أثير – د.سالم الشكيلي
لا بدَّ من التنويه ابتداءً أنَّ هذا المقال لا يدعو إلى التطبيع مع إسرائيل، ولا يقوم على الاستسلام لهذا الغاصب المحتل، لكنه يُناقش واقع القضيّة الفلسطينيّة بذهنيّة مجرّدة عن العاطفة وبعيدًا عن الانفعالات والتشنّجات الاستعراضيّة على شاشات القنوات الإعلاميّة، إذ علت خلال الأيام الماضية نبرة التخوين والذم والقدح، دون اعتبار ٍللقيم الدينيّة والأخلاقيّة.
إسرائيل تحتل أرض فلسطين وتغتصب حقوق الشعب الفلسطيني، وتقتل وتُشرّد وتسجن، وهي حالة نتفق عليها، وتُؤلم كلَّ عربيٍ ومسلمٍ حُرّ لديه نخوة وكرامة عربيّة وإسلاميّة، وهذا الاحتلال جاثم على أرض فلسطين والجولان السوري، وما تبقى من الأرض اللبنانيّة منذ عام ١٩٤٨م، ودخلت الجيوش العربيّة عدة حروب ضد إسرائيل أشهرها حربا ١٩٦٧م و١٩٧٣م، في الأولى انهزمنا، وفي الثانية انتصرنا وحطمنا أسطورة خط بارليف، لكننا لم نستعِد فلسطين ولا الجولان ولا حتى كل الأرض المصرية المحتلّة، وهو بالقطع انتصار لا نبخسه حقه له قيمته المعنويّة ودلالاته العسكريّة والسياسيّة.
ومنذ حرب ١٩٧٣م بقي الحال على ما هو عليه، الشعب الفلسطيني يُذبح ويُقتل في الداخل، رغم نضاله وكفاحه البطوليّ المشرّف، لكنّ موازين القوة لصالح إسرائيل، ولم يبقَ للعرب والمسلمين غير الفرجة، وبيانات الشجب والاستنكار، وبحث كل طرف عن مصالحه الشخصيّة، واستمرار التنظير والكلام المعسول، وتنويم الأمة وهي البضاعة الرائجة سياسيّا وإعلاميّا كلٌ بطريقته وأسلوبه.
وإذا أردْنا الصِدق والمصارحة فإنّ القضيّة الفلسطينيّة -وإن كانت هي قضيّة العالم العربي بحكم الانتماء وتقاطع الجغرافيا- إلا أنها أيضا قضية العالم الإسلامي، بما تضمُّه فلسطين من مقدسات إسلامية والتي على رأسها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومن هنا يقتضي وضع النقاط على الحروف، فالمسؤوليّة عربيّة إسلاميّة، ولا يُعفى منها أحد فالجميع شركاء في ضياع الحقوق.
الآن ومن باب المكاشفة والمصارحة، لدينا خيارات ثلاثة ونقطة على السطر، وعلينا أن نمعن النظر ونشخّص كل َّخيار على حِدَة لنصل إلى أنجحها وأنجعها في هذه الفترة العصيبة من تاريخ عالمنا العربي والإسلامي، بشأن فلسطين وشعبها.
الخيار الأول، خيار الحرب ضد إسرائيل وتحرير الأرض الفلسطينيّة كاملة غير منقوصة، وتحرير الأرض هو ما يتمنّاه كل فرد عربي ومسلم، حتى المتخاذلين على وصف البعض، ولم أتعوّد المواربة أو التورية في أطروحاتي، فقبل الدخول في حرب مع إسرائيل علينا أن نطرح جملة من الأسئلة لنقف في النهاية على الحقيقة المرة، أول هذه الأسئلة: هل المعادلة والتوازن العسكري لصالحنا؟، من الناحية البشريّة يُفترض أنّ الكفّة لصالحنا ، فتعداد الجيوش العربيّة النظاميّة تزيد على مليوني ونصف المليون جندي -دون حساب الجيوش الإسلاميّة الأخرى- في مقابل ما يُقارب مائة وأربعين ألف جندي إسرائيلي، أما القوات الاحتياطية العربية فتُقدر بثلاثة ملايين ونصف المليون في مقابل أربعمائة وثلاثين ألفًا لدى إسرائيل، فإن كانت القوة بالعدد فنحن حقًا قادرون على رمي إسرائيل في البحر كما يردد بعض الساسة والعسكريين في إحدى الدول الإسلامية، وبعض المحللين البرجماتيين الذي يعتبرون نجاح العمل هو معيار الحقيقة بغض النظر عن أية معايير أخرى.
السؤال الثاني الذي يفرض نفسه ضمن خيار الحرب: هل القوة العسكرية من طائرات وصواريخ وعتاد عسكري لصالحنا؟، ربما من حيث الحجم نعم مقارنة بما هو موجود لدى إسرائيل، ولكن بدون إفراط في تجيير الكفَّة لصالحنا، إذ يتبع هذا السؤال أسئلة فرعية أخرى، منها: هل هذه الأسلحة صناعة عربيّة أو إسلاميّة، هل قطع غيارها متوفر لدينا؟، هل كل طائراتنا وأسلحتنا الثقيلة الأخرى في بعض البلدان العربيّة تحت إدارة مواطنيها؟، هل نملك سلاحًا نوويًا كما تملك إسرائيل؟ إن لم ندفن رؤوسنا في الرمال فالإجابات عن هذه الأسئلة ليست لصالحنا جملةً وتفصيلًا، وهذا ليس استسلاما أو روحا انهزاميّة، كما سيصوّرها البعض وسيصرخ بصوته المعهود، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بأن نعد للحروب ما استطعنا من قوة.
لنقف أيضًا عند نقطة في غاية الأهميّة، إذا بدأت الحرب مع إسرائيل، هل ستكون المواجهة بيننا وبينها فقط؟ من معنا ومن ضدنا؟ تأكدوا أنّ المشهد سيحمل صورتين، دول ستبادر إلى نجدة إسرائيل عسكريًّا وسياسيًّا وعلى رأسها أمريكا وفرنسا وبريطانيا وحتى روسيا إلى جانب دول غربيّة أخرى، ودول أخرى ستتفرج علينا بمقولة أنها واقفة على الحياد، عشرات القرارات صدرت عن مجلس الأمن والأمم المتَّحدة لصالح القضيّة الفلسطينيّة، ماذا فعلت على وجه الخصوص روسيا والصين وهما من الدول الكبرى؟، طبعا لا شيء إلا الكلام المعسول.
وقبل كل هذه ماذا عن الإرادة العربيّة والإسلاميّة تجاه هذا الخيار، بكل مرارة أقولها غير حاضرة على الإطلاق لأسباب يعرفها الجميع، من بينها أن قرار بعض الدول في البيت الأبيض وليس في قصور حكّامها، لكنهم جاهزون لقتال بعضهم بعضًا لإضعاف العالم العربي وهو ما يُريح إسرائيل والغرب، إن كنتم ترون هذا الخيار ممكنًا فهيّا بنا نحن معكم فإن تخلفنا عنكم عندئذٍ نكون قد نكثنا العهد وبعنا القضية الفلسطينية كما وصفنا أحد الكتاب المتفذلكين الغارقين في أوهام التنظير، وتوزيع صكوك الغفران والذنوب.
الخيار الثاني المطروح دوليًّا وعربيًّا هو خيار السلام بين العرب وإسرائيل، وهو مشروع موجود بدأت مفاعيله منذ توقيع معاهدة كامب ديفد بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨م، ترتب عليها إعادة الأراضي المصريّة المحتلة آنذاك من إسرائيل، وتبعها إقامة علاقة دبلوماسيّة بين الجانبين، ثم اتفاقية سلام وإقامة علاقات دبلوماسيّة بين الأردن وإسرائيل، وبعد ذلك حدثت مفاوضات واتفاقية أوسلو بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين.
وفي وقت لاحق جرت مفاوضات سلام بين سوريا وهي من الدول الممانعة كما تسمي نفسها ويسميها البعض وإسرائيل، لكن هذه المفاوضات لم تتم، والجولان لا يزال محتلًا دون أن تُطلق رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل منذ أربعين عامًا أو يزيد، وفي العالم الإسلامي فإنّ تركيا وهي دولة إسلاميّة كبيرة ورئيسها يعمل على إعادة مجدها، لها علاقات دبلوماسيّة مع إسرائيل وكذلك أذربيجان، هذا في العلن أما ما خفي أعظم فهناك زيارات وتعاون وتنسيق بين كثير من الدول العربية والإسلامية، حتى من الدول التي تصحو وتنام على الظهور بالعدو اللدود لإسرائيل، واللبيب بالإشارة يفهم.
وكما يعلم القاصي والداني، تم اعتماد مبادرة سلام عربيّة في القمة العربيّة المنعقدة في بيروت عام ٢٠٠٢ م، تقوم على مبدأ إقامة دولة فلسطينيّة مستقلَّة على حدود عام ١٩٦٧ م، ورغم مرور حوالي ست عشرة سنة، فهي لا زالت على الطاولة ولم يتم سحبها أو التقدم فيها، ولذلك أسبابٌ يعرفها الكل تتمثل في العنت الإسرائيلي والتخاذل الدولي والعربي والإسلامي، وغاية القول أنّ مبدأ السلام مطروح ومقبول من الفلسطينيّين خصوصًا والعرب عمومًا ، فهل الدفع باتجاه السلام وإنهاء القضية بما يحفظ الحقوق الفلسطينية من أي دولة كانت يُعتبر خيانة للأمة وطعنا لها! أم مبادرة السلام والجهود نحو تفعيلها مقصورًا على دولة أو دول بعينها وكأنه نوع من الوصاية أو الوكالة عن بقية الدول، أجزم يقينًا أنَّ النجاح يخلق لدى الفاشلين ردّة فعل لديهم ليعملوا جاهدين بكل قوتهم على تكسير أصحاب النجاح حتى ولو كان على حساب القضايا القومية، وعلى أثرها تٌكال تُهَمُ الخيانة والعمالة وتهييج الرأي العام.
نحن لا نريد إيجاد التبريرات، فما تفعله القيادة العمانية ليس إلا من باب تفعيل مبدأ السلام الذي تم تبنِّيه عربيًا، وكان جلالة السلطان المعظم -يحفظه الله- قد وضع أمام القادة في إحدى القمم خيارين، إما القضاء على إسرائيل قبل أن يشتد عودها وقوتها ويصعب بعد ذلك، وإما اعتماد مبدأ السلام على أساس عودة الحقوق الفلسطينيّة المشروعة، وعمان مع أي خيار يتمّ التوافق عليه، ولن تحيد قيد أنملة عن الإجماع العربي في هذه القضيّة بالذات، فلماذا هذه الهستيريا المدبرة ليلًا على عمان وقيادتها، ألم تكشف لكم مواقف السلطنة على مر العقود الماضية حرصها على الثوابت العربية وجهودها التي تبذلها في كافة المحافل الدولية!، وعدم الدخول في النزاعات التي تفتت لحمة الصف العربي، إنّ ما نسمعه ونشاهده مفارقة عجيبة ونكران وجحود لتلك المواقف والثوابت المعلنة والمعروفة للصغير والكبير، إنه بحق زمن قلب الحقائق، وتضليل الناس بالباطل .
ويتبادر إلى ذهني في هذه اللحظة سؤال عن مغزى زيارة رئيس وزراء إسرائيل إلى السلطنة!، من أين أتى البعض بمقولة إنها من أجل تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي؟، لم يأت البيان العماني على ذكر التطبيع وحتى في إسرائيل لم يتم التطرق إلى سبب كهذا، لقد اختُلقت وضُخمت الفكرة بالصورة التي تخدم نعيق بعض الأصوات في وسائل الإعلام المختلفة ممن تدعي الطهارة ، وهم للخناء أقرب إذا اشتد الكر والفر فتراهم يهرولون يبحثون عن ملجأ أو مخبأ يأويهم، عندها فقط يحصحص الله الحق ويمحي الباطل ويُعرف يومئذٍ من في الوغى صامدين .
لقد تناولت إحدى الصحف العبريّة مضامين هذه الزيارة وتأثيرها المباشر والمتمثِّل في توقف رئيس الوزراء الإسرائيلي عن المضي قُدمًا في قرارين كان ينوي اتخاذهما ضد الشعب الفلسطيني بعد أن استمع لحكمة ونصيحة ومساعي جلالة السلطان المعظم.
الخيار الثالث يكون عند رفض الخيارين الأول والثاني، ومفاده بقاء الحال على ما هو عليه، لا حرب ولا سلام، وإنما اغتصابٌ للأرض وقتل وتشريد وتهجير للشعب الفلسطيني مع تمدد للاستيطان وزيادة فائض القوة لدى إسرائيل مع بقاء العالم العربي على حالة المحزن من الفرقة والتشرذم ومقاتلة بعضه البعض، ولا ننسى هنا وجود فئة مسترزقة من النفيخ في الكير، وممارسة العهر السياسي، والاستمرار في إلهاء الشعوب بالنظريات الجوفاء والوعود الخرقاء، فلا أرضٌ حررت ولا سلامٌ عمّ.
والآن قولوا لنا بحق السماء والأرض ماذا أنتم قائلون، وبأي الخيارات الثلاثة ترضون فقد اضمحلَّت الخيارات والآمال، ولم يعد هناك خيار رابع ونقطة على السطر، وستظل عمان وقيادتها على ما عاهدت عليه الأمة فلا حياد عن الدرب، فلا داعي للمساومة والتخوين والذم والقدح، فالثوب الأبيض لا تدنسه تفاهات وخزعبلات الحاقدين، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين.