فضاءات

الكاتب البحريني جعفر سلمان يكتب: تجارة الجهل ومنطق التشكيك

الكاتب البحريني جعفر سلمان يكتب: تجارة الجهل ومنطق التشكيك
الكاتب البحريني جعفر سلمان يكتب: تجارة الجهل ومنطق التشكيك الكاتب البحريني جعفر سلمان يكتب: تجارة الجهل ومنطق التشكيك

جعفر سلمان – كاتب وروائي بحريني

لم أكن أصدق بأني كنت طرفًا في ذلك النقاش بالفعل، فبعد كل هذه الخطوات الحضارية والعلمية التي خطتها البشرية وجدت نفسي أخوض غمار نقاش حول (هل الأرض مسطحة أم كروية) والمصيبة أني كنت أخوضه مع شاب جامعي.

الصور والأفلام التي تثبت كروية الأرض، ما هي إلا خدع سينمائية غربية )أمريكية تحديدًا(، الأقمار الصناعية خرافة، حركة الأرض خدعة بصرية والحقيقة أن الأفلاك كلها تدور حول الأرض، النجوم هي مصابيح ضخمة خلقها الله تعالى وعلقها في السماء الدنيا لكي تهدي المسافرين.

سألته أين حدود الأرض، فقال بأنها محاطة بجبال جليدية شاهقة يحرسها الأمريكان لكي يمنعوا أي أحد من اكتشاف الحقيقة، سألته عن سبب هذا كله فأجاب بأنها مؤامرة لضرب ديننا وخداعنا لجرنا للكفر بالله.
طبعًا في النهاية ولكي أنهي النقاش طلبت منه أن يريني خارطة الأرض المسطحة وطلبت منه أن يدخل موقع شركات الطيران ليرى مدة الطيران بين أوكلاند في نيوزلاندا وبوينس آيرس في الأرجنتين (أبعد نقطتين في خارطته تقريبًا)، وعندما رأى أنها في حدود ال ١٢ ساعة انهارت حججه.


أتذكر هذا الشاب بين الفينة والأخرى وأنا أشاهد الجهل يتنقل بيننا ويتكاثر وكأنه فايروس الانفلونزا في موسمه، فهذا يرى سبب حرمة الخنزير أنه يُذهب غيرة الرجل، وذاك يرى سبب تخلف مجتماعاتنا ابتعاد بعضنا عن الدين، وآخر يرى علاج السرطان في جلسات يقوم دجال فيها بتعديل انسيابية الطاقة في جسده، أتذكر وأتساءل لم كل هذا؟ بل من أين أتى كل هذا؟

الأمور بالنسبة لي على الأقل واضحة، فهناك الآلاف بل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف ممن يعتاشون على جهل الناس، فكم من فضائية ستغلق، وكم من دجال في علم الطاقة سيغدو بلا عمل أو سيضطر لممارسة عمل حقيقي، وكم من مؤسسة دينية ستفلس، وكم وكم لو تخلص الناس من الجهل!

هؤلاء فهموا اللعبة جيدًا، عرفوا من أين وكيف تؤكل الكتف، وإلا هل هناك عاقل يمكن أن يدفع المال لأجل شراء استشارات في الحياة الزوجية السعيدة على شكل كتاب مُبالغ في سعره كتب من قبل مطلقة؟! أو آخر يشتري أعشاب تخسيس من رجل يعاني السمنة؟! أو آخر يدفع المال لرجل لم يُنهِ المرحلة الثانوية ليتعلم منه أسرار الكون؟!

نعم هي أمور لا تُعقل لكنها موجودة وواقعية، بل وستبقى موجودة طالما بقي هناك من يحلم بأن يحصل على العلم بلا تعب ومن يحلم بالثراء بلا عمل ومن يرغب بالاعتقاد بأنه حصل أسرار الكون الذي لا يعلمها أحد سواه، بل ستبقى طالما بقي هناك من يعتاش على الجهل، وطالما بقي من يستمد قوته وشهرته وحضوره من الجهل.

أقول بصراحة ولكي أكون صادقًا مع نفسي، ليس هناك من سبيل للقضاء نهائيًا على الجهل، فالجهل حالة مزمنة نعاني منها جميعًا كبشر وسنبقى كذلك، أنا وغيري، لكننا نستطيع أن نمنع استغلال هذه الحالة والمتاجرة بها والتأسيس لها وتثبيتها، وذلك من خلال تعلم جدلية التشكيك في المسلمات، تلك الجدلية التي شوهت سمعتها عندما أخرجت من حالتها الطبيعية كونها منطقة فكرية تقع بين التصديق والتكذيب إلى حالة تشبه التكذيب، نعم نستطيع مواجهة تجارة الجهل بالتشكيك وبطرح الأسئلة التي تأتي معه والتي تبدأ بـ (هل، لماذا، كيف وأين).

وبصراحة أيضًا أقول، العملية ليست بتلك السهولة، فالتشكيك وطرح الأسئلة هي عملية تحتاج إلى الكثير من الجرأة والشجاعة، بل وربما الشقاء، بينما الجهل مريح ولا يتطلب الكثير لممارسته، والناس في الغالب تبحث عن الراحة لا الشقاء.

من جهة أخرى وكما يقول الفيزائيون، لكل فعل ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، فإن لفعل التخلص من الجهل ردة فعل من تجار الجهل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، بل أحيانًا قد تخالف ردة الفعل منطق الفيزائيين قليلًا لتعاكسه في الاتجاه ولكن بقوة مضاعفة.

نعم لن يكون الأمر سهلًا لكنه ممكن، وجدلية التشكيك بطيئة جدًا لكنها فعالة، وللحق أقول بأن الموضوع لا يخلو من تحديات كثيرة وكبيرة، قد تتجاوز أحيانًا إمكاناتنا للتعامل معها.

Your Page Title