مصطفى الشاعر
“إنني أيها الأبطال، أعيش لحظات العمر معكم، أعمل على أن تكونوا جيشًا قويًا مسلحًا بالوعيِ و الإخلاصِ لهذا التراب الغالي”
قابوس بن سعيد [18/11/1974]
الوعي هو التعبير عن حالةِ العقلِ في حالةِ الإدراكِ، وذلك من خلال إدراكه وتواصله مع المحيط الخارجيّ عن طريق نوافذ الوعي المتمثلة بشكلٍ عامٍّ بحواسِّ الإنسانِ الخمس، وبشكل خاص ما يراهُ ويسمعهُ من وسائلِ الاعلامِ، وهو المحرك الأول للجماهير حول العالم، وهو ما يجعلنا نصدّق أن هناكَ وطنًا نتحمل مسؤوليته، وهناك أعداءٌ وجب الاستعداد لمجابهتهم، وهناك أمنٌ قوميٌّ وقضايا وطنية لا يمكن تجاهلها، وقضايا إقليمية لا يمكن أن نعزل أنفسنا عنها، وأن هناك قضايا قومية ودينية لا بد أن نكون حاضرين معها، وعالمًا كبيرًا لا يمكن إلا أن نكون جزءًا فعالًا منه.
إن الصراعَ في المنطقةِ أصبح اليوم صراع وعيٍ بين دول المنطقة، فالكل أصبح يستميل الإعلاميين ومشاهير التواصل الاجتماعي ويشتري أقلامهم وآراءهم للتسويق لمصالحهم السياسية في المنطقة، والكل يبحث عن جماهير حتى تصدّق روايته، حتى صرفت دولٌ كثيرةٌ من حولنا مليارات الدولارات لشراء الولاءات الإعلامية وكذلك تجنيد المرتزقة للترويج لسياستهم من خلال منابرهم الإعلامية الضخمة، ناهيك عن جيوشهم الإلكترونية الجرارة التي أصبحت معاركها على ساحات التواصل الاجتماعي، ذلك للأسف خلق حالة من اللاوعي لدى الكثير من الجماهير المتلقية للمعلومة، وأصبحت تقودهم نحو توجُّهات ومنزلقات فكرية قد تتعارض بها مع القيم والسياسة العُمانية، التي أثبتت دائمًا نجاحها.
فمنذ 2011 وحتى الآن أصبح الشارع العماني والعربي بشكل عام مهووسًا في السياسة، فكل المتغيرات في الإقليم أصبح لها صدى داخليّ وتأثير على نفوس الكثيرين، فقد كان لخروج المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة تأثيره المباشر على العالم العربي بشكلٍ عامٍّ و السلطنة بشكل خاصٍّ، وذلك في خروج المسيرات والاحتجاجات في المنطقة، كل ذلك حدث نتيجة اللاوعي المنتشر في المنطقة حينها، وقدرة الإعلام على إقناع الجماهير “بالحلم الموعود” في لحظتها والذي اكتشف البعضُ بعدها أنهُ الحلم المكذوب والمؤامرة القذرة لضرب المنطقة واستهدافها رغم أن البعض حمَّل فشلها لما سُمِّي بالثورات المضادة، والحديث يطول في ذلك.
وفق المعطيات التي تمر بها المنطقة الآن والأوضاع السياسية، أصبح من الأهمية بمكان أن تكون لدينا منصَّة سياسية أو مركز أبحاث معني بمراقبة الأوضاع في المنطقة، وطرحها وفق التصور العُماني وبما يتلاءم مع معطيات ونظرة الدولة الرسمية أو طرحها الحقيقي، بعيدًا عن إرهاصات وتوظيف الآخرين لها، لذا أصبحنا نرى أنه أصبح مهمًا جدا أن يكون لدينا مراكز دراسات وأبحاث، ليكون لدينا منصاتٌ بحثيةٌ قادرةٌ على استيعاب المتغيرات من حولنا ودراستها بصورة عملية وبرامجاتية بعيدًا عن الاجتهادات الشخصية والتحليل في أروقة المكاتب بصورة تقليدية، فذلك لم يَعُد يُجدي نفعًا في زمن المتغيرات المتسارعة، حيث حاجتنا اليوم مُلِحَّةٌ جدًا لمثل هكذا منصة أكثر من أي وقتٍ مضى.
لذا نرى الحاجة أنه لا بد من وجود منصات موثقة ورصينة إن كانت رسمية أو غير رسمية، وظيفتها نشر الوعي السياسي في الداخل العُماني، فاليوم لم تعد تكفينا تلك الأعمدة في الصحف الرسمية المحلية؛ فتلك الأعمدة شابت ولم تعد الأجيال الجديدة تلتفت لها، لذا لا بُد من إيجاد إعلام عُماني مَعني بالسياسة بالدرجة الأولى، فالمنصات الحالية أصبحت لا تحقق الطموحات المرجوَّة، وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي.
إن مفهوم “الحياد” الذي يتغنى به إعلامنا اليوم لا يعني أن يُغلق الجميع على نفسه أبواب التفكير، بل العكس، وجب أن يشجعنا ذلك على توسيع مدارك فهمنا السياسي بالحد الذي لا يُسيء لدولتنا، وبما يكفل لنا الفهم الصحيح للأحداث التي تجري من حولنا، فنحن لسنا بمعزل عنهم، والوعي هو السلاح لمواجهة أي خطر قادم للبلد، وقد عبَّر جلالة السلطان عن ذلك في حديثِ جلالتهِ لجريدة السياسة اللبنانية بتاريخ 26 يناير 1974م:
“البعض يقول بأن الوعي خطر على نظام الحكم .. إنني، بكـــل صراحة أعارض هؤلاء … إنني لمؤمن بأن الوعي يولد المسؤولية، والمسؤولية تعني في النهاية الالتزام بالوطن وبأرضه و بنظامه”.
على الحكومة أن تلتفت إلى أنها فتحت المجال لدراسة العلوم السياسية، وأرسلت الطلاب للابتعاث خارج السلطنة، بالإضافة إلى خرِّيجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة السلطان قابوس، وكل هؤلاء الخريجين قد يجدون الرغبة في الحصول على ساحات للتعبير عن آرائهم وأطروحاتهم البحثية والتحليلية، فالأجيال القادمة أصبحت لا تؤمن بحرمة طرح الرأي بشكل عام، والطرح السياسي بشكل خاص، على عكس الأجيال القديمة، التي كانت تتجنب السياسة لأسبابٍ لا يسعنا ذكرها، فالجميع اليوم سيطلق العنان ليبدي برأيه مع أي حدث خارجي، وهنا يكمُن الخطر، لأنه بغياب الوعي قد تغيب عن الأذهان البوصلة عن مصالح الوطن العليا في بعض المحطات لدى شريحة كبيرة منهم.
في حين أن المتابع للمجريات التي مرت بها المنطقة، سيُدرك فعلا أننا سمحنا للإعلام الخارجي بأن يخترق وعي الجماهير، حتى وللأسف أصبح بعض “المغرر بهم”من أبناء وطننا نسخة مكررة من جماعاتٍ ودولٍ وأفكارٍ لا تمتُّ لنا نحن العمانيين بأي صلة، نتيجة غياب الوعي والرؤية السديدة، وقد تعلمنا من أحداث ما سُمي “الربيع العربي” أن الأصدقاء لا يمكن الوثوق بهم، ومن تجارب دول كثيرة من حولنا كفيلة أن تشرح للجميع ذلك، وللأسف فقد سمحنا اليوم للكثيرين – خاصة في بداية الأزمة الخليجية وبعض الأحداث الأخرى – في إدخال أفكار الآخرين بيننا، وعَتَبُنا هنا كبير على المسؤولين حين سمحوا بذلك لأسبابٍ و مبرراتٍ لحظيةٍ في حينِها.
إن الله قد رزقنا قيادة حكيمة وسديدة نفخر ونفاخر بها أمام الجميع، وقد وضَعَت عُمان مبادئها وقيمها منذ قرون عديدة، وسار بها قادتها في عهد عصر النهضة المباركة بحكمة السلطان والمخلصين من حوله، وفي اعتقادنا أن من أكثر ما قد يفخر به العماني اليوم هو مواقف بلاده السياسية المشرِّفة، لذا لا بد أن نسعى للحفاظ على ذلك وألا نسمح بإلغاء الآخرين لوعي جماهيرنا، والحفاظ على الوعي العماني بعيدًا عن أي تشوهات خارجية، وبالحكمة العمانية ستبقى عُمان دائمًا وأبدًا شامخةً بإذن المولى عزوجل، حفظ الله بلادنا الغالية وأعاننا على الوفاء لها في كلِّ محفلٍ وساحةٍ.