلك ونحن في هذا الزمن وفي ذكرى يوليو المجيد نرى صيت “عُمان” التي أحبت الكل فأحبوها لأنها لم تتبع إلا حكيمها وقائدها الذي نأى بها فأصبح قبس ينير الدياجي لكل عُماني مخلص، ودعا إلى التعايش السلمي والتعاون البنّاء، وهنا قراءة شعرية لأوضاع تتكرر ونكبات تتوالي عندما يذبل عود الزمان بالأمة العربية والإسلامية فيتداعى عليها الأعداد كتداعي الأكلة على قصعتها، لأنهم كغثاء السيل ليس إلا، تبقى عُمان بزمانها ومكانها حباً منفتحاً تثوي إليه القلوب وتستظل بظلاله الإنسانية، لذلك علينا أن نعطي هذا الكيان قدره ومقدراه وأن لا يجد أعداء الخارج والداخل منفذ إليه والعبث بمقدراته، لتسمو الحياة ويكون هذا الوطن وردة ووجداً وشوقاً للنفوس الراقية فتضعه تاجاً على هاماتها.
لا تـســــــــأليـنـــــــي أن أؤول لــــــــوعـــــــتي فالشـعــــــــر يأبى البـــــــوح والتــــــأويـــــلا
هـل تصبـحين حبـيبتي وخليلـتي فـبـــــــــــــــــدون ودك لا أود خليـــــــــــــــــــــلا
لولا ودادك مــا نظمت قصائــدي ولمـــا غـدا حبـــــل الهـوى موصولا
أنـت المحبــــــــة يــا عمـــــــان ولا أرى من غيــــر حبـــك يـا عمــــان بديـــــلا
كــــوني إذاً حـبــــــاً عظيـمـــــــــاً خــــالــــــــداً كـوني الرؤى كوني الصفـاء دليـلا
لا يمكن أن يجد العاشق تأويلا أو تفسيراً لشدة حبه وعشقه لمعشوقته، لأن حبه شامل جامع لكل صنوف التفاسير، والحالة الشعورية متحكم قوي في الذات لا تستدعى عنوة وإنما جمال المنظور هو الذي يمنح الروح للمشاعر لتتحرك في تعابير وصور مختلفة ينغمس فيها ويداريها من كل آفة تقض مضجعها، وهنا الوطنية هي الجسد الأهم الذي يمنحك الشعور بالعيش من أجل الحياة، ليتسابق الجميع في خطب ودها لتكون الحبيبة والخليلة، وبها تصدق الأوصاف فتصبح رفقية وصديقة، وتتفجر القصائد في غَزْلِ وِشاح الوصل فيها ، فحب عُمان لا يوازيه حب ولا يمكن أن يكون له بديل.. لأنها الحب الخالد الذي يسير بنا في درب الحياة.
لا يختلف اثنان على جزالة الألفاظ الشعرية “للعامري” ولا يمكن أن نؤول سبحاته الشعرية في توصيف دقيق وخاصة عندما يلقي بقريحته في ثرى الوطن فيختال شامخاً عذباً، لذا كان لا بد من الولوج إلى أعماق الصور الشعرية التي أرسلها في حب الوطن، ومنها هذه القصيدة التي احتفي بها في كل مناسبة.. فالوطن حب راسخ وعمل متقن وواجب يؤدى بأمانة وخلق… فحب عُمان هو ملحمة الحب وقبس النزاهة “كل عام وعُمان في أبهى حلة” .