فضاءات

د.راشد البلوشي يكتب: حتى نضمن بيئة اجتماعية صالحة لأجيالنا القادمة!

د.راشد البلوشي يكتب: حتى نضمن بيئة اجتماعية صالحة لأجيالنا القادمة!
د.راشد البلوشي يكتب: حتى نضمن بيئة اجتماعية صالحة لأجيالنا القادمة! د.راشد البلوشي يكتب: حتى نضمن بيئة اجتماعية صالحة لأجيالنا القادمة!

د. راشد بن علي البلوشي- أستاذ اللغويات المساعد بجامعة السلطان قابوس

لقد فكرت طويلاً قبل كتابة هذا المقال، وأطول قبل إرساله للنشر (و أشكر الأخوة المحررين الذين رأوا أنه يستحق النشر)، و ذلك لأن الموضوع حساس جداً و لا يناقش عادة في مثل هذه المنابر، لأنه يعد “حرية شخصية”.

موضوع المقال هو أنماط الزي الحديثة في المجتمع العماني و تأثيرها على البيئة الاجتماعية التي ننشدها لأبنائنا و أحفادنا، و تأثير ذلك على حاضرنا ومستقبلنا كشعب عربي مسلم متميز. و قد شجعني على إكمال كتابة هذا المقال القرار الذي صدر بتاريخ 10-12-2016 عن وزارة التجارة و الصناعة “باعتبار المواصفة القياسية الخاصة بالدشداشة العمانية “مواصفة قياسية عمانية ملزمة””.

للأسف، فقد بدأنا نلاحظ تغيراً كبيراً، وللأسف سلبياً (و أحترم رأي كل من يختلف معي) في أنماط العباءة النسائية العمانية في الخمسة عشر عاماً الماضية. فبعد أن كان النمط السائد هو ما يسمى بـ “عباءة الرأس”، أصبحنا نرى ما يسمى بـ “العباءة الفرنسية” (و كأن الفرنسيات كن مشهورات بارتداء العباءة!). أعرف أن هذه التسمية قديمة جداً. و بعد ذلك أصبح الخياطون والمطرزون الوافدون يتفننون في تصميم العباءة، و لن أسهب في وصف هذه التصاميم الجديدة لأن الجميع يشاهدها كل يوم في الأماكن العامة (فمنها الملون و المزركش و المخصّر و المخفف “أو الشفاف” و الضيق و المفتوح من الأمام و المفتوح من الجوانب و قصير الأذرع و و و …). أتمنى أن لا يُساء فهمي، فنقدي هنا يخص الأنماط المستحدثة للعباءة النسائية، لكنه لا يخص بأي حال من الأحوال أخواتنا النساء العمانيات الماجدات اللواتي اشتهرن بالشرف و حسن التربية و الأخلاق العالية و النضج الاجتماعي.

باختصار، فإننا نحذر من أن الاتجاه الذي تسير فيه أنماط الزي في الأماكن العامة سلبي و خطير، وينبئ بعواقب وخيمة على المجتمع العماني. فكل ذي عين بصيرة يلاحظ أن أنماط الزي تتردى كل عام، و خصوصاً في فئة سن المراهقة المتأخرة، و هذا يدل على أن هذه الأنماط ستكون في حالة سلبية جداً بعد عقد أو عقدين من الزمان، إن لم ننتبه الآن. حيث إننا بدأنا نشاهد بعض الفتيات في الأماكن العامة بـ “ما يشبه العباءة”، و بعضهن بما هو “صيغة مخففة” و أحياناً “صيغة مشوهة” للعباءة النسائية، و بعضهن بدون العباءة.
طبعاً، لن أكون مندهشا إذا بدأ بعض القراء يتساءلون: “تو مو ذا؟” أو “مو ذا نوبة؟” أو “أيش مِن كْلام؟” أو “هيش تبابه أذيه الكِلام؟”. و ذلك لأن الكثيرين من القراء لا يتوقعون طرح مثل هذا الموضوع في الصحف ومن قبل أستاذ جامعي في اللغويات، و إنما في المساجد من قبل الأئمة و الخطباء.


أردت كتابة التساؤلات بهذه اللهجات المختلفة لأقول بأنها تعكس جانباً مهماً من تميز المجتمع العماني وأصالته و قوته، و هو موضوع مقال آخر في طور الإعداد.
سندخل في الموضوع مباشرة. إذا كان هذا ما لا نمانع في رؤيته في الأماكن العامة، فهل هذا ما نريده لبناتنا ونقبله منهن في المستقبل؟ الجواب طبعاً “لا”. وذلك لأننا جميعاً نعلم أن الزي غير المحتشم يعد تبرجا و (هو ما يفتح الأبواب للشيطان) و يؤدي في نهاية المطاف إلى المعاكسات و التحرش اللفظي و الجنسي و الابتزاز الجنسي (الإلكتروني) و جرائم و جنح نحن في غنى عنها.
و للتوضيح فقط، فإننا لسنا ضد التطوير و التجديد و رغبة الناس في أن يظهروا بشكل أجمل (لأن الله جميل يحب الجمال)، لكننا ضد أن يتم تغيير الغرض من ارتداء العباءة النسائية، و هي من أهم رموز ثقافة الاحتشام في المجتمع العماني على مر العصور، بدعوى التطوير و التجديد (و التكسب للمصممين الأجانب و الوافدين الذين يجنون أرباحا طائلة من تشويه ملابسنا والإضرار بثوابتنا باجترائهم الغاشم على رموز ثقافتنا العمانية باسم الموضة و بدعوى التحديث و التطوير و هو في الحقيقة تغيير تدريجي لمعالم المجتمع العماني)، فبدلاً من أن يكون الغرض الستر و الاحتشام و الهيبة التي تجبر الناظر على الاحترام و غض البصر، يكون الغرض لفت الأنظار واستعراض المفاتن والتباهي بالذوق الرفيع في اختيار الملابس و الحرص على مواكبة الموضة. كل هذا جميل، لكنه لا يكون جميلاً إذا زاد عن حده، و يكون قبيحاً في غير موضعه.


في مهرجان مسقط و قبل عدة أعوام، سأل مقدم البرنامج الذي يغطي فعاليات المهرجان أحد الأخوة الضيوف الخليجيين (وهو شخصية مهتمة بالتراث و الثقافة) عن الموروثات و المنتجات التراثية العمانية المعروضة في المهرجان، فأجاب الضيف الخليجي بأن التراث الخليجي و العربي متجسد في العمانيين، في أخلاقهم و عاداتهم وتقاليدهم و أسلوب تعاملهم مع الضيوف وأيضا أنماط زيهم التي حافظت على أصالتها و رقيها عبر العصور، رغم عوامل الحداثة و مظاهرها.
ولتفادي المنزلقات التي هوت فيها كثير من المجتمعات العربية و الإسلامية، فإننا نحذر من أن التساهل في شأن العباءة النسائية (من حيث استعمالها و كذلك أشكالها و تصاميمها) في جيلنا الحالي سيقود على ما يبدو إلى أن تستخف الأجيال القادمة بأمرها، و النتيجة المتوقعة (لا سمح الله) هي انتهاء استعمال العباءة في الأجيال القادمة، وهو ما نلاحظه في كثير من المجتمعات العربية من حولنا، فنرى طالبات الجامعات يحضرن إلى الجامعة وغيرهن يذهبن إلى الأسواق و الأماكن العامة بدون العباءة بل و بزي لا يوصف غير أنه سافر.
و لكل من يظن أن هذه البلاد تسير وتعمل و تتطور فقط بالنفط و الغاز و الموارد الطبيعية و الصناعات على اختلافها نقول لهم بأن هذا الظن خاطئ، و ذلك لأنها تسير و تعمل بمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاق الأصيلة التي جعلت من عمان بلداً و شعباً استحق دعاء الرسول الكريم وتزكيته له في الماضي و يستحق ثناء و تزكية كل من يزوره أو يتعامل مع أهله في عمان أو حتى في الخارج. و إذا كانت “العولمة” مصيراً ومذهباً لابد منه لأننا جزء من هذا العالم الذي يصغر كل يوم، فإننا لسنا مجبرين على أن ننساق فيها بحيث نكون نسخة للآخرين في شخصياتنا و تفكيرنا و ملابسنا و طريقة حياتنا.


لا نقول إن على الجميع ارتداء العباءة فهناك بالطبع من يظن أنه لا يحتاج العباءة (بحكم الوظيفة أو متطلباتها أو غير ذلك من الأسباب)، و لا نريد أن نختلف معهم. و من يظن أن ما نقوله هنا لا يعنيه فهو لا يعنيه بأي حال من الأحوال. “إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”.
و هنا نوصي بأهمية المحافظة على الزي التقليدي النسائي العماني (على الأقل في ما ظهر منه، و هو العباءة) فمن شب على العباءة شاب عليها و من شب على غيرها شاب عليه (و أتمنى أن أكون مخطئا في النصف الثاني من هذه العبارة). فالمطلوب هو الإيمان بأهمية العباءة وتنشئة الأجيال الحالية والقادمة عليها حتى لا نصل لمرحلة تكون فيها العباءة شيئاً مختلفاً (أو من الماضي الذي عفا عليه الزمن).


لا نعيب على أحد ما يفعل لكننا نفضل أن نختار ما نفعله نحن دون تأثير من المجتمعات الأخرى أو الدراما التلفزيونية المستوردة (التي، و للأسف، قدمت لنا المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الأخرى وأحيانا الحلول، و هو ما أدخل هذه المشكلات إلى المجتمع العماني بطريقة غير مباشرة).
و هنا نحيي ما قامت به الجهات المختصة من تقنين لمواصفات الدشداشة العمانية ونطالب بالمثل في شأن العباءة النسائية العمانية بما يضمن احتفاظ الزي النسائي العماني بتميزه وحشمته و كذلك على الموروث الديني و الأخلاقي والاجتماعي الذي يعكسه، من أجل صون المرأة والمحافظة على حرمتها واحترامها أين ما كانت. فلمن يقول بأن المرأة هي نصف المجتمع، نقول لهم بأن المرأة هي ثلثا المجتمع، من الناحية الأخلاقية (على الأقل)، فهي أساس الفضيلة في المجتمع. و الدليل على ذلك هو أنه إذا فسدت المرأة في أي مجتمع (لا سمح الله)، فإن ذلك يتبعه بالضرورة فساد الرجل أخلاقيا، و لكن إذا فسد الرجل، فإنه ليس بالضرورة يتبعه فساد المرأة. و لذلك، فالمرأة هي مدرسة الأخلاق و منبع الفضيلة و حارس القيم و المبادئ في المجتمع.


و هنا نوجه النداء إلى جميع العمانيين (الذين يظنون أنهم معنيون بما نقول هنا)، و هم الذين دحضوا الفرس وأجابوا دعوة الرسول الكريم (عليه الصلاة و السلام) دون قتال واستحقوا دعاءه لهم بالخير وأجلوا البرتغاليين و تسيدوا المحيط الهندي و أجابوا دعوة السلطان قابوس للصحوة و التغيير الإيجابي و الإصلاح و التنمية، إلى التنشئة على العباءة على الأقل خلال فترة المراهقة.
و ذلك لأن التراث العماني لا يحتوي على التراث المادي فقط وإنما يشمل كذلك مجموعة القيم والأخلاق و المثل و العادات و التقاليد و الأعراف التي صبغت المجتمع العماني بصبغة ميزته عن جميع المجتمعات العربية و الإسلامية و هي “الصبغة المحافظة” التي تصر على أن تكون هذه المفاهيم السابقة الذكر أكثر من مجرد أفكار و شعارات وإنما سلوك و أسلوب حياة. و لا نبالغ إذا قلنا بأن الاحتشام و المحافظة على ثوابت الثقافة العمانية أهم من القلاع و الحصون و الرزحة و الهبوت. وهذا (من وجهة نظرنا) يتفق مع ما قاله الرجل الذي ورث الإمبراطورية في عام 1970، حفظه الله و رعاه، حيث قال ” كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة…”، وقوة عمان ليست في قلاعها و حصونها و أبراجها و إنما في شعبها الذي بنى القلاع و ابتدع الفنون و أنجب القادة و الرواد في العلوم و الفنون و الآداب، و لذلك كان اسم الوزارة التي تهتم بتاريخ البلاد و ماضيها “التراث و الثقافة”، و ذلك لإيمان المسمي (حفظه الله و رعاه) بأن الثقافة يجب أن تكون مرتكزة على التراث و مبنية عليه و مستمدة منه.
تحياتي الحارة جدا من العاصمة النمساوية الباردة جدا، فيينا، للشعب العربي الوحيد الذي ورث إمبراطورية. أتمنى أن نتمثل هذا الشعور في تفكيرنا وسلوكياتنا. و أقترح بأن نقضي دقيقة من الوقت مع الفيديو في هذا الرابط.


Your Page Title