مسقط-أثير
تحقيق: سعيد المعشني- طالب في جامعة السلطان قابوس
على كل حال يحبُّ الإنسان أن يظهر بصورة حسنة أمام الآخرين ، فهو كائن يحب الجمال ، وقلما تجد من لا يبحث عنه ، نختار أجمل الثياب لنرتديها ، ونبحث عن أصدق الأصحاب ليرافقوننا ، ونقدم أفضل ما عندنا للآخرين ، والمهم محاولتنا لتنميق العبارات والمصطلحات لنسردها على من نريد، وفيما نريد، عبر لغة ما و أداة واحدة وهي( اللسان).
عادةً نرغب في التعبير عن موضوع ما ، بكلمات بسيطة أو بعبارات معقدة و لكن –للأسف- تُعجزُنا الكلمات فنضطر للانقطاع عن الحديث ؛ وبعضنا يقف حائرًا بسبب لدغة أو لثغة لسانيّة ، فيسكت ويخجل ليصنفها من المشكلات اللغوية أو الخَلقية ، فتؤثر فيه نفسيًا واجتماعيًا.
اللدغة في اللغة.
يقول د رابح أبو معزة أستاذ اللسانيات المساعد بجامعة السلطان قابوس : اللدغة هي عيب من عيوب الكلام ، فهو لا يعالج ، ولا تقتصر اللدغة اللسانية على حرف واحد، كحرف ” الراء ” بل تتعدى ذلك لتشمل معظم الحروف كالسين والتاء وغيرها وبرهن على ذلك أن بعضهم يقلبون الأحرف بعضها من بعض لشيئين رئيسين في النطق: أولا: العيب الخَلقي أن يجعل صاحبها “السين ” ثاء مثل (بثم الله) أي: بسم الله ، وجعل “القاف” طاء، (طوسٌ) أي: “قوسٌ” ، وأن يجعل “الراء” على أربعة أحرف: الياء ، و الظاء، والغين، والذال، ومثّل على ذلك بالعَلم المؤنث “رحمة” فيقول المريض : (يحمة، ظحمة، غحمة، ذحمة). ثانيا: طبيعة اللغة أو اللهجة في بلد معين ،مثل نطق المصريين لحرف الجيم في الاسم (جمال ) ، أول قلب أهل الخليج حرف القاف في المفردة “قلب أو قلبي” إلى جيم ويقولون: (جلب أو جلبي) ،ويعول هذا على طبيعة اللهجة التي يتحدثون بها ، فلا يستطيعون إهمال نطقها إلا بالدربة والمحاولة ،إن نجح الأمر.
اللدغة في الأدب العربي:
ويؤكد د. رابح أن اللدغة ليست وليدة العصر، بل كان التراث قديمًا يحدثنا عن الكثير من العلماء والأدباء الذين كانوا يعانون منها بل وحتى الأنبياء في الرواية التي رويت عن موسى -عليه السلام- أنه عانى من ثقل لسانه، بدليل قوله تعالى : ((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ)) القصص <34> وتم تفسير الآية على ضوء قصة “الجمرة..” المعروفة، مما قد نفهم أن موسى –عليه السلام- كان به أذى في لسانه وقد يكون هذا قريبا من اللدغة، وكان واصل بن عطاء يعاني من اللدغة أو اللثغة -كما تسمى أحيانا- ،وهو أبو حذيفة بن عطاء المعتزل(80-181)هــ أحد كبار فرقة المعتزلة ، عاش في العصر الأموي ،وكان من تلاميذة الحسن البصري، ثم اعتزله وقال: “اعتزلنا واصل” وقال عنه المبرّد (210 -286 )هــــ ((كان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ، قبيح اللثغة فى الرَّاء، فكان يُخلّص كلامه من الراء)) ويذكر الجاحظ (159 -255 )(( ولما علم واصل أنه ألثغ، فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نِحْلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النِّحَل، وزعماء المِلَل…)) ويذكر بن العماد الحنبلى أنه دُفعت إلى واصل بن عطاء رقعةٌ مضمونها: ((أمر أمير الأمراء الكرام أن تُحفر بئرٌ على قارعة الطريق فيشرب منها الصادر والوارد)). فقرأ على الفور:(( حكم حاكم الحكام الفخام، أن ينبشُ جب على جادة الممشى فيستقى منه الصادى والغازى)
هل عالج علم اللسانيات اللدغة؟
يشير د. رابح على ضوء ما ذكره سلفًا ، أنه بوسعنا التأكد من أن اللدغة مرض بالفعل ، وكل ما يفعله علم اللسانيات تجاهه هو التشخيص والوصف دون المعالجة على الإطلاق إلا أن هناك مدربين متخصصين في هذا المجال وخاصةً في تدريب ومساعدة الأطفال للتخلص من هذا المرض ، على مبدأ تصديق جهودهم والإيمان التام بحتمية المصير بعدم إيجاد حلول نهائية للمرض ، فهي جهود مازالت يُرجى بها ذهاب الحرج عن صاحبه.
الجهاز العصبي يؤثر ويتأثر
ويتحدث الدكتور بكار سليمان بكار أستاذ مساعد بقسم علم النفس في جامعة السلطان قابوس عن الأبعاد النفسية للدغة اللسانية موضحا: بأن الأسباب النفسية محددة ترتبط بعوامل الخوف والقلق و التوتر ،خاصة من خلال الأحداث والخبرات التي يتعرض لها الطفل في مراحل مبكرة مثل الإحباطات (Frustration) والمواقف المؤلمة ،وكل ذلك ينعكس عليه سلبًا في بقية حياته ، فقد تؤثر هذه العوامل على جهازه العصبي ولكن كل هذه الجوانب السيكولوجية تكون تأثيراتها غالبًا في تراجع قوي عندما تكون الأسباب متعلقة بالجانب الخَلْقي.
وعادةً تنشأ العقد النفسية من الإحباطات والخبرات، والمهم من ذلك هي جُمْلة التأثيرات السلبية التي تُخلفها اللدغة على نفسيّة الفرد. وقد نتساءل :ما هي التأثيرات السلبية ؟ فهي في الحقيقة متفاوتة من حالة إلى أخرى، ومما لا شك أن اللدغة اللسانية تترك أثرًا بالغا في نفسية المريض.
في الغالب قد تكون الأسباب النفسية قليلة جدًا؛ كون أن المشكلة ذات طابع خَلْقي، إلا أنني لا أنكر وجود بعض التأثيرات المترسبة في شخص المريض مع انتقالاتها عبر الجهاز العصبي ثم إلى المحيط. الجهاز العصبي لا يوجد بمعزل عن المحيط فهو يؤثر ويتأثر ، فإن اللدغة اللسانية مؤشر على تأثر الإنسان نفسيًا واجتماعيًا.
اللدغة تحت المجهر الطبي
ويقول بدر بن سيف الخروصي اختصاصي إرشاد وتوجيه بجامعة السلطان قابوس: بدايةً اللدغة وما يسمى باضطراب الكلام، ظاهرة تنتشر في المجتمع بشكل متفاوت، وتختلف في أسبابها وأنواعها وطرق علاجها، وفي الحالات التي نتعامل معها، نرى أن اللدغة ناتجة عن إبدال صوت بصوت آخر أو ناجمة عن خروج الصوت في غير مخرجه الصحيح بأنواعها المختلفة: كالتأتأة وتكون بتكرار حرف التاء (تتتتت) و اللدغة السينية مثل: إبدال حرف السين بالثاء، فيقول: (ثاعة) أي: ساعة و(ثكر) أي: (سكر) ولدغة في بعض الحروف الحَلقية كمثل قولهم : (قروف) أي: خروف و (بترة)أي بقرة،
أما اللدغة الرائية فقد تكون أقل نسبة من اللدغة السينية كما مثلنا لها سابقًا ولها أسباب عديدة منها أسباب عضوية تستدعي علاجًا من قبل اختصاصي النطق ، بالإضافة إلى الأسباب الوظيفية التي يكتسبها الفرد من البيئة بشكل عام ، وقد تتجسد معه بالتقليد أو المحاكاة لأشخاص معينين ؛بسبب الاحتكاك الدائم والمباشر بهم ، وتكثر هذه الحالة في مرحلة مبكرة من العمر.
اللثغة ومعالجتها تربويًا
ويوضح الخروصي أن المعالجات المستخدمة والتي ينصح بها المختصون غالبا ،هي أن تضع الطفل موضع الكبار أثناء الحديث معه ، وهذا ما ينبغي على الآباء والأمهات والإخوة الكبار فعله ،عليهم أن يتجنبوا الأساليب المذللة للكلمات ،المدللة للغة ، وهذا أسلوب خاطئ يجعل الطفل مستمعًا لا يجيد نطق الكلمات بل- والفجاعة الكبرى- في استعمال هذا النوع من الحديث مع الذين يعانون من هذا المرض فإن حدثوهم بهذه الطريقة، تركوا هذا المرض ينمو وقد يستمر مع المريض طوال حياته. ويتم تشخيص هذا المرض بمقابلته أو بالفحص الطبي ، وتتم معالجة المريض بعد معرفة السبب الرئيسي سواء كان عضويا أو عصبيا أو نفسيا أو غير ذلك ، ويختلف العلاج باختلاف تشخيص الحالة ، وفي بعض الأحيان يصاب مريض اللدغة اللسانية بالرُهاب الاجتماعي ، فيتجنب اللقاءات العامة والخاصة؛ لغرض واحد وهو إخفاء أعراض المرض، ومن ضمن الحلول العلاجية مراجعة اختصاصي النطق للتأكد بالفعل ، هل يوجد سبب عضوي ، أم غير ذلك؟ فإن كان لا يعاني من مرض عضوي ،من الممكن معالجته من خلال قراءة القرآن بهدوء وتدبر ، مع محاولته الربط بين الشهيق والزفير أثناء القراءة، فالشهيق يدخل فيه الهواء عبر الأنف وبالزفير نتخلص من ثاني أكسيد من الفم، مع مراعاة مخارج الحروف وضرورة دراسة علم مخارج الحروف لمعرفة مخرج كل حرف.
بعض طلاب جامعة السلطان يعانون من اللثغة
ويشير الخروصي إلى طرق شتى في العلاج كالوقوف أمام المرآة ويصحبها التعبير عن مشاعره وما يعتريه من أحاسيس وجدانية ،وعلى غرارها يبدأ المريض بمراقبة مخارج النطق، فإن لاحظ أنه متجاوب مع العلاج ،ينبغي عليه أن يستمر في التدريب، بالإضافة إلى ذلك يمكنه الاستفادة من الورش والمحاضرات التي تقدمها المراكز المختصة في المجال مثل مركز الإرشاد و التوجيه بجامعة السلطان قابوس حيث عالج المركز الكثير من الطلاب ،من خلال جلوسهم مع المرشدين في مدة زمنية محددة لا تتجاوز ساعة واحدة خلال فترات العلاج ، ويتم الجلوس مع المريض أيضًا في جلسات إرشاد جماعي متعلقة بالنطق ويتم إعطاؤه تمارين وواجبات مختصة تساعده في التغلب على اللدغة، ومن اللافت أن يكون العلاج جماعيا، ليتعرف الطلاب على بعضهم، وكذلك لتحقيق هدف مشترك يصبون إليه، و يقدم المركز أيضا العلاج بالاسترخاء وهو علاج حديث ومفتوح لجميع الطلاب. وقبل كل شيء فإن مراحل العلاج تتمثل في تشخص الحالة ،ثم معالجة الطالب نفسيا بقدر الإمكان، فيطلب منه التدرب على كلمات معينة مرارًا وتكرارًا، ثم يحاولون من جديد التركيز على تلك الكلمات التي يتعثر الطالب في نطقها، وبذلك يتم معاينة الخلل وكشفه ليقدموا إليه النصائح كالوقوف أمام المرآة مثلًا ليردد الكلمات بصوت عال لوحده، ثم يخول للنطق بالكلمات مباشرة أمام الأصدقاء أو الأسرة ثم المجتمع ويستمرون في متابعته ومطالبته بالاستمرار إلى أن يتحسن.
يمتطي الإنسان الحروف ليركب كلمة واحدة ،أو كلمتين ،أو ثلاث ،، بعدها يُحلقُ الكلام كالطائر وما إن ينكسر جناحه ، يتعثر فيحاول بقدر الإمكان الرجوع للطيران، إذا كان قادرًا على الرجوع دون عثرة تصادفه أو لدغة لسان تحرجه ، فليس عيبا أن يسخروا من طريقة حديثك بل العيب أن تفقد كل المهارات في الحديث وتعجز عن تطويرها ، أما لدغات اللسان فهي أشبه بلدغات الأفاعي فمنها :المميتة والسامة ، و الله سبحانه وتعالى هو من يُسيّرك ، ومَن يهبك النجاة والبيان سواه!.