هلال بن سالم الزيدي- كاتبٌ وإعلامي
مع انهمال الغيث ينجلي الغبار، فتهتز الأرض وتربو إلا أن نباتها لم يُعد مستساغا بسبب تداخل المصالح واحتقان الحناجر وضيق النفوس التي لا تتنفس إلا الطائفية والمناطقية والمذهبية، واتساع الطبقية فيبدو النبت حنظلاً فتتكور الحياة في نطاق محدود تُركل بالأقدام فتنتفخ الأجسام وتزدحم أجندة الحكام في البحث عما يسد سغبات الظهور والسيطرة وتحويل البشر إلى أزلام يلهثون خلف سراب الأوطان وانتماءات ضيقة لم يأت بها من سلطان .. فضرب هنا وتخوين هناك، ونبز هنا وسب وشتم هناك..
لم يعد المشهد سينمائياً ينتهي بانتهاء الخاتمة المفتوحة أو المغلقة وإنما هو مشهد واقعي يمتد من الخليج إلى المحيط.. ويكبر مع كل منسأة تحمل جسداً ويشب مع كل رضعة طفل يبحث عن فهم وطعم.. وعلى الرغم من هطول المطر إلا أن البشر يخافون من تبلل ملابسهم حتى لا تختل توازناتهم الشكلية.. وتجاهلوا وجهلوا بأن “الهطل” يغسل نفوس أصابها الران والكبر.. فما هذا الذي يحدث أيها العرب العاربة والمستعربة؟
إلى أين ذاهبون بأنفسكم وقطعانكم؟
القطعان لا ترفع رأسها لتتحس مرادها وإنما تدفعها الغوغائية والبحث عن ماء الحياة بانكسار وذلة لتسد سغبات الجوع (لا تَسْقني ماءَ الحياةِ بذِلَّةٍ بلْ فاسْقني بالعزِّ كأس الحنْظل.. “عنترة بن شدّاد”) .. حتى الاهتمامات “البشرية” لم تعد توازي ثبات ورسوخ قصر الحمراء في غرناطه الذي بكى عليه ” أبو عبدالله محمد بن الأحمر الصغير، آخر ملوك المسلمين في غرناطة” بعد غياب مجد في سلسلة من الانهزامية التاريخية لترد عليه أمه: “أجل، فلتبكِ كالنساء، مُلكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال” وبحسب ما أجمع عليه المؤرخون فإن هناك أسبابا قادت الأمجاد إلى الانكسار والضمور والنهاية، وهي ذاتها تنعكس بثوب جديد في عصرنا الحالي وتمتد معنا فتأخذها أجيالنا “حتى يحدث الله بعد ذلك أمراً”.
عند النبش في كتب التاريخ فإننا نبحث في تاريخ الغابرين عن عبرة وقدوة نستدل بها ونعتز بها وهذا ما تدلل عليه منجزاتهم وأعمالهم.. لكن عندما تنبش الأجيال اللاحقة في تاريخنا فباعتقادي لا تجد ما يجعلها ترفع رأسها أو لا تجد حاديا يقودها إلى فهم ما حولها إلا الولاء المقيت والبحث عن حياة مؤطرة بذلة وانكسار… فذاك هو وطننا العربي من خليجه إلى محيطه.. وبطبيعة الحال فإن الاهتمامات البشرية تُبنى على حاجة العصر وكيفما توراثتها الأجيال ” إلا من رحم ربي”، لذلك تصبح تلك الاهتمامات سلوكيات وعادات تمارس في منظومات سكانية مبعثرة فتسيس وتبرمج على دين الملوك والحكام فتشرعن في دساتير وأنظمة وقوانين لا تمت للإنسانية بصلة.
الفساد الأخلاقي في التعامل مع المحيط ” البشري” أحد الأسباب التي لم تستطع الدول العربية ” المسلمة” التخلص منه في تكوين مساراتها أو الارتقاء “بقطعانها” بل زادت الفجوة واتسعت لتشكل صعوبة في ردمها، وما نراه اليوم وسيتجدد غدا الكثير والخطير من صنوف استغلال الضعفاء، وذلك الفساد سيؤدي إلى اقتتال دموي بهدف توسعة الحدود وتمدد السيطرة ونهب ثروات الإنسان البسيط وجعله عبداً طائعاً صانعًا للطواغيت، فأصحاب القرار يتقاتلون في توريث المناصب وتقاسم الثروات فيما بينهم بينما هناك من يبحث عن العدالة التي دفنت حية ولم يستطع شم رائحتها أبدا، فهناك دول تتساقط بينما ولاة الأمر يحتفلون ويرقصون بوضع المساحيق وذر الرماد على العيون فيجندون ويجيشون المداحين والمهرولين والببغاوات.
أليس فيكم رجل رشيد؟
هذا هو المطلب الأساسي، رجلٌ رشيد يقف ويلملم ما تبعثر من الأمة العربية.. رجلٌ لا يدّعي القومية وإنما تجري في شرايينه.. رجلٌ لا يخاف في الله لومة لائم.. رجلٌ لا يريد توريث المنصب أو تكديس الثروة أو الاعتلاء على اكتاف البسطاء.. رجلٌ يوقف الانقسامات ويحافظ على ما تبقى لهذه الأمة من أمجاد.. رجلٌ يُزكّى بأخلاقه لا بحسبه ونسبه.
أحيطو أنفسكم بالأقوياء .. ازرعوا في محيطكم العدالة .. أخلصوا النية لتربة أوطانكم.. أسعدوا من حولكم .. حرروا ذواتكم من الكذب والنفاق.. اغسلوا قلوبكم وأفئدتكم بماء السماء.. ولا تعيدوا تاريخ ملوك الطوائف الذين فرّطوا في إرثهم.
همسة:
لعلّ المعاناة هي الرحم.. فكل شيء يولد من ذات الرحم .. عفواً .. عفواً يولد أو يُوأد في طور العلقة فيتشكل مسخاً..
هكذا كانت “القابلة” تهذي : ” لا أتقبله لأنه ليس إلا كهلاً يبحث عن منسأة ..
ومع كل زفرة تصرخ الحياة: “انزعوا سترة النجاة عنه.. وقرّبوا له كفنه !”
فترد القابلة: “إنه المخاض .. والرأس في غير اتجاهه.. والولادة متعسّرة نحتاج إلى زخات الأوكسجين .. لنتفادى الناسور وآلام الانقباض.. وفقدان الجنين!”