مسقط-أثير
تقع قلعة الجلالي إلى الشمال الشرقي من محيط أسوار مسقط القديمة، خلف قصر العلم لجلالة السلطان قابوس بن سعيد- حفظه الله-، باتجاه الشمال إلى الداخل قليلا على ساحل بحر عُمان فوق تلة صخرية غير منتظمة الشكل، يطلق عليها أحيانا كوت الجلالي أو الكوت الشرقي، ويُعتقد أن تسميتها بالجلالي ترجع إلى احتلالها من قبل القائد الفارسي “جلال” عام (1150هـــ/ 1737م)، وقد اختلفت الآراء حول تاريخ تشييد هذه القلعة لكن أغلب الآراء وأرجحها يوضح أنها بُنيت عام (995هـــ/1578م) أي قبل تشييد قلعة الميراني الواقعة إلي الغرب منها، وكانت تعرف باسم “سانت جوا” وعرفت فيما بعد بقلعة الجلالي.
يُعد موقع القلعة الاستراتيجي فوق التلة الصخرية شديدة الارتفاع من أبرز مميزاتها معماريا لكونها بمستوى عالٍ يحكم القبضة الأمنية ويسهل عملية الدفاع بمحيط مدينة مسقط القديمة من الجهة الشمالية الشرقية، فيما يتألف تخطيطها معماريًا من ثلاثة طوابق، يتألف الطابق الأول من مجموعة من الغرف المحفورة في الصخر والتي استخدمت كسجن حربي لفترات طويلة مما أكسب القلعة سمعة مرعبة لكنها أغلقت الآن، ويعلو ذلك بداية من مستوى الصخرة المقامة عليها القلعة الأدوار العلوية التي تتألف من برجين دفاعيين بهيئة دائرية الشكل في الغرب والشرق تتخللهما مجموعة من الأسوار والغرف، فيما يوجد بالقلعة منصتان للدفاع، تقع الأولى بالجهة الغربية من القلعة لتأمين مدخل خليج المكلا، والأخرى بالجهة الشرقية من القلعة لتأمين الجهة ذاتها، فيما احتوت القلعة داخليا على مجموعة خزانات للمياه وغرف للمؤن والذخيرة وأخرى استخدمت الآن كمتحف.
يُمكن الدخول إلى منصة الدفاع عبر الصعود لمجموعة من درجات السلم والتي تتألف بدورها من مساحة طولية تصل حوالي (ثلاثين مترا) من سمت البرج الشمالي إلى التحصين القائم بالجزء الجنوبي، فرشت أرضيتها بواسطة بطانة من ألواح خشبية وسقفت من أعلى بواسطة مجموعة من جذوع أخشاب الساج القوي، احتوت داخليا على ثمانية مدافع عالية تقف على عجلات خشبية تطل عبر ثمانية تجويفات جدارية نحو الغرب ذات عقود دائرية الشكل، فيما يعلو ذلك ثماني نوافذ ذات أشكال تمثل نصف دائرة فتحت بالجدران من أجل الإنارة والتهوية.
بعد المقارنة بين التخطيط الحالي لقلعة الجلالي وبين الشكل المعماري للقلعة ضمن ما ورد في رسومات “دي ريسنده” (1042هــ/1635م)، نلاحظ اختلافا كبيرا طرأ على القلعة إذ أصبحت القلعة تتسع لمساحة أكبر مما كانت عليه في السابق ليتفق ذلك مع النظام الدفاعي الجديد الذي يرمي إلى وجود عدد كبير من المقاتلين فضلا عن المدافع الثقيلة إذ لا بد من وجود مساحة واسعة توفر سهولة الحركة والتنقل بصورة سهلة وسريعة داخل أجزاء القلعة فضلا عن الغازات الخانقة التي تنبعث أثناء قصف المدافع، وهذا الأمر مخالف تماما للنظام البرتغالي الذي يرمي إلى إيواء عدد قليل من الحاميات فوق قمم المرتفعات.
حيث أقيم النظام الحربي البرتغالي على أساس تفوقهم في المدفعية التي كان استخدامها يتطلب عددا صغيرا من الرجال، وهذا يتعارض مع النظام العُماني الذي يعتمد على عدد كبير من الرجال فضلا عن سرعة الحركة والتنقل، هذا إلى جانب أن التغيرات التي طرأت على القلعة جعلتها مجمعا محصنا كبيرا ظهر ذلك في تطوير أسلوب القلعة من نظامها الدفاعي البحت إلى النظام الهجومي.
ويتضح ذلك في إحكام القبضة الأمنية الدفاعية من خلال ثلاثة أبراج دفاعية موزعة على محاور القلعة المختلفة، ومنصتين للدفاع الأولى جهة الغرب لإحكام السيطرة على مدخل الخليج، والأخرى جهة الشرق لتأمين الجهة ذاتها، مع العلم أن هذه الإضافات لم تكن على وتيرة واحدة لكنها أُضيفت إلى القلعة عبر فترات مختلفة
وقد أحدث اليعاربة مجموعة من الإصلاحات المعمارية بمنطقة مسقط، شملت أولا؛ بناء أسوار مسقط القديمة التي هدمت عقب طرد البرتغاليين، بطريقة جديدة عبر زيادة سمك وارتفاع الجدران وإقامة أبراجها الدفاعية بهيئة معمارية جديدة تتوافق مع حيثيات ومتطلبات الأسلحة الجديدة والمتطورة، كما أدخل سلاح المدفعية إلى قلعة الجلالي كجزءٍ أساسيَ ضمن مخطط أسلوب البناء.
فتم بناء الأبراج الدفاعية وتهيئتها بطريقة تسمح لها باستخدام سلاح المدفعية بل والتصدي لمقذوفاته في حالات الهجوم عليها، فيما أضيفت إليها (منصة المدافع) التي احتوت على ثماني فتحات لفوهات المدافع بداخلها تقف على أرضية فرشت بواسطة بطانة خشبية سميكة، وتم تخصيص فتحات للمدافع بشكل يتيح لفوهة المدفع أن تتحرك بحرية تامة دون قيد، وللتخلص من الغازات الناجمة عن عملية القصف تم عمل فتحات تطل من خلالها (منصة المدافع) على الساحة الداخلية المكشوفة بالقلعة.
ونؤكد هنا أن قلعة الجلالي قلعة عربية الطراز عُمانية الأصل، وذلك بعد الاطلاع الكامل على مخطط القلعة؛ بين شكلها المعماري القديم الذي رسمه “دي ريسنده” عام 1635م، ومن خلال تقرير الزيارة الخاص بالرحالة الشهير “كامبفر ” 1688م فضلا عن الصور الحالية للقلعة ومن خلال الزيارة الميدانية لموقعها، وهي بُنيت بأيد عُمانية خالصة حيث استمدت أصول مخططها المعماري من القلاع العُمانية القديمة وأنها لا تمت للبرتغاليين بصلة إلا في الاسم والموضع فقط.
ترميم القلعة وتطويرها
حظيت هذه القلعة عبر فترات تاريخها باهتمام كبير من قبل حكام عُمان وسلاطينها ، فقد تولى الإشراف على أمورها اليعاربة قبيل انتزاعها من البرتغاليين وقاموا بتجديدها خلال الفترة ما بين عام (1068-1070هـــ/ 1657-1659م) خلال فترة حكم الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي، حيث أدخلت على القلعة مجموعة من التعديلات التي غيرت معمار القلعة وطبيعتها الحربية من كونها ذات طابع دفاعي يحوي عددا قليلا من الجنود، إلى طابع هجومي الشكل يحوي عددا كبيرا من الجنود والذخائر والمؤن، وذلك عبر تغير وتوسيع القلعة وبنائها على هيئة معمارية جديدة تتفق مع متطلبات الدولة الجديدة بشكل يشبه كثيرا ما نراه اليوم، كما قام الوالي خلفان بن عبد الله في عهد أحمد بن سعيد بتجديدها عام (1168-1170هــ/ 1754-1756م).
كما رممت القلعة في عهد السلطان تركي بن سعيد (1285هـــ/ 1868م)، حيث أضيف إليها الغرف الواقعة بالجزء الغربي، كما جددت مرة أخرى في عهد جلالة السلطان قابوس بن سعيد عام (1401هـ/ 1981م)، بما يحفظ لها قوتها ومتانتها لتبقى قلعة الجلالي شاهدًا حيًا على تراث الأجداد وقيمة معمارية وتراثية فريدة من نوعها تخطف الأبصار وتحبس الأنفاس لكل من يريد يومًا الدخول إلى حرمها.
المصادر:
· صادق، محمود محمد (2018). الاستحكامات الحربية في مسقط بسلطنة عُمان، رسالة ماجستير، شعبة الآثار الإسلامية، قسم الآثار، كلية الآداب، جامعة المنيا.
· ماهر، سعاد محمد (1980). الاستحكامات الحربية في سلطنة عُمان، بحث مشارك به في حصاد ندوة الدراسات العُمانية ذو الحجة 1400هـ (1980م)، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان.
· مكتب نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء (1994). القلاع والحصون في عُمان، سلطنة عُمان: قسم الدراسات.
· وزارة الإعلام والثقافة (1995). عُمان في التاريخ، سلطنة عُمان: دار إيميل للنشر.
· القاسمي، سلطان بن محمد (2009). وصف قلعة مسقط وقلاع أخرى على ساحل خليج عُمان، الإمارات العربية المتحدة: منشورات القاسمي: مكتبة الشارقة.
· مايلز، سي بي (2016). الخليج بلدانه وقبائله، ترجمة، عبد الله، محمد أمين، سلطنة عُمان، مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، الطبعة الثانية، نسخة مصورة PDF.