من حارس متواضع للسجن.. إلى أحد أشهر مشايخ عُمان في العلم

من حارس متواضع للسجن.. إلى أحد أشهر مشايخ عُمان في العلم
من حارس متواضع للسجن.. إلى أحد أشهر مشايخ عُمان في العلم من حارس متواضع للسجن.. إلى أحد أشهر مشايخ عُمان في العلم

تاريخ عمان – أثير
إعداد: نصر البوسعيدي

تاريخ عمان – أثير
إعداد: نصر البوسعيدي


لتاريخ عمان شواهد كثيرة وشخصيات برزت وحملت في عاتقها أمانة العدل والعلم والعمل، وإن أردنا أن نحصي عظماء عمان في هذا الشأن لن نستطيع أن نوفي حقهم وحق اجتهادهم وبطولاتهم وتأثيرهم على الأمة الإسلامية والعمانية خاصة.

ويحكي لنا التاريخ العماني قصة ذلك الشاب القادم من الحمراء وتحديدا من قرية كدم وهو يطلب عملا في نزوى بعهد الإمام سعيد بن عبدالله بن محمد بن محبوب سنة 320هـ، فالتحق بالعمل في حراسة السجن كوظيفة يأخذ من خلالها أجرًا حلالًا وهو في ريعان شبابه حينما بلغ سن الرشد.

لقد فكر هذا الشاب البسيط جدا واسمه محمد بن سعيد بن محمد الناعبي المعروف بـ “أبو سعيد الكدمي” في حاله كثيرا وبما يجب أن يفعله ليصبح من العظماء وفي مصاف كبار أهل زمانه بطموح لا حد له، وهو في حاضرة عمان وعاصمتها نزوى التي كانت مركز الحكم والعلم وأبرز العلماء، فقرر أبو سعيد أن يترك مزاولة مهنة حراسة السجن بعدما جمع مبلغًا يسيرًا من المال حتى يتفرغ ويصرف كل ما يملكه من أجل العلم وحلقات العلماء ليلازمهم ويستفيد من علومهم تاركًا ملاهي الدنيا بعنفوان الشباب خلف ظهره ليؤسس له قاعدة كبيرة من المعرفة وهو ينهل من مشايخه وأساتذته من أمثال محمد بن روح بن عربي الكندي، ورمشقي بن راشد، وأبي الحسن محمد بن الحسن والأزكوي محمد بن سعيد بن أبي بكر وغيرهم من علماء كثر حرص كل الحرص على الأخذ منهم ما يسد به شغفه، ليصبح بعدها تلميذهم المخلص والمجتهد حاملا عنهم شعلة العلم التي أضاف لها الكثير من آرائه ومعرفته مع زهده بالحياة، حيث يذكر المؤرخون أن أبا سعيد الكدمي عاش على نخلة واحدة وشجرة عنب طوال حياته مكتفيا بما تأتي له ثمارهما من طعام ومال زهيد رغم أن له زوجات ثلاث عرفن بالثراء وقد تزوجن به لعلمه وخلقه وجميل خصاله، لكنه فضل عدم استخدام أموال زوجاته واكتفى طوال حياته بما عنده.

وفي عهد الإمام حفص بن راشد كان أبو سعيد في قمة علمه وعطائه وسمو منزلته لدى أهل عمان، فأصبح مرجعهم في الكثير من المسائل الفقهية والسياسية والفكرية فهو الفقيه والمؤرخ والناظم والأصولي والمتكلم والشامل في اطلاعه مثلما تعكس مؤلفاته الباقية حتى يومنا هذا.

وقد أسهم كثيرا في تطور التشريع الإسلامي عند العمانيين من خلال الاستنباط من نصوص الشريعة الإسلامية بهدف التوسع في التشريع من وجهة نظره التي أفاد بها تلامذته وخاصة في مسألة الولاية والبراءة بقضية عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي من قبل الشيخ موسى بن موسى واتباعه، وتداعيات هذه الفتنة التي أدخلت عمان في نفق مظلم، ومن جانب آخر أوجدت لنا تلك الجدالات السياسية الكبيرة والمتمثلة فكريا في مدرستين نشأتا إثر ذلك، فتولى أبو سعيد الكدمي الرأي الذي لا يبرأ من موسى بن موسى وأصحابه من قاموا بعزل الإمام الصلت ليصبح قائد الفكر الذي تبناه والمسماة بالمدرسة النزوانية، نقيض الرأي المخالف والذي كان يقوده الشيخ أبو محمد عبدالله بن محمد المعروف بابن بركة الذي كان يقود فكر المدرسة الرستاقية ويدافع عنها بشراسة أمام آراء أبي سعيد الكدمي في الولاية والبراءة من المشاركين في فتنة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي مثلما أشرنا أعلاه، مما جعل أفراد المجتمع العماني من خلال هذه القضية والمدرستين ذوي معرفة ووعي واطلاع أكبر في مجال نظام الحكم الإسلامي من خلال الصراع الدائر بين الفرقتين، وبخاصة ما قام به صاحبنا أبو سعيد الكدمي وهو يرد على ابن بركة بمؤلفاته ومراسلاته وإلخ من حراك علمي سياسي فقهي غني جدا باختلاف وجهات النظر، لذا لا غرابة أن نجد مؤلفًا ضخمًا لأبي سعيد يرد فيه على خصومه من خلال كتابه المعروف بكتاب (الاستقامة) الذي يعد من أكثر الكتب العمانية تناولا لقضية الولاية والبراءة، فقد قال في مقدمة كتابه وهو يحمل هم انعواج فكر البعض حسب وجهة نظره:

“فإنه لما امتحن الضعفاء من المسلمين لفقد علمائهم في الدين، عظمة عند ذلك المحنة، وانفتحت عليهم أبواب الفتنة وانطلقت عليهم ألسنة كانت محجوزة وظهرت صغائر كانت مستورة، وانتصبت رؤوس كانت منكوسة، ومشت أرجل كانت مكبلة، وانبسطت أيدي كانت مغلولة، وكثر المدعون للعلم بعد أن كان أهل العلم قليلا، واستجد في الادعاء للعلم من كان لسانه عن النطق به كليلا وعز مع أهل العلم العمى بادعاء العلم من كان عند العلماء ذليلا وظهر من بعض من ينحل نفسه العلم ولعهم في الحكم والحلم على ما يدل عليه بذلك لحن المقال ويبين عليه في ذلك في عام الأحوال بأنه يحب لنفسه في ذلك الإظهار ويطلب لها الرفعة والإشهار ويذهب بها في ذلك إلى العلو والاستكبار ولا يجوز في ذلك على أحد من أهل الإسلام تحقيق الظنون، والله سبحانه هو الشاهد على الضمائر والمكنون، غير أننا نكتفي عن ذكر كثير من تلك الأسباب التي يكثر بذكرها الخطاب، ويطول بوصفها الكتاب ويورث بيننا الإحن والأعتاب ولا يبلغ بها إلى فائدة ولا شفاء..إلخ”.

هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الأخرى التي كانت مهمة جدا ورفدت علميا المجتمع العماني بالكثير ومنها:

– كتاب (المعتبر) الذي كان يقع في 9 مجلدات ولم يبقَ منه سوى جزأين في خزانة المخطوطات بوزارة التراث والثقافة بمسقط.

– كتاب (زيادات الأشراف) وهو حاشية لكتاب الأشراف لأبي المنذر النيسابوري.

– كتاب بعنوان (التاريخيات) لكنه للأسف مفقود حتى يومنا هذا.

لقد كانت سيرة “أبو سعيد الكدمي” عبر التاريخ مثالًا يحتذي به أغلب تلامذته ومن يناصر فكره لأنه بحق كان مؤثرا جدا في تاريخ الفكر العماني السياسي والفقهي بمسألة الولاية والبراءة النابعة من خلافات أهل عمان في قضية عزل الإمام الصلت بن مالك ونشوب الصراع بين مؤيد ومعارض تمثلهما عبر التاريخ العماني أصحاب المدرستين النزوانية والرستاقية ليحفظ لنا الأجداد كل مؤلفاتهم وبالأخص مؤلفات الشخصية التي نتحدث عنها هنا إيجازا لنضرب مثالا للجميع حول قوة الإرادة في أن يتحول أحدهم من حارس سجن بسيط إلى أحد أبرز وأشهر علماء عُمان المؤثرين عبر التاريخ.

المصادر والمراجع:

1 – الكدمي، أبو سعيد محمد بن سعيد، الاستقامة، الجزء الأول، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان 1985.

2 – السيابي، أحمد بن سعود، شخصيات عمانية، الطبعة الأولى 2017م، الناشر ذاكرة عُمان – سلطنة عمان – مسقط.

*صورة الموضوع: مأخوذة من مقطع مرئي عن أبي سعيد الكدمي

Your Page Title