أثير- د.سالم بن سلمان الشكيلي
الوطنُ هو مجموعة الاتِجَاهات الأرْبَع لِكّلِ مَن يَطلِبُ أو يريدُ اتِجَاها ، هو هَوِيَتَنا التي نحملها ونعتّزُ ونفتخر بها في حِلِنا وترحالِنا ، وهو المدينة الآمنة ، والقرية الآمنة ، وهو يعني الحيّ الآمن والبيت الآمن ، هو بشكل مختصر ، حضن الأمّ الآمن الحنون لكل أبنائه مهما اشتدّت الخطوب ، وتكالبَت المحن .
الوطن يا سادة ، نعمة أنعم الله بها علينا ، ويجب المحافظة عليه ، وافتداؤه بأرواحنا ، وبكل ما نملك في السراء والضراء، الوطن هو الانتماء والولاء والوفاء والتضحية والفداء ، الوطن أيها الأحبة ، هو كما قيل ، السند لمن لا ظهر له ، آمالنا تتجه إليه ، طموحاتنا ترتبط به ، والحقيقة التي لا ينكرها ذو لب ، أنّ الإنسان بلا وطن ، هو بلا هوية ، بلا ماضٍ أو بلا مستقبل له .
إنّ حُب الوطن لا يحتاج إلى مساومة أو مزايدة ، أو كثرة مجادلة ، ولا يحتاج إلى آلاف القصائد أو الكلمات ، ولا إلى الشعارات الرنانة ، أفعالنا وحركاتنا وسكناتنا تثبت ذلك ، والحب الذي أثبتته أمم وأجيال قبلنا بدماء أريقت على بره وبحره من أجل الذود عنه ، حتى تسلمه لنا حرا مستقلا أبيا شامخا يصل بمقدار علو السماء عن الأرض ، حبٌ أثبتته تلك الأمم بتآلفهم ووحدتهم ، وبعملهم الدؤوب الصادق في بناء الوطن وخدمته ، فهذا فلاح يُمسك بمعوله يحرث أرضًا أو يشق فلجًا ليروي به زرعه ، وهذا شيخ كبير وقد تخضبت لحيته ببياض الشيب وتراب الصحراء وهو يسوق ماشيته نحو المرعى ، وهذا عامل وقد انحنى ظهره وهو يبني بيتًا أو يقيم مسجدًا أو يحصن قلعة ، وهذا عالم يرصع حروفًا في الفقه والأدب وسائر العلوم المختلفة .
ما أجمل الوطن وهو بهذه الصورة وقد تلاقت فيه الأرواح ونسجت المحبة خيوط وصالها بين أفراده ، فغدَوا في لحمة واحدة ، يجتمعون على حبّه ، ويفترقون أيضًا على حبّه
الوطن أيها السادة ، لا يجب أن نختزله في مسؤول اختلفنا معه ، ولا في إدارة حكومية عطّلت معاملة، ولا في فئة قد نراها أثْرت ثراءً فاحشًا ، أو استأثرت بالقرار دون بقية المواطنين. إنّ الاختلاف في بناء الوطن وكيفية النهوض به يقع في كل بقاع الدنيا ، وهو سنّة كونية منذُ أن خلق الله الخلق ، ولذا فإنه لا يجب أن يكون مدعاة لخصومة مع الوطن الذي عشنا وتربّينا على أرضه ، واستظللنا تحت سقف سمائه ، فهو أكبر من كل الأشخاص وأثمن من كل الأشياء .
نعم قد نختلف حول أشياء؛ فالاختلاف بين البشر أمر طبيعي يصعب إجبار الناس على الخروج من دائرته ، فوجوده يظل ضروريا ونافعا ، ويشكل ظاهرة صحية في المجتمعات الراقية ، ولكنّ اختلافنا يجب أن يبقى في إطار الاختلاف ، خاصة إذا صدقَت النوايا ، وصَفَت القلوب ، ولَم نسِء الظن أو أن نخوّن بعضنا ، بل يجب أن يكون الهدف من ذلك كله هو مصلحة الوطن ولا شيء غيرها .
نعم ، لنختلف ولنتحاور ونتناقش لنصل إلى رؤية مشتركة وهدف واحد لا من أجل أن نتقاذف التهم ، أو إلى شتم وسب بعضنا بعضًا، ليجدها أعداء الوطن فرصة أو ثغرة للنفاذ منها وشحن كل طرف بسمومهم وأحقادهم .
والحوار الذي أقصده ، هو ذلك الحوار الهادئ المتزن الخالي من الافتراضات والاستنتاجات والاشتراطات المسبقة ، الحوار العلمي الموضوعي المستند إلى أدلة وقرائن واضحة ، القائم على احترام الآخر وعدم سوء الظن ، وعدم غيبته أو النيل من كرامات الناس وأعراضهم ، وعدم تصيّد الأخطاء للآخرين، وهذا النوع من الحوار له مساحة جيدة ومحترمة من القبول والطمأنينة ، وطالما التُزم بما سلف فهو يندرج تحت مفهوم حرية الرأي والتعبير عنه ، في أجمل درجات الرقي ، ويجب أن تؤمن به الدولة بجميع مؤسساتها ، و على كل الأطراف أن يستمعوا إلى بعضهم بعضًا ليقفوا على كل الهواجس والمخاوف والمحاذير لدى كل منهم ، فالسكوت وإن كان ذهبًا في مواقف معينة ، فهو نار موقدة في مواقف أخرى .
أعجبت مؤخرًا بذلك النقاش النقدي البناء حول رؤية عمان ٢٠٤٠ ، إذ لم تكن كل الآراء تنصب لصالح الرؤية فانتقدوها نقدا علميا موضوعيا في بعض وسائل الإعلام ، وكان يجب أن يستمع لهم الطرف الرسمي ليتلافوا ما قد حصل في رؤية ٢٠٢٠ ، فالإيمان بأن الخطأ والنقص والقصور في أي عمل بشري هو مفتاح لكل المغاليق .
ولكي ننصف في القول فعمان بحضارتها وتاريخها العريق وبنهضتها وإنجازاتها ، لم تقم إلا بجهود المخلصين من أبنائها ، الذين وضعوا أرواحهم ودماءهم وفكرهم وجهدهم وعرقهم تحت تصرف عمان وأمتها العاشقة لصناعة الأمجاد فكان المجد حليفهم ، والإنجازات شهودهم ، فقد أمن الغالبية بالشراكة في الرأي والشراكة في العمل والشراكة في الوطن ، دون تهميش لجماعة أو طائفة ، مهما كبر أو قلّ عددها ، وكان وما يزال جلالة السلطان المعظم يرسي ويرسخ مبدأ الحوار ، ويدعو إلى عدم مصادرة الفكر
لقد أصبحت بعض وسائل التواصل الاجتماعي، تطالعنا بأصوات نشاز لمن تخلى عن العيش في وطنه، واستبسل في إخراج أحقاده على الوطن ورموزه ، ويصفهم بأبشع الصفات التي لا يقبلها الدين ولا تقبلها الأخلاق ، وليعلم هؤلاء أن نباح الكلاب لا تخيف أحدًا ، ونباحها لا يكون إلاّلطلب كسرة خبز مُذلّة قطعها عنها سيدها ، فتراها تعاود النباح بين فترة وأخرى ، ونقول لهذا وذاك ، الحذر الحذر فإن سيد عمان ووليّ أمرها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ، ليس مجرد حاكم يملك عرش الحكم ، إنه رمز الأمة العمانية سكن في قلوب العمانيين وعقولهم جميعًا فهو الحاكم وهو الزعيم وهو الأب وهو القدوة وهو المثل الأعلى ، أفنى عمره كله في خدمة وطنه وأمته ، ويجب أن تبقى ذاته الكريمة مصانةً لا تُمسّ ، وأي مساس بالذات السلطانية هو مساس بالوطن ومساس بالأمة ، فالجموا ألسنتكم داخل أفواهكم ، وابلعوا نتانة ريحها ، فذلك أهوَن لكم من ردّة فعلٍ لا تبقي ولا تذر تطحنكم وأسيادَكم ، ولَلَفظَكم الوطن ، ومقتكم الشعب ، وطالما أنكم اخترتم لقَيمةَ المذلة والمهانة على خبز الوطن الهنيء الكريم ، فهنيئًا لكم الاختيار ، وعيشوا كما أنتم غير مأسوف عليكم ، فمن هانت عليه نفسه وارتضى الذل لا شك أنه قد هان عليه وطنه ولكن فليكفّ أذاه .
وأقول لمن قد يستمع إلى أمثال هؤلاء المأجورين ، لا تنخدعوا بهم ، فهم إن كانوا يمتلكون لحن القول ، فإنما كمن يقدّم السمّ في الدسَم ، فما كل بيضاء شحمة ، ولا كل سوداء فحمة ، بل واجهوا ذلك بأن ترصّوا الصفوف وتوحدوا الكلمة ولتقترب كل أطراف الوطن وأطيافه مع بعضها البعض ، وليصغِ بعضنا للآخر بعقل وقلب مفتوحَين ، فالمرحلة جد دقيقة وحساسة ، أما تلك الأصوات فهي ليست إلا أصوات نشاز ، ليس لها في وجدان الوطن وذاكرته أي أثر .