
كنا في مقال سابق معنون باسم ” تراث أمة .. حبيس حجرة ” منشور في صحيفة ” أثير” بتاريخ الثامن والعشرين من مارس الماضي ، قد فتحنا ملف الباحث العماني المعروف علي بن أحمد محاش الشحري ومسيرته البحثية المتواصلة منذ عدة عقود في توثيق تراث أمة ، دون كلل أو ملل رغم ما تعترضه الكثير من المحبطات والقليل من سوء الفهم ، والتجاهل وعدم التقدير من المؤسسات الحكومية ، وكيف تحول مجلس استقبال ضيوفه داخل منزله القديم جدا إلى متحف صغير لهذا التراث الممتد عبر السنين ، والمتجذر في أعماق التاريخ ، والمتقاطع مع حضارات إنسانية كونية .
وقد طرحنا في المقال سالف الذكر التساؤل التالي : من يحقق حلم الشحري في إقامة متحف لاكتشافاته التي تئن بها حجرته ؟ فلو أراد تحقيق حلمه بتمويل من الخارج لشهدنا هذا المتحف قائمًا منذ عدة سنوات ، ولو أراد صناعة استقواء خارجية بالداخل ، فقد أتيحت له صولاته وجولاته العربية والعالمية مجموعة فرص مفتوحة وقائمة حتى الآن .
لكنه ، ظل عفيفا عصاميا ، لم يتاجر بتراث أمته ، ولا المتاجرة به ، ظل شامخا وصامدا في وجه كل الأنواء التي تعترض مسيرته ، كل من يزوره أو يقابله ، سيشعرك منذ الوهلة الأولى بعمق ارتباطه بالتراث والأرض ، وارتباط التراث والأرض به ، وهذه حالة رجال التاريخ المشهورين الذين تتلبسهم القيم والمبادئ ، ويجسدونها في عصرهم ، ولولاها ، لما كانوا تاريخيين ، ولولاهم لما انتقلت الى الإنسانية تراثها المادي وغير المادي ، فالشحري يحمل التاريخ معه ” ذاكرة ومكانا وسلوكا ” .
يزور بيته المتواضع ، وتحديدا هذه الحجرة الكثير من كبار المسؤولين في البلاد ومن خارجها ، ويشاهدون مآلات مسكنه ، وتحديدا حجرة مكتشفاته الآيلة للسقوط .. ولا عبرة بهذه المآلات ، ولا مبادرة منهم عند صناع القرار- يراجع المقال –.
ويظل حلمه بالمتحف شغله الشاغل ، ولم يتنفس الصعداء ، وتفتح له الآفاق إلا مؤخرا ، بعد أن أخبره صديقه البروفيسور الأمريكي وليم زيمرل بأنه نجح في تقديمه لأرقى الجامعات الأمريكية بعد أن وجدوا قيمة تاريخية وتراثية في كل مكتشفاته ، وقريبا سيخلد اسمه في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضمن المشاهير الذين أثروا الإنسانية وحافظوا على تراثها المادي وغير المادي ، بينما يظل داخلنا في موقف المتفرج من بعيد رغم قربه الحميم ، ورغم أنه الأولى بهذا الإنجاز وبدعم هذا الباحث العماني الأصيل .
· مكتشفات الشحري في أرقى الجامعات الامريكية .
وأخيرا ، جاء من ينصف هذا الباحث العماني المخضرم ، من خارج مؤسسات بلاده ، ومن قبل أحد الأطر الاكاديمية العالمية في الولايات المتحدة الامريكية ، وهو البروفيسور وليم زيمرل عالم الاثار في جامعة فيرلي ديكنسون وجامعة نيويورك ، بعد أن تعرف على الشحري عن قرب ، ودرس مكتشفاته الأثرية ، وعاصره في بعض مفاصل مسيرته البحثية الميدانية الحديثة ، وتأكد له قيمتها العلمية والتاريخية ، وعمق تلاقيها مع كتابات ومكتشفات في الولايات المتحدة الامريكية .
فكانت مساعي زيمرل ، إقامة معرض التراث الثقافي في جامعة هيوستن ، ثم في المركز الثقافي العربي الأمريكي للتراث العربي الأمريكي في هيوستن ، تكساس ، وقد تم تنظيم معرض مؤلف من (35) صورة ، وكان مفتوحا للعامة طوال شهر فبراير من عام 2017 ، وقد وجد المهتمون الأمريكان بالاثار في اكتشافات الشحري ، تطابقًا مع بعض الكتابات التي تم اكتشافها في ولاية كولورادو ، والشيء نفسه مع الامازيغية .
ويقول عالم الآثار زيمرل بأن الهدف من هذا المعرض ، عرض إنجازات الشحري ، وتوضيح للرأي العام العالمي إسهاماته الأساسية في الحفاظ على التراث الظفاري والكتابات القديمة ، ولدى هذا العالم خطط مستقبلية طموحة جدا لتسويق مكتشفات باحثنا العماني ، مثل عرض مكتشفاته في الأمم المتحدة بنيويورك ، وفي ألمانيا خلال ما تبقى من العام 2018 وكذلك عام 2019 ، وهي حاليا قيد التنفيذ .
وعلمنا من مصدر خاص جدا -يرفض الكشف عن هويته- أن صورة باحثنا العماني سوف يتم تنصيبها في إحدى قاعات الجمعية العامة للأمم المتحدة “قريبا” من ضمن الشخصيات العالمية التي لها بصمات في الكونية الإنسانية ، وهذا سيكون إنجازا عمانيا بقدر ما هو انجاز ذاتي لباحثنا .
· باحثنا نسق فكري وسلوكي يرسخ التنوع الثقافي .
منذ أول زيارتنا لمنزل الباحث الشحري ، وحتى آخر زيارة له قبل يومين ، تولد لدينا شعور دائم ، بأن كنوزه التاريخية لن تظل طويلا حبيسة حجرته ، وأن جهوده ستقدر في حياته قبل مماته – بعد عمر طويل إن شاء الله – فمن يعرف أو يتعرف على هذه الشخصية ، سيدرك منذ الوهلة الأولى تميزها بالصدق والوفاء للتراث المادي والمعنوي للأمة ، ومدى استعدادها للحفاظ عليها أكبر من التمسك بحقوقها البشرية.
فقد أمضى ( 33) عاما باحثا ومكتشفا ومؤلفا ومحاضرا عن تراث امته في الكهوف والاودية والجبال والسواحل ، تقدر حتى الان (240) موقعا اثريا في محافظة ظفار ، كما قام بالعديد من المحاضرات داخل بلاده وعربيا ودوليا .
ويرى في لقاء سابق أن السلطنة بشكل عام وظفار تزخر بمخزون تراثي تاريخي وثقافي قديم ومن بينها اللغة والكتابات القديمة التي يجب أن يتم إجراء المزيد من البحوث والدراسات لها لكشفها وفك رموزها حتى تكون موثقة تعود إليها الأجيال القادمة للاستفادة من التاريخ العظيم للسلطنة والحضارات التي مرت بها.
وأخيرا :
يمكن القول بأننا امام شخصية عمانية تؤمن بما تقوم به ، وبما تتمسك به ، وبما تتطلع له ، فلم تغرقها المعاصرة رغم تأهليها في أرقى الجامعات العسكرية العالمية ، وهي جامعة مونس العسكرية ببريطانيا ، كما لم يغريه العمل الأكاديمي رغم حصوله على بكالوريس في الآداب ، تخصص التاريخ .
فظل باحثا وموثقا في ما خلفه الأوائل من آثار مادية ، هي له بمثابة إرث ثقافي ، وتجربة إنسانية شاملة ، ومحطات يجب التوقف عندها ، ومسيرة يجب استخلاص العبر منها ، لتضيف في النهاية عمقًا جديدا على تجذر دولتنا في عالم مضطرب اختلط فيه الصادق بالمدعي ، وسارق التراث بحارسه الأمين .
وكل زيارتنا الأربع السابقة ، تؤكد لنا أن الشحري يمثل نسقا فكريا وسلوكيا ، يرسخ بوعي رفيع التنوع الثقافي للسلطنة ويعزز هويتها الوطنية ، ومثله لن ينسى ، فلابد من أن يُظهر ويُعتد بما يقوم به لصالح بلاده وللإنسانية ، ولم نتوقع أن يكون الخارج أولا ، من يأخذ زمام هذه المبادرة ، ولم نتوقع صمت المؤسسات المعنية به حتى الآن ، فكيف سيكون موقفها ” قريبا ” عندما يكون اسمه وصورته في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة ضمن الشخصيات الشهيرة التي لها بصمات على تاريخ الإنسانية ؟