أثير – تاريخ عمان
إعداد : نصر البوسعيدي
إن الحضارة في كل أمة لا تكتمل إلا بوجود كل العلوم والفنون التي يبدع فيها أهلها، ومما لا شك فيه أن تاريخ عمان الزاخر منذ آلاف السنين، كان كذلك زاخرا بالعديد من الفنون والحرف التقليدية والتأليف في مختلف العلوم، التي لها طابعها المميز في الخليج العربي فكريا وثقافيا وحضاريا منذ فجر التاريخ، ويكفي أن نعلم مثلا بأن هناك اكتشافا مهما للغاية لختم في منطقة رأس الجنز بمدينة صور العمانية يعود تاريخه لآلاف السنين ويحمل بداخله أقدم حروف اللغة العربية المستخدمة في العالم العربي، حيث أشارت البروفسورة اسمهان الجرو المتخصصة في التاريخ القديم بالمنطقة إلى أن هذا الختم يشكل أقدم حروف اللغة العربية الأولى المكتشفة في منطقة شبه الجزيرة العربية، وكأن الحروف الأولى لمهد اللغة العربية خرجت من عُمان لتتطور فيما بعد مثلما نراها الآن.
وعلاوة على ما سبق فلا غرابة إذًا حينما نرى أن الجانب الأدبي في مجال الشعر عند أهل عمان كذلك له تاريخ من الإبداع والفصاحة والنمط المتفرد حتى بالكتابة، ولدينا العديد من الأسماء التي يزخر بها التاريخ العماني كالخليل بن أحمد الفراهيدي وابن دريد والكيذاوي والستالي والغشري وغيرهم الكثير من فطاحل عمان القدامى في الشعر العربي الفصيح.
وهنا سنحاول أن نسلط الضوء على سيرة أحد أشهر الشعراء العُمانيين والعرب الفطاحل في أواخر القرن الحادي عشر الهجري وهو الشاعر والعلامة محمد بن عبدالله بن سالم المعولي المنحي المولود في مدينة منح في داخلية عُمان، والذي خلّد من خلال شعره تاريخ العمانيين وانتصاراتهم وخاصة في عهد دولة اليعاربة وهو من عاصر مجد الفتوحات العمانية في عهدهم.
وقبل الخوض في غمار شعر وفصاحة شاعرنا المعولي، وجب علينا أن نشير إلى أن عمان كانت موطن أشهر شعرائها الذين أبدعوا في مختلف الصور الشعرية بثقافتهم اللغوية الأنيقة التي يملكونها.
لقد كان الأديب محمد بن عبدالله المعولي شاعر عصره بحق وله الكثير من الأساليب الشعرية التي أبهرت العمانيين في زمانه، فكتب ما يميزه عن غيره وهو الذي يملك اللغة الفصيحة جدا والكلمة العذبة والحكمة في قصائده، والتي كان نمط بعضها الأول من نوعه في المجتمع العماني بنهايات القرن الحادي عشر الهجري مثلما أشار إلى ذلك الباحث التاريخي فهد السعدي، وخاصة تلك القصيدة التي لو قُرئت أبياتها من اليمين إلى الشمال لوجدناها مدحا، ولو قُرئت نفس تلك الأبيات من الشمال إلى اليمين لوجدناها عتابا، وهذا هو نص أبياتها :
سيَرٌ لهم طابت فما خبثت ربحت لهم سلع فما خسروا
نُصروا فما خذلت لهم دول عملوا بما علموا وما نفروا
عُصر بهم جادت وما لؤمت كرمت لهم شيم وما نكروا
قدروا فما ذمت لهم شيم شرفت لهم ذمم فما غدروا
عمروا فما خربت لهم طرق كبرت لهم همم وما صغروا
أزُر بهم شدت وما جلبت رفعت لهم مدح وما كدروا
ظفروا وما ضعفت لهم فرق رفعوا فما هدمت لهم جدر
ظهروا وما خفيت لهم منن ظلم بهم شرقت فما كفروا
زهروا وما شانت لهم حلق نعم لهم شهرت فما فخروا
صبروا فما جزعوا بما حرموا مدحوا فما ذمت لهم سير
غُرر لهم لاحت فما سدمت حسب لهم ظهرت فما قذروا
شكروا فما كفرت لهم نعم عظموا فما محيت لهم أثر
كبروا فما صغرت لهم همم جمدوا فما جُثت لهم فكر
وهنا وفي هذه الصورة ستجدون إبداع الشاعر في شعره وهو يكتبه بهذه الطريقة التي كان يريد دوما أن يتميز بها ..
ويستمر المعولي في عطائه بديوانه الضخم لينثر لنا بدائع شعره في مختلف المواضيع، ولم يكن الغزل بعيدا عنه بل وظف ذائقته بشكل جميل في قصائده الغزلية حيث قال مثلا هنا :
فتاة لها كالشمس وجهٌ وكالدجى أثيثٌ وكالبلور خد وسالف
إذا قعدت تجري على الأرض رقة وإما مشت تهتز منها الروادف
وإن قابلت بدر السماء بوجهها يخر لها من سُمكه وهو كالف
وتخجل نور الشمس غرة وجهها وتفضح خوط البان منها المعاطف
يؤثر في جثمانها وشيُ بُردها فتؤلمها أثوابها والمطارف
يشف سناها من وراء لحافها فليس تواري صفحتيها الملاحف
وأما في الزهد فقد قال :
أرى الدنيا وزخرفها غرورا ولا أرى للورى فيها سرورا
وأي فتى يدوم له سرورا إذا كان البقاء بها قصيرا
فأين الأولون من البرايا ومن ملك الخورنق والسديرا
وشداد بن عاد والجلندى وفرعون الذي يدعو ثبورا
وعمرو وامرؤ القيس بن حجر وداود الذي حاز الزبورا
وقال :
ولو ملك الفتى مالا عظيما وشيد في ذرى الدنيا قصورا
فما يغنيه عن شيء عظيم من الدنيا إذا سكن القبورا
وقال في الحكمة كذلك :
وإن شئت استباحة كل أمر فكن في الناس ضرارا نفوعا
ولا تسمع لهم قيلا وقالا ولا تك فيهم رجلا جزوعا
فإن عدل الرئيس فكل شيئ به عدل وما شيئ مضيعا
وكن في الأمر ذا فهم وحلم ولا تظهر لشانيك الخضوعا
ولا تقدم على الأشياء حتى تفكر في مخارجها جميعا
وفكر في مداخلها لئلا ترى أعقابها خطبا فضيعا
وفي اشتياق محبوبته كان يكتب من بديع شعره كثيرا حيث قال على سبيل المثال :
أبيت ولي قلب قريح من البكا وعين من الأشواق بالدمع تسفح
وشوق وبلبال وفكر ولوعة ونار من الهجران في القلب تقدح
يزيد اشتياقي تارة بعد تارة إذا ما بدا برق سرى بات يلمح
وإن عرضت بالعارضية مزنة يكاد لها قلبي من الشوق يطفح
تذكرت عهدا للحبيب وموضعا به الند والريحان والمسك ينفح
وأيام عود اللهو غض وإذ أنا صغير بميدان الشبيبة أمرح
وأيام ذات الحِجل تصفي لنا الهوى ونمنحها وصلا ودادا وتمنح
ولاحظوا الكم الكبير من التنوع في قريحة شاعرنا العلامة محمد بن عبدالله المعولي الذي رغم تدينه الشديد كان يطالعنا بأكثر من صورة شعرية فلم يكن شعره فقط للجانب الديني في حياته، بل إنه تناول موضوعات كثيرة تُعنى بالحياة والحب والاشتياق والعتب وكان يكتب مثلما رأينا بطريقة مختلفة تماما عن أبناء عصره مثلما وجدناه يفعل في القصيدة الأولى التي أوردناها لكم، وله قصائد كثيرة في مدح أئمة دولة اليعاربة بحكم أنه عايش تلك الفترة مثلما ذكرنا، وكذلك في مدح رسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
لم يكن أهل عمان يكتبون جل مؤلفاتهم بنمط اعتيادي بل كان كل واحد فيهم يحاول جاهدا أن يصنع لنفسه نمطا مميزا في الكتابة والتأليف والإبداع كلٌ حسب طاقته، ونجد ذلك ماثلا في المخطوطات العمانية القديمة وكيف أن أهل عمان كانوا مبدعين في شتى المجالات ويحاولون ابتكار ما يميزهم عن غيرهم.
المراجع :
ـ شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان، الشيخ محمد بن راشد الخصيبي، ج1 ، الطبعة الثانية 2016م ، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان.
ـ ديوان المعولي، الشاعر العلامة محمد بن عبدالله بن سالم المعولي، تحقيق د.محمد عبدالمنعم خفاجي، الطبعة الثانية 2017م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان.