أثير- د.عبدالله باحجاج
عشنا طوال يومين متتاليين – من بعد – في تخيلات ذهنية مستقبلية لبلادنا عام 2040م من استلهامات المؤتمر الوطني لرؤية عمان 2040 م ، وقد حاولنا على المستوى الذهني استحضار هذا العام بتصوراته المرسومة على الورق ، ووجدنا أن الكل ينبغي أن يقف مع النقلة المستهدفة للرؤية ، وهي نقل بلادنا إلى مصاف الدول المتقدمة – كما هي مستهدفة في الرؤية – وقبله – أي المؤتمر – عشنا حلم الأرقام الرسمية المنشورة التي تبشر بمضاعفة دخل الفرد إلى “50% ” و” 100% ” عام 2040 ، وتخيلنا كذلك الحلم بعد عشرين سنة مجسدًا في واقع جيلنا المقبل ، ووجدنا هذا شيئًا رائعًا وممكنًا وليس طوباويا، لكن ؟
وفي إطار هذه التخيلات الذهنية ، وجدنا أن هناك تساؤلا مهما ينبغي أن يُطرح ، وهو هل ينبغي أن نؤجل الحلم لعشرين سنة مقبلة ؟ وبرز لنا تساؤل آخر فرعي ومهم حول الممدد الزمنية لتحقيق الحلم وضماناته ، وكذلك عن الحاضر واستحقاقات جيله المستحقة ؟ وعلى الفور ظهرت لنا قضية المشاريع الاقتصادية والاستثمارية المعطلة – بفعل فاعل أجنبي – مما جعلنا نعيد تصويب التخيلات الذهنية من منظورين أساسيين هما الحاضر وحتمية تصحيح اختلالاته ، والمستقبل وحتميات تحقيق الآمال والأمنيات الورقية .
· المشهد الوطني المفترض وجوبا .
وهو يتجلى في الاطمئنان أولا على الحاضر حتى نضمن المستقبل ، فلا يمكن القفز على المستقبل بالمظلات من السماء ، ما لم نمشي إليه من أرضية الحاضر ، فهو – أي الحاضر – معيار التفاؤل أو العكس ، أطلقنا التفاؤل على مصراعيه عام 1996 ، وماذا كانت النتيجة ؟ لا نزال نعتمد على النفط بصورة مطلقة ، واعتمدنا على الفريق الاقتصادي في التخطيط والتنفيذ ، فماذا كانت النتيجة ؟ ما شخصّه سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة لطبيعة المعضلة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية في بلادنا في عبارة قصيرة جدا ، لكنها معبرة ونافذة للواقع وغير مختلف عليها ، وهي ” إن بلادنا تحتاج لتخطيط سليم ، وتنفيذ أمين ” وهذه التلازمية الثنائية هي معيار النجاح من عدمه .
وقد قيل في المؤتمر الوطني مرئيات رائعة ، سنتوقف عند المثير منها ، والمتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي ، وإن لم تكن جديدة على الوعي والفهم الوطني ، وربما تكون مستنسخة من مطالبهما ، كإسقاط الفاسدين الكبار ، واعتباره شرطا لازما لنجاح الرؤية ، فهل أتى هذا الخبير بشيء جديد ؟ لكن ورغم ذلك ، فإن التأكيد على هذه المسلمة من شخصية أجنبية قد يعزز المطالب الداخلية .
وكذلك ما قاله خبير أجنبي آخر حرفيا ” إذا فهمتم وعملتم بما قاله السلطان قابوس قبل 48 عاما ستحققون رؤية عمان 2040 ” وهذه العبارة ، هل تحمل النجاح أو الفشل للفريق التنفيذي الذي شرف بحمل الأمانة طوال العقود الماضية ؟ وهنا نستدعي مقولة سماحة المفتي ذاتها بذاتها ” تخطيط سليم وتنفيذ أمين ” وهذا ملاحظ للعيان لكل من يحلل أفكار النهضة ويتوغل في قضايا التخطيط وتخبطات التنفيذ ، ودليلنا هنا رؤية 2020 ، لكن هل كنا بحاجة لشخصية عابرة الحدود لكي تعصف ذهنها وتتوصل لمثل هذه النتيجة البديهية ؟
وكذلك الحال بشأن انكشافات العصف الذهني لأحد “الخواجات” يعمل كمستشار في بلادنا بشأن أزمة الباحثين عن عمل ، عندما أوضح قائلا ” هذه الأزمة مختلفة عنها في إيطاليا وفرنسا ، فهذه الدول لديها شح حقيقي في الوظائف ، في السلطنة هناك وفرة في الوظائف ولكن يشغلها غير العمانيين ” فهل قدم حلولًا جديدة لأزمة الباحثين أم اكتفى بهذا الانكشاف المعروف سلفا ؟
ومع التسليم بمثل تلكم الطروحات – رغم أنها مكشوفة للعيان –نتساءل هل قيّمت رؤية 2020 ؟ وهل بحثت أسباب فشلها حتى نتفاديها في رؤية 2040 ؟ هذا تساؤل الرأي العام ، وقد لا نأتي فيه بجديد ، لكنه تساؤل منطقي ، فلا يمكن لأي مخطط أو مؤطر يبني استراتيجية جديدة فوق قديمة ، ما لم يدرس إيجابيات وسلبيات الاستراتيجية السابقة لدواعي البناء عليها .
والمسألة المهمة التي نؤكد عليها هنا ، أنه لكي تنجح رؤية 2040 ، لا يمكن القفز للمستقبل دون التوقف عند قضية تعطيل مشاريعنا الاقتصادية والاستثمارية الكبيرة التي نراهن عليها حاضرا ومستقبلا في ضوء انكشافات الزميل موسى الفرعي مؤخرا ، وكذلك في ضوء تبعية تجارتنا لموانئ إقليمية عوضًا عن موانئنا الجيو استراتيجية ، والقريبة من خطوط الملاحة الدولية ، ويقال في إحدى التغريدات التي تحمل هوية معروفة ” اسما وصورة ” إن بواخر تجارتنا تعبر موانئنا، لتفرغ بالرسوم في إحدى الموانئ الإقليمية المجاورة ، وكذلك ما أوضحه لنا تجار عن الرسوم المرتفعة في موانئنا البحرية مقارنة بموانئ دولة الجوار ، فكيف تنطلق رؤيتنا بعيدا وتترك وراءها مثل هذه الاختلالات البنيوية المعاصرة ؟ وهل من منطلقات التخطيط السليم أن نفكر في المستقبل قبل حل هذه المعضلات الكبرى ؟
· تشكيل لجنة سياسية عليا .
ما تطرحه تساؤلاتنا من مجموعة إشكاليات عميقة ، تلزم أولا أو تزامنا مع تطبيق الرؤية ، فتح ملف اقتصاد موانئ بلادنا وقضية تعطيل المشاريع من قبل تدخلات أجنبية على مصاريعها الآن دون قيد أو تحفظ إذا ما أردنا أن نضمن سيرنا الآمن للمستقبل الذي يحتم التوازن في تحقيق أحلام وتطلعات كل الأجيال ، وهذا لن يأتي إلا بتشكيل لجنة وطنية عالية المستوى بإرادة سياسية واضحة ممنوحة الصلاحيات الكاملة ، لدراسة أسباب تعطيل المشاريع الاقتصادية والاستثمارية ، وتأثيرها على أمننا الاقتصادي والاجتماعي وربما السياسي .. وهذه الاحتمالات ينبغي أن تطرح كلها فوق الطاولة ، فلدينا توجس الفرعي نفسه بوجود اختراق مستهدف لتعطيل مفاصيل أساسية في قوتنا الاقتصادية ، لأهداف اقتصادية تنافسية واجتماعية بغية التأثير.
وكنّا قبل خمس سنوات قد قدمنا ورقة بحثية للمعهد الدبلوماسي لوزارة الخارجية ، وقبلها كنّا في حوارات تلفزيونية عديدة مع الإعلامية حنان الكندي – تعمل الآن ملحقية إعلامية في سفارتنا بواشنطن – حول الاختراق الأجنبي لمؤسسات المجتمع المدني ، قسمتها إلى أربع محاور أساسية بمنهجية رصدية لواقع الاختراق العالمي في عهد الديموقراطيين في أمريكا ، وبعض الدول الأوروبية ، والاختراق الإقليمي ” أهدافه ومساراته ” بينما تناولنا في المحور الأخير فقرتين أساسيتين ، هما الاختراق الأجنبي من خلال تشريعاتنا وقوانينا ، موضحين فقرات قانونية ينفذ منها الاختراق ، وكذلك استشراف أبعاد هذا الاختراق ، وتجاوز اختراقاته الكثير من النخب العمانية ، وربما علينا الآن أن نستكمل هذا الملف من منظور الاختراق الأجنبي لمشاريعنا الاقتصادية والاستثمارية في ضوء محددات وماهيات الاختراق التي ذكرها الفرعي مؤخرا .
والتساؤل الملح يدور حول قبولنا هذا التعطيل حتى الآن ، فكيف يتم تفسير ذلك ؟ والمتأمل في استهدافات الاختراق الاقتصادي ، سيلاحظ أنها تمس قطاعات يكفي لوحدها لأن تكون ” وفورا ” مصادر دخل بديلة وجاهزة ، وهما قطاع الموانئ وبعض مشاريع الطاقة النظيفة ، وهذه الأخيرة لها أبعاد حتى أمنية ، فالأجنبي المنافس لنا ، سيتحكم بأمن طاقتنا مستقبلا ، وانفتاح بلادنا على العالم الجديد المتجه نحو القرن الإفريقي ، فكيف لو كان لدينا مع هذا الأجنبي حساسيات وإشكالات وجودية أو على الأقل تنافسية ؟
· حلم 2040 يمكن تحقيقه في آجال متوسطة .
يحدثنا بعض الاقتصاديين المحليين بمقولة قالها مسؤول أجنبي بارز أثناء افتتاح ميناء صلالة للحاويات عام 1998 بأن محافظة ظفار ستكون ” كهونج كونج أو سنغافورة ” من حيث ما ينتظرها من نقلة اقتصادية متوقعة ” فمثلا ، فقد كانت سنغافورة قبل أن تصبح مركزا عالميا للوجستيات ، بلدا منخفض الدخل ، محدود الموارد ومحروما من البنية التحتية والاستثمارات وفرص العمل ، والآن أصبحت من أغنى دول آسيا ، كيف ؟ لأنها أصبحت حاضنة لأكبر ميناء للحاويات العابرة في العالم ؟
وهنا نتساءل ، ما هي نسبة مساهمة سبعة موانئ عمانية في دخلنا القومي ؟ لا يمكن قبول إلا النسبة المعتبرة والمستحقة التي تكون في مستوى البعد الجيوسياسي – والبعد الجيواستراتيجي لموانئنا العمانية ، ولا يمكن قبول الا أن يكون لها انعكاسات ملموسة على الإنسان العماني ومجتمعه في حاضره أولا ومستقبله ثانيا.
فالنقل البحري يسهم الآن في نقل ” 90% ” من إجمالي حجم التجارة العالمية ، وتقترب الإيرادات السنوية للسفن التجارية من ” 150 ” مليار دولار ، وهو ما يمثل ” 5% ” من حجم الاقتصاد العالمي ، وتزداد أهمية موانئنا الآن في ضوء توجه العالم الجديد نحو القرن الإفريقي ، لذلك ، لابد من فتح ملف الموانئ فورا من قبل اللجنة التي نقترحها .
الخاتمة :
لا يمكن التقليل من أهمية ومثالية الرؤية 2040 رغم ملاحظاتنا سالفة الذكر ، لكننا نرى بأن معالجة قضية مشاريعنا الاقتصادية والاستثمارية المعطلة أولا أو تزامنا مع الرؤية لا تقل أهمية من رهانات الرؤية على مشاريع اقتصادية واستثمارية جديدة ، بل منها ينبغي أن ننطلق كي نعكس الإرادة الجديدة المختلفة عن إرادة رؤية 2020 ، كما أن قطارنا نحو المستقبل لا يمكن أن ينطلق ويترك وراءه مثل هذه المشاريع الكبيرة المعطلة .
فتحريرها من قبضة التعطيل أو الإقصاء له أولوية قصوى ، ومنها ربما لن ننتظر لعقود حتى تصل بلادنا لمصاف الدول المتقدمة ، ففي هذه المشاريع حلول آنية لتحسين من مستوى أوضاع المجتمع ، وفيها انطلاقتنا الاقتصادية الفورية ، من هنا نراهن على أولا أو التزامن التي ندافع عنها في مقالنا اليوم .
وللدواعي ذاتها ، يقتضي فصل عملية تنفيذ الرؤية عن تبعية الإدارة أو القرابة لمخططيها أو منفذيها أو كل من كان له صلة مباشرة أو غير مباشرة بفشل رؤية 2020 ، وذاتها الدواعي تحتم إنشاء أو تفعيل محور المعيار الأخلاقي والقيمي لرؤية 2040 ، لكي تكون مرجعية فوقية لتقوية محور الرقابة والمساءلة ومكافحة الفساد لتوفير بيئة آمنة لتنفيذها طوال مراحل الرؤية الزمنية .